إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

"قناصة الفكر"!

أحمد أصفهاني

نسخة للطباعة 2016-09-13

إقرأ ايضاً


كنا، في زمن جميل غابر، نلتقي رفقاء ومواطنين في حلقات بحث ونقاش حول مسائل فكرية وسياسية من منطلق فهمنا للعقيدة القومية الاجتماعية وإيماننا بها نظرةً جديدةً شاملةً إلى الحياة والكون والفن. الحوار الحر المفتوح يشرّع أمامنا آفاقاً لا تُحد إلا بالمبادئ التي هي قواعد لانطلاق الفكر، والأداة المستخدمة في الحوار هي العقل بوصفه الشرع الأعلى للإنسان.

وفي مثل تلك الحلقات الفكرية الثقافية، من الطبيعي أن تتنوع الآراء حتى ولو انبثقت من منهجية واحدة. وكثيراً ما ظهرت "اختلافات" في جوانب من وجهات النظر المطروحة حول عدد من المسائل. غير أننا في مطلق الأحوال، كنا نعتصم بآداب الاختلاف ومناقبية البحث، والأهم من ذلك كنا نهتدي بغاية تلك الحلقات اعتماداً على أن مصلحة الأمة السورية فوق كل مصلحة. ذلك أنه لا معنى لأي بحث أو حوار أو نقاش إذا لم يكن لتحقيق هدف معين يوسّع مداركنا القومية ويغني حياتنا الاجتماعية العامة. وأتمنى أن يُتاح لي الوقت لأسجل واحدة من أهم التجارب الإذاعية التي عايشتها سنة 1974 في اللجنة الإذاعية المركزية بإشراف الأمين الجزيل الاحترام هنري حاماتي بوصفه عميداً للإذاعة في تلك الفترة.

ذلك كان في زمن جميل غابر! أما اليوم فقد وصلنا إلى أيام عجاف لا يأمن الواحد منا من أن يواجه فيها "قناصة الفكر" الذين يتربصون بالآخرين لإيقاعهم في كمائن قاتلة. سلاح هؤلاء التشهير والتحقير تحت ألف ستار وستار، وحافزهم حقد أسود يتآكل نفوسهم ويريدونه أن يمحق كل جميل وخيّر في الوجدان القومي الاجتماعي. بعض هؤلاء "القناصة" غير مهتمين بتحقيق أية غاية، مهما كانت، وإنما هم مجرد رصاصات طائشة هدفها الأساسي والنهائي القتل العشوائي. "القناصة" لا يفرقون بين عدو وصديق، بين مذنب وبريء، كل ما يرونه من خلال مناظيرهم المقربة هدف يتحرك لا يفصله عن الموت سوى ضغط الأصبع على الزناد.

لذلك اتخذت عهداً على نفسي، منذ أن بدأنا مع بعض الرفقاء تبادل الأفكار عبر مقالات توزع على لائحة محدودة من عناوين القوميين وأصدقائهم المقربين جداً، أن لا أدخل مع أحد في نقاش قد يتخذ طابعاً شخصياً. ذلك أن شخصنة الحوار ستؤدي حكماً إلى المشاحنة البغيضة المسيئة لكلا الطرفين، خصوصاً في زمن انفلات عقال وسائط الاتصال الاجتماعي. ومع ذلك، كنت أتجاوز تلك القاعدة الذهبية في أحيان نادرة عندما تُثار مسألة فكرية تستحق بالفعل أن يتم التعامل معها بوضوعية رصينة بعيدة كل البعد عن الشخصنة. وهذه واحدة من المرات النادرة.

وزّعت قبل مدة مقالين بعنوان "حزب سعاده والمعارضة" تناولت فيهما بالنقاش معنى عبارة "حزب سعاده" ومدى انطباقها على الحزب السوري القومي الاجتماعي بعد استشهاد الزعيم، ثم طبيعة "المعارضة" في الأحزاب العقائدية ومنها الحزب السوري القومي الاجتماعي. وقد ردّ أحد الرفقاء المحترمين (لا داعي للأسماء حتى لا نقع في مرض الشخصنة المقيتة) على هذين المقالين عارضاً مجموعة من النقاط التي قد نوافق على بعضها وقد نختلف... وهذا من طبيعة ومستلزمات الحوار الفكري الراقي. لكنني سأتوقف عند مسألة واحدة أرى من المفيد أن نشرّحها بتفصيل أعمق.

في المقال الثاني طرحت السؤال التالي: "هل توجد معارضة في الأحزاب العقائدية؟". وقد أورد الرفيق المحترم صاحب الرد التعليق التالي: "يتبين لنا أن السيد أحمد أصفهاني يضع الحزب السوري القومي الاجتماعي في سلة واحدة مع الأحزاب العقائدية الأخرى، علماً أن الحزب السوري القومي الاجتماعي، الحزب العقائدي، يتفرد بنظرته ونظامه ودستوره وقوانينه...". ومرّة أخرى سأفكك العبارة السابقة إلى قسميها المتكاملين: "أن السيد أحمد أصفهاني يضع الحزب السوري القومي الاجتماعي في سلة واحدة مع الأحزاب العقائدية الأخرى". ثم "أن الحزب السوري القومي الاجتماعي، الحزب العقائدي، يتفرد بنظرته ونظامه ودستوره وقوانينه...". (أحب أن أضيف هنا أيضاً، وبالتخصيص، تميّز الحزب بمناقبيته السامية).

لا خلاف بيني وبين الرفيق المحترم صاحب الرد أو أي رفيق آخر على أن الحزب يتفرد بنظرته ونظامه ودستوره وقوانينه ومناقبه... وإلا لما كنا قد آمنا بالعقيدة القومية الاجتماعية وانتمينا إلى الحزب واتخذنا مبادئه إيماناً لنا ولعائلاتنا وشعاراً لبيوتنا. هذا أمر محسوم تماماً ومن تحصيل الحاصل، وأي خلل أو شك أو سوء ممارسة يعني ببساطة الحنث بالقسم والسقوط خارج مسيرة النهضة القومية.

يبقى القسم الأول من ردّ الرفيق المحترم، أي ما فهمه من أن سؤالي "هل توجد معارضة في الأحزاب العقائدية؟" يعني وضع الحزب السوري القومي الاجتماعي في "سلة واحدة مع الأحزاب العقائدية الأخرى"! ولنسلم جدلاً بأنني قصدت هذه الفكرة بالفعل، فما الضير في الأمر؟ وهل توجد مخالفة عقائدية في اعتبار الحزب واحداً، وإن مميزاً، من الأحزاب العقائدية الأخرى المنتشرة حول العالم؟

فلنعد إلى سعاده نفسه. من أقوال الزعيم المشهورة العبارة التالية: "الحرية هي صراع العقائد في سبيل تحقيق مجتمع أفضل وحياة مثلى". أي أنه توجد عقائد متنوعة في العالم تتصارع لكن نحو الأفضل، وصراعها يعني بلوغ مدارج الحرية الإنسانية بأرقى مضامينها. وبما أن هناك عقائد متنوعة متصارعة، فهذا يستدعي بالضرورة وجود أحزاب تؤمن بتلك العقائد وتصارع بها... فتسمى أحزاباً عقائدية. وأراني مجبراً هنا على الاستعانة بمفردات علمية لتوضيح ما أقصد. يتحدث العلماء عن الحيوانات الثديية، وهي نوع عام تندرج ضمنه فصائل مختلفة من أمثال الحيتان والأبقار والأسود... وغيرها. وكما هو ملاحظ، بعضها يسبح وبعضها يمشي وبعضها يأكل البعض الآخر! ويصف العلماء الإنسان بأنه "حيوان ناطق" كونه يشترك مع القرد والحمار والذئب وغيرها من الحيوانات بمواصفات بيولوجية محددة، غير أن الإنسان يمتاز عنها بقدراته العقلية والنطق، فهو يتكلم ولا يهمدر أو ينهق.

الحزب السوري القومي الاجتماعي يدخل في نوع الأحزاب العقائدية المتشعبة، لكنه يمتاز عنها بعقيدة تختلف عن العقائد الأخرى في مناحي متعددة. نشر سعاده في جريدة "الزوبعة" بتاريخ 15 حزيران سنة 1942 مقالاً بعنوان "العقيدة السورية القومية الاجتماعية وبحث الديمكراتية عن عقيدة"، استعرض فيه أزمة "العقائد" الأوروبية وقارنها بما جاءت به العقيدة السورية القومية الاجتماعية. لم يجد الزعيم أي حرج في إدراج عقيدتنا القومية الاجتماعية في سياق حديثه عن العقائد الأوروبية، طالما أنه في نهاية المطاف سيصل إلى غايته من المقال وهي العبارة التالية: "مما لا شك فيه أن النظريات الاجتماعية الاقتصادية من كارل ماركس وأنغلز إلى الاجتماعيين الاقتصاديين الجدد قد ألقت نوراً قوياً على مشاكل المجتمع الإنساني الاقتصادية. ولكن الاشتراكية لم تتمكن من حل القضايا الإنسانية الاجتماعية المعقدة. وعند هذه النقطة يبتدئ عمل الدماغ السوري الغني بالخصائص النفسية. ومن هذه النقطة تبتدئ الفلسفة السورية القومية الاجتماعية التي تقدم نظرات جديدة في الاجتماع بأشكاله النفسية والاقتصادية والسياسية جميعها".

إذا قلنا إن الحزب السوري القومي الاجتماعي هو حزب عقائدي، وإن الحزب الشيوعي هو حزب عقائدي، وإن "جماعة الإخوان المسلمين" هي حزب عقائدي، إنما نكون قد أعطينا وصفاً واسعاً للنوع الذي ينتظمها جميعاً. فقط عندما نتمعن في كل واحد منها على حدا أو مقارنة بالآخرين نكتشف ذاتيتها الخاصة التي تضعها في مصاف مميز تنفرد به. يصف سعاده في رسالة إلى سلمى صايغ في النصف الثاني من سنة 1936 الحزب بأنه "هيكل حيّ تام قابل النمو". لذلك يخطئ، بل هو يُجرم بحق الأمة على مدى أجيالها، من يعتقد بأن قيامنا برهبنة الحزب في برج عاجي وعزله عن سياقه التاريخي السياسي الاجتماعي الفكري يمكن أن يمنحه قيمة خاصة مُضافة. أبداً، بتاتاً. عظمة العقيدة القومية الاجتماعية أنها نشأت في خضم تضارب العقائد في سوريا والعالم العربي والعالم، وما تزال، فأوجدت من قلب الفوضى والتشرذم والانحطاط والفردية "مجتمعاً جديداً في نظرته إلى القيم الاجتماعية وفي حركته ونشاطه وعاداته وتقاليده (...) فالسوريون القوميون الاجتماعيون يجاهدون، ولهم عقيدة كلية تشمل جميع مناحي الحياة الاجتماعية، وترتفع في مُثل عليا غير متناهية". (سعاده)


 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024