شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية 2015-12-01
 

السوخوي 24: كيف تحوّل الكمين إلى كمين مضادّ؟ دع خَصْمَك يخطئ!

نصار إبراهيم - البناء

وصفت بعض الأوساط إسقاط طائرة السوخوي الروسية بأنه كمين أعدّته ونفذته تركيا لإهانة وإحراج وتوريط روسيا، ولكن هل يمكن أن يصبح الكمين كميناً مضاداً! بمعنى أن يسقط فيه من أعده؟

هناك شيء ما يحتاج إلى تدقيق واختبار، فهل من المعقول أنّ أردوغان لم يكن يدرك حجم وخطورة المغامرة التي أقدم عليها بإسقاط الطائرة الروسية؟

ألا يعرف أردوغان مثلاً حجم المصالح التركية المتشابكة مع روسيا!؟

في تقديري أنّ هذا غير منطقي وغير عقلاني، وإلا يصبح ضرباً من الجنون، وبالتالي من غير الممكن أن لا يتوقع أردوغان وحكومته ردّ فعل يعادل حجم روسيا ووزنها كقوة عالمية عظمى!

فالمصالح التركية مع روسيا من الوضوح بحيث لا يمكن إلا أن تكون حاضرة عند اتخاذ أيّ قرار سياسي أو اقتصادي مهما كان صغيراً، فما بالنا بقرار يرتقي إلى مستوى الاشتباك المسلح المباشر وإسقاط طائرة روسية أمام كلّ العالم!؟

وبعرض كثيف وسريع لحجم المصالح التركية مع روسيا يصبح التساؤل وما بعده واضحاً.

كانت العلاقات الروسية التركية تتجه نحو شراكة استراتيجية، وكان العمل جارياً على زيادة حجم التبادل التجاري ليصل إلى مستوى 100 مليار دولار بحلول العام 2023، بعدما بلغ في العام الماضي 31 مليار دولار، ووصل إلى 18.1 مليار دولار للأشهر التسعة الأولى من العام الحالي… كما أنَّ روسيا تُعتبر أهمّ مورِّد للغاز الطبيعي لتركيا أكثر من نصف وارداتها من الغاز الطبيعي، و12 في المئة من الواردات النفطية ، كما أنَّ تركيا تُمثِّل ثاني شريك تجاري لشركة الغاز الروسية «غازبروم» بعد ألمانيا وخامس شريك تجاري لروسيا بحصة تبلغ 4.6 في المئة من إجمالي التجارة الخارجية الروسية بحسب بيانات إدارة الجمارك الروسية ما بين كانون الثاني وأيلول من العام الحالي ، فضلاً عن أنَّ تركيا تُعدُّ الوجهة الأولى للسيّاح الروس، إذ وصل، في العام 2014، حوالي 3.3 ملايين سائح روسي إلى تركيا أدخلوا حوالي 36 مليار دولاراً أميركياً إلى تركيا العام . ذلك إلى جانب مشروع محطة «أك كويو»، أوَّل مشروع محطة نووية في تركيا، يتضمّن بناء أربعة مفاعلات بقدرة 1200 ميغاوات. في العام 2014، استوردت تركيا حوالي 30 مليار متر مكعّب من الغاز الطبيعي عبر خطّ أنابيب «السيل الأزرق» إلى تركيا، التي يبلغ استهلاكها السنوي حوالي 50 ملياراً… وخلال زيارته إلى أنقرة، العام الماضي، في خضمّ أزمة العلاقات بين روسيا والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، أعلن الرئيس الروسي إلغاء مشروع مدّ خط أنابيب «السيل الجنوبي»، الذي كان يهدف إلى نقل الغاز الروسي إلى أوروبا الشرقية والوسطى، عبر خط أنابيب يمرّ بالبحر الأسود وبلغاريا والمجر وصربيا والنمسا وسلوفينيا، معلناً، في الوقت ذاته، البدء بمشروع مدّ «السيل التركي»، الذي يهدف إلى بناء خطوط أنابيب لنقل الغاز الروسي إلى تركيا عبر قاع البحر الأسود ومنها إلى الحدود التركية ـ اليونانية، ما يسهّل إمداد دول الاتحاد الأوروبي بالغاز الروسي. ومن المتوقع أن تبلغ القدرة التمريرية لـ«السيل التركي» نحو 63 مليار متر مكعب من الغاز سنوياً إلى تركيا، لتعيد الأخيرة ضخّ 47 مليار متر مكعب منها سنوياً إلى أوروبا» المصدر: ملاك حمود – السفير اللبنانية 26 تشرين ثاني 2015 . أمام هذه الحقائق، كيف ولماذا قام أردوغان بإسقاط السوخوي الروسية بما يعنيه ذلك من مغامرة ستعني وضع كلّ هذه المصالح في مهبّ الريح، أو على الأقلّ ستصيبها في الصميم وبأضرار بالغة؟

إذن على ما يبدو أنّ ما دفع تركيا إلى هذه المغامرة أو بصورة أدقّ المقامرة هو أنّ أردوغان قد راهن على أنّ هذه المواجهة ستفتح أمامه أبواباً كانت مغلقة، كما ستحمي مشاريع وبدائل يعتبرها أكثر جدوى من كلّ ما تجنيه تركيا من علاقاتها الاقتصادية مع روسيا، وبالتالي ستشكل تعويضاً عن كلّ خسائرها المحتملة!

فما هي تلك البدائل أو التوقعات التي شكلت الدافع العميق لكي يلعب أردوغان ورقته هذه على طاولة المقامرة؟

بقراءة أكثر هدوءاً وبالعودة إلى السياقات يمكن تحديد بعض الرهانات التي يمكن أن تشكل تبريراً منطقياً لهذه المقامرة الخطرة:

ـ توقع أردوغان أنّ ردّ الفعل الروسي ومهما كان لن يصل إلى الحرب المباشرة… ومما يعزز من هذه الفرضية أنه بقدر ما لتركيا من مصالح اقتصادية في روسيا فهي تعني من الجانب الآخر أنها مصالح روسية أيضاً، وبالتالي فإنّ ردود فعل روسيا ستبقى محكومة بقيود وضغوط تلك المصالح المتشابكة مع تركيا، وفي ضوء ذلك لن تسعى إلى مواجهة مفتوحة مع تركيا ومن خلفها حلف شمال الأطلسي، وبناء على ذلك تأتي النقطة الثانية.

ـ توقع أردوغان أنّ تحدّي روسيا بصورة مباشرة وخاصة جوهرة تاجها أيّ الجيش الروسي سيشكل رسالة هائلة التأثير ستفتح لتركيا بوابات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي الذي وقف عاجزاً أمام الخطوات الروسية الهجومية في أوكرانيا وسورية… وبهذا تبرهن تركيا على أنها ندّ كبير وقوة دولية بمقدورها أن تتحدّى دولة بوزن روسيا دون أن يرفّ لها جفن، حينها كيف سيمانع الاتحاد الأوروبي في ضمّ دولة لها كلّ هذه الجرأة والهيبة!؟

ـ توقع أردوغان أنّ تحدّيه المباشر لروسيا سيشكل فرصة للولايات المتحدة وحلف الناتو، عبر التقاط اللحظة وتوظيف التحدّي التركي لضبط إيقاع الدخل الروسي ليكون تحت السقف الذي تحدّده أميركا، ولهذا راهن أردوغان على أنّ أميركا وأوروبا سيشكلان غطاء سياسياً وعسكرياً قوياً في مواجهة الغضب الروسي، وكلّ هذا سيتحوّل في النهاية إلى ربح صاف لأردوغان إقليمياً ودولياً.

ـ يعكس هذا التحدّي بالنار حجم وخطورة الأحلام التي تدغدغ عقل زعامة حزب العدالة والتنمية وذاكرته المسكونة بالعثمانية بما في ذلك توهّم القدرة على اقتطاع أجزاء من سورية كمنطقة عازلة في الواقع منطقة قوة ونفوذ تركي لتصبح ساحة خلفية لتركيا بما يعنيه ذلك في المحصلة من تحوّل تركيا من لاعب عادي إلى قوة مقرّرة وحاسمة في سورية وفي مستقبلها، وهذا المشروع كان واضحاً منذ خمس سنوات… ولهذا، وبعد أن باتت اللقمة في الفم جاء التدخل الروسي الذي يهدّد بقلب الطاولة وتحويل كلّ ذلك إلى كومة أحلام محترقة، حجم هذا التهديد للأحلام الأردوغانية الأمبراطورية ألا يستدعي رداً يوازيه!؟

ـ مشروع أردوغان في سورية هو مجرد رأس جسر لمشروع تركي أكثر عمقاً وخطورة ركيزته إعادة الاعتبار لحركة «الإخوان المسلمين» كقوة لا يمكن تجاوزها، وخاصة بعد أن تلقت ضربات قاسية في مصر وتونس وليبيا وتقاتل بيأس في اليمن، بهذا المعنى تسعى تركيا وبكلّ قوتها لكي تستعيد حركة «الإخوان المسلمين» مقارنة بالمجموعات الإرهابية المتطرفة مثل «داعش» و»القاعدة» و»النصرة»، التي جرى العمل على تضخيمها ومن ثم شيطنتها بعد أن باتت تهدّد من أطلقها دورها كخيار استراتيجي وكقوة إسلامية معتدلة مقبولة إقليمياً ودولياً، وبهذا تعود اللعبة إلى بدايات الأحلام التي رافقت ما يسمّى بـ»الربيع العربي» وهذا يأتي منسجماً مع الرؤية الأميركية والأوروبية و»الإسرائيلية» وعربان الخليج، تحقيق هذا الهدف يعني تحشيد العالم السني في مواجهة إيران وحصارها.

مع التدخل الروسي وبهذا الحسم والقوة أدرك أردوغان أنّ أحلامه بأن يكون سلطان العالم السني تكاد يتهاوى، وبالتالي فإنّ هدفاً بهذا الحجم… يستحق المغامرة لعلّ وعسى أن تتوقف الاندفاعة الروسية.

ـ وفي النهاية، كان أردوغان يعرف أنّ تصدّيه لروسيا وتحدّيه لها سيجعل من تركيا رأس حربة مما سيفتح له خزائن العديد من مشيخات الخليج، سواء طوعاً أو كرهاً، ذلك لأنهم لا زالوا يحلمون ويتمنّون هزيمة سورية من أجل الحفاظ على حقبة النفط سياسياً واقتصادياً وثقافياً وسلوكياً وإعادة روسيا إلى حدودها.

ألا تغري كلّ هذه الدوافع والحقائق بجدوى المغامرة أو المقامرة!؟

ولكن يبقى السؤال: ماذا لو جاءت حسابات البيدر معاكسة لأحلام وتوقعات الحقل!؟

لقد بدأت روسيا بمسلسل عقابها المتدرّج والقاسي بدءاً بوقف العلاقات العسكرية بما في ذلك الخط الساخن، إضافة إلى نشر منظومات صواريخ أس 300 وأس 400، ومرافقة طائراتها القاذفة بطائرات حماية، وقصف مجموعات أردوغان الإرهابية حتى المسافة صفر من الحدود التركية، مروراً بدعوة ملايين السياح الروس بعدم التوجه إلى تركيا وتجميد عدد من المشاريع المشتركة، وفوق كلّ ذلك تصنيف تركيا كدولة داعمة للإرهاب وتصعيد روسيا لحربها وبصورة أكثر حسماً ضدّ جميع المجموعات الإرهابية في وسورية والتي لا ترى فيها أيّ جماعة معتدلة، والتأكيد على أنّ الجيش السوري هو الوحيد الذي يحارب «داعش» والإرهاب على الأرض وسيتلقى كلّ الدعم من روسيا.

مقابل هذه الإجراءات… وبعد أن انتظر أردوغان مدة 48 ساعة حيث بقيت لغته متغطرسة إلى أبعد الحدود، لكنه مع مرور الوقت وأمام برود أو صمت العالم والحلفاء، بدأ يشعر بخطورة الورطة التي وضع نفسه فيها، لقد بات يشعر بأنه هو الذي وقع في الكمين وليس روسيا، بمعنى وكأنّ روسيا هي التي أغرته بإسقاط السوخوي لتلقنه درساً لن ينساه، والروس كما هو معروف شهيرون جداً في لعبة الشطرنج التي من أحد استراتيجياتها: دع الخصم يخطئ، ثم هاجم،

لهذا عندما وجد أردوغان نفسه شبه وحيد في مواجهة رياح موسكو القاسية وغضب دببتها العنيف، بدأت لهجته بالتراجع… وصولاً إلى إعلانه أنه يحاول الاتصال بالرئيس بوتين لكن الأخير لا يستجيب، وأيضاً حين ألمح أنه لم يتلقّ طلباً روسياً بالاعتذار وكأنه يتمنّى على بوتين أن يطلب منه الاعتذار .

خلاصة القول لقد تبيّن أنّ الإزاحة في المعادلات الكونية والإقليمية أكبر وأعمق بكثير من حسابات وأحلام أردوغان المتذاكية التي باتت أكبر من حجمة وقوته بكثير، ولهذا سيدفع الثمن، وأعتقد أنه لن يجد التعويض الذي توقعه، فالعالم غير مستعدّ للذهاب إلى حرب كونية كي يحقق السلطان التركي أحلامه وخيالاته الفقيرة.


 

جميع الحقوق محفوظة © 2024 -- شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه