إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

عن الانتخابات اللبنانية النيابية الأخيرة أو عن سياسة النأي عن النفس

د. تيسير كوى

نسخة للطباعة 2018-06-15

إقرأ ايضاً


يتراءى للمراقب أن لبنان ينعم حاليا بجو من الارتياح النسبي بعيد نشر نتائج الانتخابات النيابية الأخيرة ففخامة رئيس الجمهورية ميشال عون يتمتع بمقدار كبير من الثقة وهو يخطو على نحو يحظى برضى من يتمكن من التعبير عن آرائه من اللبنانيين اضافة الى أنه يفتقر الى الطموحات الشخصية الجامحة بعدما تعلم الكثير من تجارب الحياة وتجاذباتها في لبنان , كما يبدو أن انتخاب دولة الرئيس نبيه بري رئيسا للمجلس النيابي والنائب ايلي فرزلي نائبا له وتكليف دولة الرئيس سعد الحريري بتشكيل حكومة جديدة كان صائبا ( في اعتقاد كاتب هذا المقال أن التشكيل المشار اليه لن يكون سهلا وربما تأجل الى ما بعد عيد الأضحى المحمدي ).

يفسر هذا كله الارتياح النسبي المشار اليه لكن القلق يساور الأوساط الواعية المتبصرة في لبنان لأن الهيئة الناخبة اللبنانية أرسلت الى مجلس الشعب , من جملة ما أرسلت , خمسة عشر نائبا من حزب القوات اللبنانية ونائبين من حزب الكتائب , كما أرسل " الشعب اللبناني " نوابا عنه سبق لهم أن تهجموا على قيادة الدولة الجارة سورية على نحو لم يكن أبدا في نظر المراقبين في صالح اللبنانيين , وأقدم بعض هؤلاء النواب أو أحزاب ينتمون اليها على التآمر على سورية والمشاركة الفعلية في محاربة الدولة والشعب السوريين والحاق الأذى الشديد بهما كما أرسل الشعب اللبناني نوابا يستوحون في سلوكهم السياسي لا ما فيه مصلحة الشعب اللبناني بل املاءات ممن لا يهمهم أمر هذا الشعب ومستقبل أبنائه وحياتهم . فبالنظر الى العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية و التاريخية و الجغرافية بين لبنان وسورية تصبح المناداة بسياسة " النأي بالنفس " هي عمليا النأي عن النفس .

شاع في منتصف القرن الماضي القول أن لبنان بلد الاشعاع الفكري والحضاري وأنه يختلف عن بقية شعوب سورية الطبيعية في أن نسبة المتعلمين فيه عالية جدا وأن نسبة " الرقي" تعكس هذا التضخم في نسبة المتعلمين . ويقول البعض أن النباهة والمقدرة على تدبر أمور الحياة على نحو حسن هما من دلائل " الرقي " في المرء والمجتمع لكن هاتين الملكتين لا تكفيان اذ يجب أن ترافقهما المقدرة على المحاكمة العقلية أي أن تكون الآراء والاجتهادات مستندة الى التمييز والمقارنة أي الى المحاكمة العقلية الصارمة التي تميز بوضوح كلي بين الغث والسمين وتتجنب الأخير الى أبعد الحدود الممكنة . المفروض في من ينوب عن شعبه ويمثله أن لا يغث حديثه أو فكره أومنطقه أي أن لا يكون عمله غثيثا أي لا خير فيه ومنه .

يرى البعض أن ارسال الشعب اللبناني سبعة عشر نائبا سبق لحزبيهما أن سكنا في الحضن الاسرائيلي يدل على أن الاشعاع الفكري الذي ساد الظن أنه ينطلق من لبنان بات في موضع الشك بالنظر الى أن اسرائيل قامت أساسا على جماجم شعب بريء هو الشعب الفلسطيني , أي أن اسرائيل حلت بالقوة القاهرة وبالارهاب المنظم محل الشعب الفلسطيني الذي لم يلحق الاذى بالاسرائيليين أبدا لا كجماعة ولا كأفراد الى أن هاجموا بلده وطردوا أكثريته منها بقوة السلاح وبالارهاب المنظم . ولم يكتف الاسرائيليون بجريمتهم الأساسية التي تم اضفاء الصفة الدولية الرسمية عليها عام 1948 بفضل جهود وضغوط بلاد عديدة لعل أهمها بلد كان أول من استخدم القنبلة النووية في تاريخ الجنس البشري وتباهى بأن الحق والخير كلهما كانا فيما فعل , بل أن الاسرائيليين لاحقوا ضحاياهم وقتلوا منهم ما استطاعوا ومارسوا التدمير الممنهج وتصرفوا وكأنهم يملكون لا فلسطين وحدها بل منطقة فلسطين كلها وانتهى بهم الأمر حاليا بأن صاروا يقولون " نسمح بحدوث هذا في المنطقة أو لن نسمح بحدوث ذاك .....أي صاروا في نظرهم ونظر حلفائهم ممتازين عن أهل البيت ؟ لقد شنت اسرائيل منذ انشائها عددا من الحروب التدميرية الدموية على شعوب منطقة فلسطين محتمية بقوة حلف الناتو أي حلف القتل والتدمير والنهب والاستعمار .وعليه صار التحالف مع اسرائيل أو التضامن معها أو الاحتماء بها يفتقر الى الحكمة عدا عن أنه سلوك يتناقض مع روح التعاليم الدينية لا سيما المسيحية منها . يعكس السلوك البشري عادة القيم التي يعتنقها المرء ويستهدي بها ويتساءل البعض الآ ن عن القيم التي انطلق منها أو استند اليها نواب مجلس الشعب اللبناني ( البرلمان ) . فهل من الحكمة في شيء أن ينوب عن اللبنانيين لبناني تحالف في وقت من الأوقات مع الاسرائيلي وذهب الى حد الموافقة على أن يعينه هذا العدو رئيسا للبنان بصرف النظر عن رغائب الشعب اللبناني ؟ . لقد أوصل اللبنانيون سبعة عشر نائبا على الأقل كانوا أو كانت أحزابهم في وقت من الأوقات يسكنون صراحة في حضن العدو الاسرائيلي ويكيدون لللبنانيين وغير اللبنانيين المقيمين في لبنان الى أن بلغوا مرحلة مشاركة الاسرائيلي الفعالة في الكيد والقتل والتدمير .

مما يخجل أيضا في لبنان أن حكوماته المتعاقبة منذ ما بعد الاستقلال بقليل لم تقدم حتى الآن على معالجة أمر القضاء على أنطون سعادة على نحو عادل وانساني بعدما ارتكبت واحدة من هذه الحكومات جريمة الاغتيال المقونن واتهمت سعادة بالخيانة والتعامل مع الاسرائيليين . يتطلب العدل والرقي والاشعاع الفكري الصحيح أن تعاد محاكمة أنطون سعادة وأن يعاد الاعتبار اليه وأن تقرر الدولة اللبنانية تعويضات معنوية ومالية تتناسب مع هول ما فعلته حكومة الراحلين بشارة الخوري ورياض الصلح هذا اذا كانت الدولة تحترم نفسها وشعبها بالفعل لا بالقول .

لقد نشر الراحل أنطوان بطرس كتابا بعنوان " قصة محاكمة أنطون سعادة وأعدامه " كتب فيه أن رياض الصلح وغيره ممن حكموا لبنان كانوا بالفعل يمارسون ما اتهموا سعادة بفعله أي كانوا على اتصال ودي وتفاوضي مع الاسرائيليين فيما كانت الدولة اللبنانية تلاحق حزب أنطون سعادة وتأسر أو تقتل أو تحاكم أو تنكل بعدد كبير جدا من أعضائه . فلو كانت الدولة البنانية تحترم نفسها بالفعل لكانت حاكمت أنطوان بطرس علنا لكي تثبت اتهامات الدولة اللبنانية لأنطون سعادة أو تثبت اتهامات أنطوان بطرس لاركان منها .

يتمنى الجيل اللبناني الجديد أن يتحلى نوابه بالمقدرة الفعالة الثابتة على التمييز بين الغث والسمين وأن يحكموا العقل في كل ما يفعلونه وأن يتجنبوا الى الحد الأقصى الممكن أن لا تكون أقوالهم وأفعالهم غير ذي جدوى ومتفلتة من قيم الحق والخير والجمال .

 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024