Warning: Undefined variable $PHP_SELF in /home/clients/61e9389d6d18a99f5bbcfdf35600ad76/web/include/article.php on line 26
SSNP.INFO: سعاده الفيلسوف للدكتور كمال يوسف الحاج
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية 2018-01-12
 

سعاده الفيلسوف للدكتور كمال يوسف الحاج

الامين لبيب ناصيف

بتاريخ 21/12/2017 نشرت "البناء" تحت عنوان "كمال الحاج مستعاداً في جامعة "سيدة اللويزة" الخبر التالي:

" بدعوة من «مؤسّسة الفكر اللبناني» واتّحاد الكتّاب اللبنانيين»، أقيمت في جامعة «سيّدة اللويزة»، ندوة بعنوان "مرتكزات الفكر السياسي في رؤية كمال يوسف الحاج".

كلمة ترحيبية من رئيس «مؤسّسة الفكر اللبناني» الدكتور أمين آلبرت الريحاني، وأخرى من أمين عام «اتّحاد الكتّاب اللبنانيين» الدكتور وجيه فانوس. واستُهلّت أعمال الندوة التي أدارتها الدكتورة أميرة المولى بدراسة قدّمها الدكتور ربيع الدبس عن الالتزام السياسي والاجتماعي في فكر كمال يوسف الحاج، تلتها مداخلة للدكتور ناصيف قزّي بعنوان «أبعاد الفكر السياسي اللبناني عند الحاج»، فمداخلة للوزير الأسبق بشارة مرهج عن موقف الحاج من الفكر العروبي. ثم كانت أسئلة للحضور وأجوبة للمنتدين اتبعته بنص الدراسة التي كان قدمها الامين الدكتور ربيع الدبس".

هذا ما جعلني اعود بذاكرتي الى النشاطات الحزبية الكثيرة التي كانت تقام في "بيت الطلبة" في الفترة (1957 – 1959)، ومنها المحاضرتين اللتين القاهما الدكتور كمال يوسف الحاج، احداهما بعنوان "سعاده ذلك المجهول" والاخرى بعنوان "سعاده الفيلسوف".

واذكر ان قاعات البيت، كانت تضيق بمئات الطلبة الجامعيين والثانويين من رفقاء ومواطنين.

كان بيت الطلبة يقع في الطابق الارضي من بناية، في مواجهة سينما "الخيام" حالياً، واذكر ان في المقابل كانت تقطن عائلة الرفقاء حريق: نجيب، لور والهام. وفي الجوار، منزل الامين رضا كبريت وعلى بعد مئة متر تقريباً منزلي الامينين انعام رعد وعجاج المهتار.

من المعروف ان استاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانية الدكتور كمال يوسف الحاج، كان من مناصري "القومية اللبنانية". في الخمسينات كان اقترن من الاديبة ماغي الاشقر، نسيبة الامين اسد الاشقر. قرأ سعاده جيداً، وكتب فيه محاضرتين اشرنا اليهما اعلاه، واذكر ان مجلة "المجلة"(1) نشرت المحاضرتين، ثم أعادت نشرهما مجلة "الثقافة"(2).

عن مجلة "الثقافة" ننقل النص الكامل للمحاضرة بعنوان "سعاده الفيلسوف"، لمن يرغب في الاطلاع:

الانسان العشريني انسان احاطة... انسان لهيف العقل الى الكلية... انسان غوال لا يرضيه الجزيء. انه الكائن الاوحد التواق الى المعرفة. ولا معرفة الا تلك التي تشمل، فتربط الخاص بالعام، غامرة هكذا كل ظواهر المادة ومظاهر النفس. المعرفة المعرفة هي دائماً معرفة شاملة.

الطاولة، هي في حد ذاتها، ليست معرفة. هي جزء من كل. هي فردية منكمشة. قد تكون، في حد ذاتها، وقد لا تكون، الذي ينبئني انها كائنة – في حد ذاتها – او غير كائنة، هو الحكم الصادر عليها من قبل الانسان. حين تربط بالانسان، فيحكم عليها بانها كائنة – في حد ذاتها – او غير كائنة (اي حين يربط خاص الطاولة بالانسان الذي هو اشمل منها واعم) حينذاك ينقلب واقعها حقيقة... وحينذاك فقط تصبح الطاولة معرفة، ولا معرفة خارج الغاية.

والانسان، في حد ذاته، ليس معرفة. هو جزء من كل. هو فردية منكمشة. قد يكون، في حد ذاته، وقد لا يكون. الذي ينبئني انه كائن – في حد ذاته – او غير كائن، هو الحكم الصادر عليه من قبل المجتمع المحيط به. حين يربط بالمجتمع، فيحكم عليه بأنه كائن – في حد ذاته – او غير كائن (اي حين يربط خاص الانسان بالمجتمع، الذي هو اشمل منه واعم) حينذاك ينقلب واقعه حقيقة... وحينذاك فقط يصبح الانسان معرفة. اذ المجتمع هو غاية الانسان، ولا معرفة خارج الغاية.

المعرفة المعرفة، اذن، هي التي تشمل. هي التي تغمر الوجود كله في ضمة واحدة. هي التي تتناول ابرتها السماء والارض في قطبة واحدة. هي نظرة شاملة في الله، والانسان، والطبيعة. هذه المعرفة الحقة لا تقبل بالجزئي. لا تقبل بالمكسر، هي نمط خاص كي يصير عاماً. هي وحدة زخم يحتضن كل شيء جملة واحدة. تلك هي الفلسفة الخالصة. يقولون نحن في زمن الاقتصاد. اجل، نحن في زمن الاقتصاد. ويقولون نحن في زمن الاجتماع. اجل، نحن في زمن الاجتماع. ويقولون نحن في زمن السياسة. اجل، نحن في زمن السياسة. ولكننا، قبل كل شيء، في زمن الفلسفة. ان عصرنا هو عصر النظرة الشاملة في الامور. هو عصر استعلاء الفكر بفكرة الى الواحد الاحد، هو عصر العقيدة. الاقتصاد، والاجتماع، والسياسة ابواب من المعرفة. اجل، نحن في كل منها، كباب من ابواب المعرفة. يبقى ان المعرفة ذاتها ليست ابواباً مفكفكة... مخلعة. يوم تجزأ المعرفة باباً باباً، فمن قبيل التيسير يقتضي التكسير. اما حقها الصافي، النقي، الخالص، فهو انها كالحلقة التي من حيث جئتها قالت لك هنا ألفي ويائي معاً... ان كلي هو في كل بداية وفي كل نهاية.

قد نصف الاقتصاد على انه باب من ابواب المعرفة. اذ ذاك يكون علماً. وقد نصف الاقتصاد على انه القاعدة الاساسية للمعرفة اذ ذاك يكون الفلسفة. واذ ذاك فقط يصبح الاقتصاد كبيراً. كل علم صغير مطت حروفه، فشمل وجمع، يصبح فلسفة في الوجود وما الفلسفة الا ذلك الاطلال الجامع الشامل، على مربعات الوجود. الفلسفة رعدة باطنية تنتاب الوجدان، مرة خلال العمر، في هنيهة مكوكبة، فينفتح العقل بها على مصاريعه، ليدرك ان العلوم البشرية المجزأة هي ذات مفتاح واحد.

اجل، كل شيء كبير هو الفلسفة. الادب الكبير فلسفة. الفن الكبير فلسفة. السياسة الكبيرة فلسفة. تلك هي المعرفة المعرفة. والامم الواعية هي الامم العارفة بكبر في الذات. هي الامم المتفلسفة. هي الامم التي تستشرف من على قضايا الوجود رمة. ان امة لا تتفلسف هي امة تتقزم. هي امة تتصعلك. هي امة تقنع بالزهيد. انها امة مملوكة، لا يقبلها التاريخ الاكبر، في قدس اقداسه. انها امة مدعوسة.

ولقد عرفنا الفلسفة، نحن، في هذه الرقعة من الارض. عرفناها تحت سمائنا، يوم جاء سعاده، وكانت الامة كلها ترتقب تلك الساعة الرائعة. عرفناها يوم نظر سعاده، وشمل، وعقد، فكانت النظرة الشاملة... كانت العقيدة. يومها كانت غاية عظمى، فعلت، فغيرت وجه التاريخ. يومها ولجنا ابواب عصر جديد، فكان عالم النور.

السياسة سياستان. واحدة عامودية هي الكبرى، وثانية افقية هي الصغرى. سعاده ما جاء ليتسيّس أفقياً. لقد كان كبيراً وكبيراً في سياسته. لقد تسيّس عامودياً. مثله كمثل النسر الذي يحلّق في الجو الفسيح. النسر لا يتأرض. النسر يمرح في شاهق المجرة. هكذا كان سعاده في سياسته. كان عملاقاً، وبطلاً، فشهيداً. كان ذا عقل فاهم، ونفس نيرة. لقد كان يغير من فوق، بل من فوق الفوق، على مساحب الزمان ومرابط المكان.

قال... القيمة الكبرى، هي في العقيدة، لا في العيش. ان العيش لا قيمة له. وما اكثر العائشين، بيننا، بدون عقيدة. يومها عرفنا الفلسفة. يومها قلنا، وسعاده هو المعلم، نحن نفكر في المسائل الكبرى. نحن نفكر في امور لا تخطر على بال المرشح النيابي. يومها وجدت الفلسفة عندنا. ومتى وجدت امة فلسفة لها، فقد وجدت حقوقها. ووجدت السبيل الى هذه الحقوق. لا معنى لامة لا تتفلسف. انها امة تابعة، لا امة متبوعة.

اجل، عرفنا الفلسفة يوم قال سعاده ان في حركتنا قضية عظيمة مقدسة. ونحن نثبت في هذه القضية العظيمة المقدسة. ونحن ننمو من اجل هذه القضية العظيمة المقدسة. ونحن، من اجل هذه القضية العظيمة المقدسة نحارب بالفكر... نحارب بالعمل... نحارب بكل وسيلة. وهل للحياة قيمة بدون قضية عظيمة مقدسة؟ بدون مبدأ؟ وبدون عقيدة؟ هل للحياة قيمة بدون مثل منشود؟ يومها عرفنا الفلسفة. يومها قال سعاده: "ما قصدت كره الاجنبي". اذ ليس من هنا ينبغي لنا ان نبدأ. البداية الكبرى ليست بغضاً او جريمة. البداية الكبرى هي في صهر العقائد المتنافرة... في سبكها نظرة واحدة تشمل كل فكرة... في صبها، ثم امتشاقها رؤية جامعة تغمر الوجود رمة. البداية الكبرى هي في الحرية البيضاء.. تلك هي المحبة. يومها وجدت الفلسفة عندنا. يومها ولدت، تحت سمائنا، وعاشت واستشهدت، وبذلك استخلدت. منذ تلك الساعة الرائعة، لم تعد المطامع الاجنبية قادرة على تفسيخ وحدتنا، وأضعاف قوانا.

يومها قلنا للاغيار، وبهدوء وشمم، ان فينا سراً عظيماً. يومها تأنسنت قوميتنا.

يومها ارتفعنا مع سعاده، كالصاروخ المجنح، الى حيث لا فوق فوق فوقه... الى الخزان العام التي تتفجر منه السويقات. من ذلك الخزان العام، يستمد صفة العبقرية والبطولة، الموسيقى النابغة، والاديب النابغة، والمربي النابغة، والمصور النابغة، والشاعر النابغة... والسياسي النابغة.

كل شيء كبير يستجلب فوراً من ذلك الخزان الصافي. كل شيء كبير يتعدى صغائر الامور الى القضايا الاساسية، التي تواجهها النفس الانسانية الراقية، المركبة، بما فيها من افكار، وشعور، ومطامح، وميول، ومثل... والى ما تتعرض له تلك النفس من الصراع العنيف، الخفي او المعلن، بين الاجمل والاقبح. بين الاسمى والاسفل بين الانبل والارذل.

من ذلك الخزان العام اغار سعاده ثانية على الحياة. لقد ارتفع اليه، واقتطع منه النظرة الفلسفية الجديدة الى القضايا الكبرى، المادية منها والروحية. الى القضايا الاجتماعية، والاقتصادية والنفسية والسياسية. ان كل نهوض سياسي لا يبنى على الفلسفة هو من عوامل التخريب لا التعمير. السياسة الكبرى تحتاج الى حافز روحي. هذا الحافز الروحي لا يكون خارج الشعور بوجود الخزان العام الذي هو شعور بوجود الانسانية. بدون هذا الحافز الروحي، الذي هو شيء حقيقي لا وهمي، تغدو السياسة الواناً تقليدية، استعارية، باهتة، لا نضارة لها، ولا رونق ولا شخصية. هنا، في الخزان العام... اعني في النظرة الفلسفية الشاملة.. نقطة الابتداء لطلب سياسة كبيرة، واشكال سياسية كبيرة.

اما فلسفة سعاده فبناء متماسك له سقف عال هو الجوهر (او السماء) وقاعدة راسخة هي الوجود (او الارض) وجدران اربعة هي القيم الانسانية الكبرى.. اعني الحرية، الواجب، النظام القوة. تلك هي الحقيقة.

السقف

السقف هو الجوهر. هو السماء. والسماء واحدة، لا سموات، والا ألغيت سماويتها. لا تعدد في الجوهر، من حيث هو، لانه ذو اقنوم بسيط. والبسيط لا يتجزأ. ثمة جوهر واحد، في كل الناس، هو الانسانية. اجل، هناك انسانية واحدة، لا انسانيتان... انسانية واحدة، هي ذاتها، في كل زمان وكل مكان. هي ذاتها عبر التاريخ. هذه الانسانية هي، عينها، وحدة الطبيعة البشرية الكائنة، في جميع الشعوب، وان تعددت الامزجة. الحب، البغض، الرقة، القسوة، السرور، الحزن، الطرب، التأمل، اللهو، التفكير، الطموح، القناعة، جميع هذه الثورات، والانفعالات والتصورات، هي واحدة لدى الامم كلها في الشرق والغرب لا فرق بين امة وامة الا بمقدار تنبه النفوس لذلك الخزان، العام، وارتقائها اليه شدة احساسها به.. او خمولها، وانحطاطها، وعدم شعورها بالمنبع الاول، بجوهر كائن، هو تلك الطبيعة البشرية الواحدة. والجوهر، لا يكون جوهرين، بل واحد. والسماء، لا تكون سمائين، بل واحدة. والعقيدة، لا تكون عقيدتين، بل واحدة. والزوبعة، لا تكون زوبعتين، بل واحدة.

القاعدة

ولكن السماء ليست في السماء فقط، وانما هي على الارض، ايضاً، والا ما كانت سماء. فمن اراد ان يدرك السماء، قبض على الارض، وسخّرها لغاياته السماوية. لذا كانت الجواهر السماوية وجودات أرضية... اي كانت القيم الانسانية تحقيقات قومية. الحق، والخير والجمال، قيم اجتماعية. الحق انتصار على الباطل في معركة انسانية، وليس في معركة غيبية، او الهية، تجري وراء هذا العالم، ولا يشترك فيها الانسان – المجتمع الانساني. الحرية ليست حرية السماء حيال السماء. بل حرية الارض التائقة الى السماء. الحرية، لا تتحقق في السماء، بل في الارض. من هنا خطأ الذين فصلوا الارض عن السماء.. ذلك لان التسامي الى الجوهر لا يكون الا ضمن الوجود. ولقد ضلّ من حسب التسامي وراء الوجود وحدة "روحية"... والتسامي ضمن الوجود "مادية". بهذا الخطأ خسرنا الارض، ولم نربح السماء. ذلك لان الوصول الى السماء يقتضي ارتقاء من الارض لا انحطاطاً من السماء. والارض ارضون، لا واحدة، والا الغيت ارضيتها. القوة تتجسم افعالاً. الجوهر يتمظهر وجودات الانسانية تتجسد قوميات. لا اجماع حول السماء الا في عالم ينتفى منه تنوع النظر. ولكن عالمنا هو عالم مجتمعات. اذ لا جوهر للجوهر الواحد الا في وجودات متعددة.

الجدار الاول

هذا الانتقال من الجوهر الواحد الى وجودات متنوعة، هو انتقال حر. هو ابتداء حر. السماء لا تبتدئ من سواها. لا قبل قبل قبلها. لا فوق فوق فوقها. ان كل سماء تنبثق من سماء اعلى هي ليست بسماء. من صفات السماء ان تكون البادئة من ذاتها.. ان تزاول سماويتها في بدء من ذات ذاتها. وهكذا الحرية. الحرية لا تبتدئ من حرية اسمى. تلك الحرية ليست حرة. الحرية الحرية هي التي تكون حرة، بذات حرة، والا اتت حريات الغير عاراً عليها. الحرية الحرية هي التي تعرف غايتها، وتقدر ان تسير اليها، وسارت بملء ارادتها ومشيئتها. هذه هي الحرية الجديرة بالحياة، والتي حياتها عز وجمال. ومن هنا كانت مشكلة الحرية لا تحل الا بالحرية. فبديهي اذن ان تكون الحياة حياتنا نحن، وان تكون الارادة ارادتنا نحن، وان يكون الهدف هدفنا نحن، وان يكون المثال مثالنا نحن، والا فنحن ندعي ما ليس لنا ولا لنا حق فيه. ونطلب ان نحصل على ما لا نريد ان نعمل له، وهو امر غريب فيه من العجب ما فيه.

الجدار الثاني

متى انطلق الانسان من تلك البداية الرائعة.. اي متى ادرك الجوهر الحر، ولا جوهر الا وهو جوهر حر، اذ لا جوهر قبل الجوهر.. قلت متى بدأ الانسان هكذا، رأى ذاته في سبيل الواجب ان يكون. الحرية الحرية واجبة الوجود. هي واجب. الحرية الحرية ليست حرة ان تكون او ان لا تكون. الحرية يجب ان تكون. السماء يجب ان تتأرض. العدالة يجب ان تتحقق. الحب يجب ان يتبدن. القيم كلها حرة. وهي حرة لانها واجبة. وعليه، لا قيمة لحرية سماوية غير واجبة على الارض. ان سماء لا تتأرض، اي ان تصير معرفة، لتكون سماء. لا يمكننا ان نتصور سماء بدون أرض. . ولا جوهراً بدون وجود.. ولا حرية بدون واجب الحرية تفرض ذاتها. لذا لا حياد ازاءها. لا مناص منها. تلك هي حتمية انتصارها، متى اندلعت نيرانها، في قلب الانسان. هذا الانسان، لو شاء ان يفر منها لما وجد له مفراً منها.

الجدار الثالث

الواجب يستلزم النظام. المصادفة ليست واجبة لانها ليست نظاماً. النظام ربط سابق بلاحق. هذا النظام لا يقوم بذاته في سبيل ذاته. هذا النظام ليس بالغاية. انه واسطة لقضية يخدمها، والا لا يفيد شيئاً ذا قيمة.

في الحياة العامة والخاصة. والنظام المعني، هنا، ليس عبارة عن صفوف مجموعة في ساحة من الساحات، مبتهجة بالوان قمصانها وشارات رتبها. الذين يفهمون النظام، على هذا الضوء، يضلّون الطريق الى الحياة. النظام النظام هو نظام اكبر. هو منطق الوجود العام. هو عقله الواضح، وميزانه العادل. هو ان لا تأتي الحاء قبل الجيم... ان لا يسقط الحجلا إلا فوق... ان لا تنقلب لوحة القيم، فيصبح الخير شراً، والشر خيراً. الحرية الواجبة ليست عشوائية، الحرية اللاواجبة هي التي تتسنسن كيفمكانياً. لقد كان بمقدور سعاده ان يفر من الموت، في سبيل اعادة الحرية الى ذاته. لم يفعل ذلك حرصاً منه على النظام الاكبر في الوجود، وإلا عدّ جباناً. جاء سعاده ليحدث رعدة في قومه، ويموت لأجله. ذلك هو النظام الذي فرضته عليه الحرية. تلك كانت رسالته، والنظام تأدية رسالة، وقد أتم رسالته، وختمها بدمه الشهيد.

الجدار الرابع

النظام قوة. ولذا كان سر النجاح ليس في النظام عينه، بل في القوة التي تحرك النظام، اجل، متى ادرك الانسان الحرية الصحيحة، شعر بواجب وجودها ومتى شعر بواجب وجودها، في كيانه، انتظم ضمن شبكة الكون الاكبر. ومتى انتظم هكذا. اضمحلت العقبات من امامه. لقد اندمج بالناموس الاعظم، وتحرك كما تتحرك كهربائية هذا الناموس، فتحكم بالخطر. الخطر ليس في الخارج او من الخارج. الخطر هو في الداخل او من الداخل. هو عدم ثقة بالنفس. هو من الذات الباطنة الخالية، الفارغة، من انغام الحرية.

الخطر، يقول سعاده، هو في اضطراب الاعصاب. وكذلك القوة. القوة ليست في الخارج. او من الخارج. القوة هي جوانيات النفس البشرية. من هناك تنطلق الثقة بالنفس. لذا كانت فاعلة مندفعة. كانت، بطبيعة نشوئها، قوة مهاجمة، لا قوة مدافعة. كانت صراعاً لا نهاية له، لان العظمة التي تصل الى نقطة، وتقف، تعلن انها انتهت هي دون العظمة الحقيقية. العظمة الحقيقية لا يمكن ان تحد. العظمة الحقيقية لا تنتهي ابداً. تلك هي القوة الجبارة.

بفضله، ولاول مرة

هذا هو سعاده الفيلسوف. بفضله عرفنا الفلسفة، فعرفنا السياسة الكبرى. الذي اعلمه ان سعاده لم يكن يرمي، الى غرض سياسي صغير. لقد كان يرمي الى ما هو اعظم شأناً، واكثر فائدة، من الغرض السياسي الصغير. كان يرمي الى خلق عقيدة في النفوس. لقد كان يرى ان الفورة السياسية وحدها امر تافه، اذا لم ترتكز على نفسية متينة تثبتها النظرة الفلسفية في قلب كل فرد، سواء كان رجلاً ام امرأة، شاباً ام شابة. النظرة الفلسفية هي التي توحد العواطف. هي التي تجمعها حول مطلب أعلى. هي التي تجعلها ايماناً واحداً قائماً على المحبة، التي اذا وجدت في نفوس شعب بكامله، اوجدت في وسطه تعاوناً خالصاً وتعاطفاً جميلاً، يملآن الحياة امالاً ونشاطاً. حينئذ يصبح الجهاد السياسي شيئاً قابل للانتاج. واما الوطنية القائمة على تقاليد رجعية رثة، فهي شيء عقيم، ولو ادت الى الحرية السياسية.

عندي ان سعاده فيلسوف فيلسوف. ولاول مرة في هذه الرقعة من الارض، تتسيس الفلسفة وتتفلسف السياسة. بفضله لم تعد السياسة من الارض في سبيل الارض. اصبحت من السماء في سبيل الارض. وهذا هو الاصح والاعظم. اصبحت عقيدة من السماء، اولاً، فتحقيقاً على الارض. اجل، هذا هو الاصح والاعظم. ذلك لان الذي يُـبتدأ من الارض، يظل في الارض. لانه يبتدأ بدون عقيدة. .. يبتدأ مفكفكاً، مخلعاً. الذي يبتدأ من السماء، ينطلق وحدة متراصة، ثم يعود الى السماء عبر الارض. الا يجوز لنا القول بعد هذا، بان سعاده قد خلف لقومه تركة فلسفية خالدة؟

هوامش

(1) كان اصدرها ورأس تحريرها، الرفيق وفاء نصر. العدد السنوي الممتاز ( 1957 – 1958). مراجعة موقع شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية www.ssnp.info للاطلاع على ما نشرته عن الرفيق وفاء نصر.

(2) العدد الخامس. السنة الثالثة اول ايار 1959.


 

جميع الحقوق محفوظة © 2024 -- شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه