إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

ماذا لو لم يكن الثامن من تموز؟

أحمد أصفهاني

نسخة للطباعة 2017-02-19

إقرأ ايضاً


"وهذه منزلة لا يمكن بلوغها إلا بالاتصال بنظرة جديدة إلى الحياة والكون والفن مشتملة على حقيقة أساسية صالحة لإنشاء عالم جديد من الفكر والشعور، إذا لم يكن هو العالم الأخير، الأسمى على الإطلاق، عند المشككين، فهو عالم فوق العوالم الماضية ودرجة لا بد منها لاطراد ارتقاء الإنسانية النفسي. ولذلك هو عالم خالد، لأن ما سيأتي بعده في الآماد البعيدة سيصدر عنه ويثبت نفسه عليه، أو على الأقل، ستكون النفوس التي ارتقت إلى هذا العالم الجديد مستعدة لاقتبال عالم أجد، إذا كشف مخبآت ألأبد أنه سيكون ممكناً أحداث ذلك العالم، الذي لا يمكننا، الآن وإلى أمد بعيد، تصور موجباته وحقائقه وقضاياه، ولكننا نتصور، بموجب مبدأ الاستمرار والاطراد الفلسفي، الذي أضعه نصب عيني في فهمي الوجود الإنساني، أنه لا بد من أن يكون ذا اتصال وثيق بعالم نظرتنا الجديدة وحقائقه وقضاياه. كما أننا نرى، بموجب هذه النظرة، أن عالمها ليس شيئاً حادثاً من غير أصل، بل شيئاً غير ممكن بدون أصل جوهري تتصل حقائقه بحقائقه، فتكون الحقائق الجديدة صادرة عن الحقائق الأصلية القديمة بفهم جديد للحياة وقضاياها والكون وإمكانياته والفن ومراميه". سعاده "الصراع الفكري في الأدب السوري"

أتوقع أن يثير هذا العنوان، والفكرة المرتبطة به والتي سأطرحها أدناه، تعليقات استهجان ورفض من رفقاء ومواطنين كثر. وهو أمر أتقبله بكل رحابة صدر. ومع ذلك أراني مصمماً وشديد الحرص على المضي قدماً في هذا البحث، متقبلاً سلفاً كل ردود الفعل الآتية لا محالة. فالقصد الأساسي من إثارة هذه الفكرة هو فتح باب النقاش في مسألة تمسّ وتراً حساساً عند القوميين الاجتماعيين مهما اختلفت مواقعهم التنظيمية.

ماذا لو أن حكومة المجرمين بشارة الخوري ورياض الصلح وحبيب أبو شهلا ومجيد أرسلان لم تصادق صبيحة الثامن من تموز سنة 1949 على حكم الإعدام الصوري بحق أنطون سعاده مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي وزعيمه، وقررت بدلاً من رصاصات القتل أن تنزل الحكم إلى السجن المؤبد مثلاً؟ وماذا لو أن سعاده أمضى ما تبقى من سنوات حياته الدنيوية في سجون النظام اللبناني؟

ألم يكن من الطبيعي والمتوقع، في ظل مثل هذا الافتراض، أن يواصل سعاده في زنزانته إنتاج المزيد من العطاءات الفكرية، تماماً كما فعل في سجنه الأول وسجنه الثاني وسجنه الثالث بين 1935 و1937 حيث قدّم للأمة السورية والعالم العربي كتاب "نشوء الأمم" و"شرح المبادئ"؟

الطعن المبدأي الأول الذي أنتظره من بعض الرفقاء والمواطنين ينطلق من أن سعاده نفسه رفض المنطق الجدلي الذي واجهه عندما افترض أحد المواطنين أن جبلاً اندك على سطح القمر! لكن ردي على ذلك هو أنني لا أتحدث عن افتراض لا أساس مشابهاً له على أرض الواقع، بل أرى من المناسب جداً أن نضع نصب أعيننا تلك الفكرة الافتراضية ثم نتخذها منطلقاً لطرح تساؤلات لا تختلف كثيراً عن تلك التساؤلات المعرفية التي واظب سعاده طيلة حياته على تحدي العقل القومي الاجتماعي بها.

السؤال المفصلي الناشئ عن الفكرة المذكورة أعلاه هو التالي: هل ختمت رصاصات الإعدام في الثامن من تموز سنة 1949 أبواب العقيدة القومية الاجتماعية، فأصبح المؤمنون بها مجرد طائفة منغلقة على ذاتها تكتفي فقط باستعادة تراثها في ظل تطورات قومية وعالمية متسارعة؟ ويتفرع عن هذا السؤال سؤال آخر مهم: هل تقتصر النظرة السورية القومية الاجتماعية إلى الحياة والكون والفن على ما أنتجه سعاده والمفكرون القوميون الآخرون بين 1932 و1949؟

ترك لنا سعاده المبادئ التي هي قواعد لانطلاق الفكر، وعلمنا أن العقل هو الشرع الأعلى الذي لا تحده حدود دينية أو دنيوية. ثم أطلق عقولنا من قيود التقليد إلى رحاب الإبداع. ولأنه كان يتحرك في مرحلة تأسيسية مصيرية، فقد حرص على تنمية العقل القومي الجمعي من خلال إنشاء الندوة الثقافية المركزية لتكون حاضناً ومختبراً لذلك العقل. فلا أحد بحد ذاته يملك مفاتيح جنات العقيدة، ولا أحد بحد ذاته هو القيّم المهيمن على عقول القوميين الاجتماعيين، ولا أحد بحد ذاته يحتكر الكلمة الفصل في ما هو صحيح أو غير صحيح من أعمالنا الفكرية. وطالما أننا ننطلق من المبادئ، ونحكّم العقل الجمعي، ونهتدي بمصلحة سوريا التي هي فوق كل مصلحة... فلا خوف علينا من الشطط!

الفكر القومي الاجتماعي هو نظرة جديدة إلى الحياة والكون والفن. إنها نظرة تتعامل مع الواقع غير الساكن، بل والمتطور أبداً. الدولاب الذي أنتجه عقلنا العملي في الهلال الخصيب قبل أكثر من خمسة آلاف سنة لم يتغير مفهومه المبدأي حتى اليوم، وإن كانت آليات تحريكه واستخدامه المعاصرة ما كانت لتخطر على بال الذي صممه ودحرجه بالقوة البشرية أو الحيوانية للمرة الأولى في ما بين النهرين. والحرف الأبجدي الذي نُقش على الصخر للمرة الأولى في أوغاريت وسيناء ما زال هو نفسه في عصر الكومبيوتر والنصوص الإلكترونية. ولا شك عندي قط في أن العقل القومي الاجتماعي المنطلق من المبادئ قادر (بل ومجبر) على تقديم نظرته الخاصة في مسائل العولمة والشعبوية والديموقراطية التمثيلية... وغيرها من معضلات الحضارة الإنسانية في القرن الحادي والعشرين.

سعاده نفسه هو نتاج عصره ومجتمعه بقدر ما هو صانع عصره ومجتمعه في تلك المرحلة التاريخية. وأنا أؤمن بأنه كان سيترك لنا عطاء مميزاً لو أن العمر أتاح له الوقوف على الأحداث العاصفة التي مرّت بها أمتنا والعالم العربي والعالم في النصف الثاني من القرن الماضي. ومن هنا يأتي دورنا نحن المؤمنين بهذه العقيدة. فلننطلق من مبادئنا في رحاب الحياة، توجّه أعمالنا قيم الحق والخير والجمال، وتؤطر جهودنا مؤسسة ترعى العقل الجمعي وتصونه. فإذا أصبنا نكون قد أضفنا لبنة جديدة إلى البنية الحضارية لمجتمعنا السوري. أما إذا أخطأنا، فيأتي التصويب والتصحيح من صميم وحدة الروح التي تميّز القوميين الاجتماعيين المنزهين عن الغرضية والفئوية والشخصانية.

يروي الأمين الراحل نواف حردان في مذكراته "على دروب النهضة" (صفحة 180) جوانب من لقائه حضرة الزعيم في ضهور الشوير أبان المعركة الانتخابية سنة 1947، عندما تقرر إصدار بيان خاص لمنطقة الجنوب اللبناني. فقد قال حردان لحضرة الزعيم: "ألا يتكرم حضرة الزعيم بكتابة هذا البيان أو باملائه علي؟" فكان جواب سعاده شديد التعبير: "أتريدون أن يقوم الزعيم وحده بالأمور الكبيرة والصغيرة يا رفيق نواف؟ أجلس في الغرفة الثانية، واكتب البيان بنفسك ثم أطلعني عليه"!

سعاده أرادنا تلامذة مبدعين... لا أتباعاً مقلدين.


 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024