إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

تركيا وأردوغان: بطة عرجاء أم براغماتية فاقعة؟

نزار عثمان - البناء

نسخة للطباعة 2019-01-24

صنّفت المنظمة غير الحكومية التي تجري البحوث حول الديمقراطية والحرية السياسية وحقوق الإنسان، «فريدوم هاوس» مقرّها في الولايات المتحدة الأميركية ، صنّفت تركيا في عام 2018، على أنها لا تدعم حقوق الإنسان و»ليست حرة». والواقع أنّ تراجع تركيا عن «ديمقراطيتها»، وتقييد حرية التعبير فيها، ليس وليد لحظة الانقلاب الفاشل على النظام التركي القائم عام 2016، أو ردّ فعل مباشر عليه، بل لعله نتاج عملية طويلة قادها رجب طيب أردوغان وحزبه على الأقلّ منذ اشتعال الأزمة السورية في العام 2011، وكردّ فعل مباشر له انعكاس داخلي لموقفه المؤيد للجماعات الإرهابية.

من هنا تطرح هذه الورقة التساؤلات التالية سعياً لتسليط الضوء عليها:

كيف بدت تركيا بعد وصول حزب العدالة والتنمية للحكم، وماهية العلاقة مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، بعدها ما هي تأثيرات الأزمة السورية على نظام أردوغان؟ من ثم ما هي التأثيرات الناتجة عن التراجع في النظام العالمي والتبدّلات فيه، بخاصة بعد وصول ترامب للحكم؟ وما هو حال الاتحاد الأوروبي وما يترتب على هذه الأمور من موقف تركي؟ ماهية العلاقة مع «إسرائيل» فوق الطاولة وتحتها ، وروسيا وإيران؟ وفي النهاية وبنتيجة كلّ هذه النقاط هل يصحّ أنّ نصف تركيا بالدولة المأزومة؟

سرعان ما شرع حزب العدالة والتنمية، في الإعلان عن إجراء إصلاحات سياسية، عندما وصل إلى السلطة عام 2002. حيث كان شعاره الوعد بممارسة سياسات خارجية تدفع باتجاه الالتزام بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، واعتماد مقولة «صفر مشاكل مع الجيران». على المستوى الداخلي، أدّى دفاعه عن القيم الديمقراطية إلى جانب الهوية الدينية المحافظة إلى إطلاق اسم «الديمقراطيين المسلمين» عليه، تيمّناً بالأحزاب المسيحية الديمقراطية في أوروبا. غير أنّ هذا السجل الإيجابي في الممارسة السياسية لم يدم طويلا. فشمولية حزب العدالة والتنمية انعكست من خلال الردّ الوحشي على احتجاجات حديقة Gezi، في أيار وحزيران 2013، بخطوة توّجت توّجهاً عاماً بدأت ملامحه تظهر قبل ذلك بسنوات. والذي ترسّخ بالاعتقالات الشاملة لآلاف المواطنين ومن سائر شرائح المجتمع وقطاعاته، على إثر الانقلاب الفاشل عام 2016. ثم فضلا عن دعم أردوغان وتأييده للقوى الإرهابية التي ضربت سورية ما أذن بانتهاء سياسة «صفر مشاكل مع الجيران». فإنه بعد الانقلاب، أضحت السياسات الداخلية والخارجية التركية أكثر شخصانية، يلعب فيها أردوغان وفقاً لرغباته وردود أفعاله ومصالحه الخاصة، والتي تكرّست واتخذت حيّزاً دستورياً بعد تنصيبه كرئيس للجمهورية في 2018، ما أدّى إلى مزيد من الضعف في مؤسسات الدولة، وأصابها بنوع من الهزال.

انعكست سياسات أردوغان المتبعة على الرؤية العامة للاتحاد الأوروبي اتجاه تركيا. والواقع أنّ الحديث عن العلاقة البينية بين الطرفين يطول، وله أكثر من زاوية. فدول الاتحاد الأوروبي لطالما تعاطت مع تركيا بفوقية، داعية إياها إلى الحدّ الأقصى من الانفتاح والليبرالية، حتى لو تعارض هذا مع مسلّمات الهوية التركية والتقاليد والأعراف، كي تحظى بالرضا والتأييد للانضمام، لكن الوقائع والتجربة أثبتا أنّ مطالب الاتحاد الأوروبي لم تكن أكثر من وعود سطحية تسويفية وشروط تعجيزية. هذا بالطبع لم يلغ رغبة الاتحاد الأوروبي بالتعاون مع تركيا لا سيما بعد مشاكله الكبرى المتمثلة مبدئياً بأزمة منطقة اليورو، وقضية «بريكست»، وتدفق اللاجئين، والخوف من الإرهاب وعدم القدرة على ضبط هجماته، وفورة اليمين المتطرف الذي وصل إلى الحكم في كلّ من إيطاليا والنمسا، والتظاهرات في فرنسا، وأخيراً لا آخراً العلاقة الإشكالية مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب.

ويبدو أنّ تركيا من جهتها لم تخف عليها تلك الأزمات التي تقوّض نوعاً ما شيئاً من تأثير هذا الاتحاد، وتدفعها بطريقة أو بأخرى لتعيد التفكير في أولوية الانضمام إليه، والسعي لإيجاد شركاء إقليميين ودوليين آخرين واعدين وأكثر فائدة.

غالباً ما تميّزت العلاقة بين واشنطن وأنقرة بالإشكالية، وما يشبه انعدام الثقة بين كلّ من دونالد ترامب ورجب طيب أردوغان. ودون الدخول في الطبيعة السيكولوجية لكلا الشخصيتين، إلا انه لا يخفى على أحد تميّز كلّ منهما بصفات ليس أقلها الصلف والغرور والتسرّع باتخاذ المواقف. أما من حيث الوقائع فقد برزت قضية القس برونسون، والتي أدت بترامب للإعلان عن مضاعفة الرسوم الجمركية على واردات الصلب والألمنيوم التركية. ما أدّى لإضعاف الليرة التركية. بعدها قامت تركيا بإطلاق سراحه في تشرين الأول 2018، وفي المقابل تمّ رفع العقوبات جزئياً. وفي النهاية ان أضفنا إعلان ترامب الأخير عن انسحاب قوات بلاده من سورية، والذي رافقته تهديدات بتدمير تركيا اقتصادياً إنْ استهدفت القوات الكردية المدعومة أميركياً. انتهاء بالإعلان عن الرغبة بقيام «منطقة عازلة»، وصولاً إلى اتهام أنقرة للولايات المتحدة، بالتباطؤ في تنفيد اتفاق خريطة الطريق في منبج، الموقع بين الجانبين في 4 حزيران الماضي، الذي ينصّ على سحب وحدات حماية الشعب الكردية من منبج إلى شرق الفرات، والإشراف المشترك على أمن واستقرار المنطقة إلى حين تشكيل مجلس محلي من سكانها لإدارتها، وكان من المقرّر أن ينفذ الاتفاق في مدى زمني 90 يوماً. كلّ هذه الأمور وغيرها قد تعكس تبرّم أردوغان من سياسات ترامب، لا سيما أنّ الأخير أثبت في أكثر من موقع أنه لا يحترم حلفاءه، ويسعى لتنفيذ أجنداته الخاصة متستراً بشعار «أميركا أولا».

الواقع انّ الأحداث الحالية في الاتحاد الأوروبي، وسياسات ترامب، والتحركات الذي تقودها كلّ من روسيا وإيران، والقدرة الصاعدة للصين، والأزمات الاقتصادية، وتقييد حرية التجارة وغيرها. لا يمكن بطريقة أو بأخرى فصلهم عن متغيّرات عامة وشاملة تصيب النظام العالمي، ولعلها تبشر بآخر تتعدّد فيه الأقطاب، كلّ هذا إنْ أضفنا إليه صمود سورية لثماني سنوات، شكلت كلّ هذه الأمور صفعة للسياسات التركية الخارجية، ودفعتها مع المتغيّرات الداخلية، ونشوء حكم أشبه بالأتوقراطي فيها إلى تعديل سلم أولوياتها، والعمل على تكوين علاقات جديدة بعيدة نسبياً عن الاتحاد الأوروبي، وحلف شمال الأطلسي والولايات المتحدة، طبعاً دون قطع التبعية لهم بشكل تامّ. وكانت بدايتها في أستانا مع روسيا وإيران، وتعاونها المتصاعد معهما، والعلاقة الإشكالية المتذبذبة بظاهرها مع ترامب، وعدم المشاركة في «حلف وارسو» الجديد الموجه ضدّ إيران، المزمع عقده في الشهر المقبل. هذا ويمكن أن نضيف تلك العلاقة مع «إسرائيل»، وأخيراً دورها مع الدول العربية، وعلاقة أردوغان وحزبه الوثيقة مع الأخوان المسلمين. وكلّ هذا، دون ان يفقد أردوغان حلمه بالتوسع، والقضم، والانتشار.

ولعله من الأقرب أنّ أردوغان وجد نفسه قد ترك من قبل حليفه الأميركي في منتصف الطريق في سورية، أما الشريك العربي في التدمير ودعم الإرهاب، لا سيما السعودية، فقد كانت لها أجندة ومصالح مخالفة لما تراه أنقرة، مع مزيد من العداء والاصطفاف والتنافس بين الجانبين حول أيهما أقدر على قيادة العالم الإسلامي السني. وعلى الرغم من قيام تركيا بإسقاط طائرة حربية روسية عام 2015، عادت وتحسّنت الأمور مع روسيا بعد تجاوز الأزمة الثنائية بين الطرفين، تبع ذلك تدخلان عسكريان من قبل تركيا في شمال سورية، عملية «درع الفرات» في آب 2016 وعملية «الزيتون» في كانون الثاني 2018. وقد تحوّل الحال لإنشاء نوع من التقارب بين تركيا وروسيا وإيران، ابتداء بمفاوضات أستانا، وصولاً إلى التبادل التجاري. غير أنّ هذا لم يغيّر من واقع الأمر شيئاً من حال كون تركيا ما زالت بلداً معتدياً على الأراضي السورية، ومحتلاً لجزء منها، وداعماً لقوى إرهابية فيها. هذا دون أن يقطع أردوغان كلياً لعلاقاته ومصالحه مع الولايات المتحدة أو «إسرائيل»، أو إيقاف التنسيق معهما، والتوافق حول المصالح المشتركة التي تجمع بينهم في سورية والمنطقة. وهذا ما يؤكد على براغماتية أردوغان الفاقعة، ومصالحه الخاصة التي تدعوه إلى مسك العصا من الوسط، والميوعة في اتخاذ موقف جادّ حول الأرضية التي يقف عليها، والتحالفات البعيدة عن المبدئية التي يتخذها. وهذا ما نشهده بشكل فاقع بالنسبة لعلاقته بـ«إسرائيل»، فعلى الرغم من التصريحات القاسية والخطابات الرنانة التي يهاجم فيها «إسرائيل»، ويدعو لمناصرة القدس والقضية الفلسطينية، فقد أثبت تطبيع العلاقات بين الطرفين، أنّ الخلاف هو لمجرد الاستهلاك المحلي، وكسب مزيد من الشعبية إن بين الجماهير التركية، أو العربية. فقد وصل حجم التبادل التجاري بينهما إلى 4,3 مليار دولار عام 2017، بزيادة 11 عن عام 2016.

يبدو أردوغان في سعيه السابق للتمثل بتوصيات الاتحاد الأوروبي، وعمله على إرضاء أميركا، ومدّ يده إلى روسيا، وعلاقته مع «إسرائيل»، وعدائه لسورية، وتذبذب علاقته مع بقية قوى محور الممانعة ودولها بـ «ما قبل وما بعد»، وعدائه لعدد من الأنظمة العربية، واندفاعه الدؤوب للتمثل بدور كبير على مستوى الإقليم على أقل تقدير، والمتغيّرات التي حلت انطلاقاً من معطيات ومؤثرات داخلية وخارجية في تركيا، يبدو أشبه بالقصة الشعبية لطائر «الدوري»، حيث أعجبته مشية الحجل، ولما فشل بتقليده، ونسي مشيته الأولى، أمضى حياته يقفز قفزاً.


 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024