شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية 2023-09-30 |
الباقي في ذاكرة ووجدان رفقائه الاديب الكبير الرفيق سعيد تقي الدين |
الاديب الكبير سعيد تقي الدين كما عرفه صديقه الرفيق عفيف خضر عرف الرفيق عفيف خضر ابن بلدته بعقلين، الاديب الرفيق سعيد تقي الدين منذ العام 1951، وعرف الفيليبين التي زارها، وتعرّف الى مهاجرين لبنانيين اسسوا حضوراً لافتاً، في السياسة والاقتصاد. عنهما كتب الرفيق عفيف ثلاث مقالات، نشرت كلها في عدد واحد من مجلة "اشارات" للمحامي سليمان تقي الدين، ونعيد نشرها لفائدة الاطلاع اكثر على اديب عملاق وعلى بلد كنا نجهل، لولا سعيد تقي الدين ان فيه جالية عريقة . * سعيد تقي الدين في جزر واق الواق لماذا صوتت الفيليبين مع فلسطين(*) لا يمكن ذكر اسم سعيد تقي الدين إلا واسم الفيليبين ملازم له لان جيلنا لم يكن ليسمع او يقرأ شيئاً عن ذلك البلد قبل أن شهره في قصصه ومقالاته التي كان يكتبها من على ظهر السفن بين جزيرة سيبوه في وسط البلاد التي استقبلته شاباً وجزيرة لوزون التي تضم العاصمة مانيلا. وكان الشاب سعيد حسب قوله، يحمل بضائع من جزيرة لأخرى ويمارس بيع بضائع خفيفة المحمل لركاب الباخرة التي تقله. وقد يكون متأثراً بحكايات السندباد البحري الذي حسب قول سعيد لي، كان يطلق على ذلك الأرخبيل اسم جزر واق الواق اي آخر الدنيا. لا استطيع الشك بصدق هذه الرواية لان صاحبها كتبها. وبالتأكيد قام سعيد بتلك المغامرة مرات متعددة على طريقة بائعي الكشة في اميركا الجنوبية. وعندما اتذكر ما كتبه مرة من انه أجاب المعلم عندما سأله عن سبب غيابه في اليوم السابق، انه كان مغسل قنبازه، موحيا بذلك انه كان لديه قنباز واحد وذلك من نسج خياله وبأسلوبه الفكه الساخر من الصغر. فالابن البكر للشيخ محمود تقي الدين، الوجيه الملاك الذي يحتفظ بمعصرة زيتون خاصة لعصر إنتاج أملاكه، وابن الدولة برتبة محافظ لا يكون بكره دون قنباز احتياط . ولم يقل لنا سعيد من هو المعلم الذي كان يعلمه فك الحرف وهل هو المعلم اسعد ولي الدين الذي كان، بسبب اعاقته، يؤدب الاولاد بقضيب رمان طوله ثلاثة امتار او اكثر، أو المعلم مرشد البستاني والد إميل البستاني الذي نافس سعيد على رئاسة جمعية خريجي الجامعة الأميركية فيما بعد. ومدرسة المعلم مرشد أظنها سابقة للمعلم اسعد. ولا اظنني كنت لأسمع عنها لولا أن المرحوم إميل البستاني سألني مرة اذا كنت استطيع ارشاده الى مكان وجود مدرسة والده، وقد سألت والدي المولود سنة 1897 إذا كان يعرف عنها شيئاً، فأحالني الى ابن عمته الأكبر منه محمد خطار نصر الذي أكد وجودها بجوار منزله أي في قبو يملكه أبو فوزي حسن بشير أبو شقرا وان المعلم مرشد كان يقيم في العلية فوق القبو وبقي الى أن نشبت الحرب العالمية الكبرى. وقد نقلت هذه المعلومات إلى إميل الذي وعد بزيارة المكان ولا ادري إذا كان قد تمكن من ذلك . انا أرجح، اذا كانت القصة ليست مجرد دعابة، ان المعلم الضحية كان مرشد البستاني إذ أن سعيدا ما كان ليزمط من قضيب المعلم اسعد ولم يخبرنا انه ذاق طعمته. تذكرت ذلك بعدما وصلت مانيلا صيف 1961 وحاولت اقتفاء آثار سعيد وتيقنت ان الخيال الأدبي كان له الفعل الأهم في قصصه لأنه كان يتقمص شخصيات أبطال رواياته ويعيشها ويصدقها. وهذا الأسلوب شائع ومعتمد لدى الادباء الكبار ومنهم وليم شكسبير الذي كتب مسرحية يوليوس قيصر الشهيرة بانيا على عبارة واحدة تاريخية هي "نكون أو لا نكون تلك هي القضية" وباقي الرواية كله من خيال المؤلف . نحن آل خضر كانت الفيليبين تعني لنا الكثير لان فيها خليل وعصمت أبناء كبير عائلتنا أمين بك، وهو من لوعته وشوقه لا يترك يوما يمر دون الحديث عنهما وتمني عودتهما. وقد حملّني لهما رسائل مكتوبة وطائرة. كنت اسمع عن مكانة أفراد الجالية اللبنانية هناك ووجدت الحقيقة أهم من الخيال. ففي العاصمة مانيلا يقوم القصر الجمهوري على رابية تدعى كيزون سيتي وهي مثل اليرزة بالنسبة لبيروت، وايمانويل كيزون هو أول رئيس جمهورية بعد الاستقلال. وكانت تملك تلك الضاحية أسرة الشميَل من كفرشيما وقامت عميدة الأسرة السيدة وديعة التي تلقب بالدونا ماجدولينا بتقديم الأرض هدية للرئيس كيزون ليبني عليها القصر وعدد من المباني الحكومية، ولتصبح فيما بعد العاصمة الرسمية للدولة. هذه السيدة الكبيرة تزوجت بعد ترملها من كامل بك خطار حمادة الذي كان مديرا لأعمال زوجها وهو الذي استقدم ابني خاله خليل وعصمت خضر لمعاونته في ادارة الشركة بمتاجرها وعقاراتها ومصانعها ومناجم الحديد المملوكة لها. أثناء اقامتي في مانيلا صيف 1961 كان من واجبي ان اذهب كل صباح الى منزل الكولونيل خليل لتناول الفطور معه وغالبا ما التقيت بمرشح الرئاسة السناتور ماكاباغال ومرشح نيابة الرئاسة السيد بيلايز وزير الخارجية السابق، والسيد جيري روهاس ابن الرئيس السابق، وقد اكتسب خليل لقب كولونيل من دوره في قيادة المقاومة ضد الاحتلال الياباني أثناء الحرب وهو الوحيد في تاريخ الفيليبين الذي منح جنسية البلاد ولقب بطل وطني بقرار برلماني. وقال لي أن الشيخ سعيد كان معه في المقاومة وان لم يحمل السلاح لان جزيرة سيبوه حيث كان يقيم كانت بمنأى عن فظائع الجيش الياباني لقربها من جزيرة لايتي التي نزلت فيها قوات الجنرال ماك آرثر لمحاربة الاحتلال الياباني. وقد اخبرت السيد ماكاباغال عن لوعة أمين بك ورغبته برؤية خليل قبل وفاته فقال انه إذا فاز بالرئاسة سوف يحضر بنفسه مع خليل لزيارة الوالد. وقد فاز وبرّ بوعده وزار لبنان اثناء حكم الرئيس شهاب ومعه خليل وفريقه الطبي لأنه كان يعاني من مشاكل في الكليتين. وامضى الجميع يوما في بعقلين. الرئيس ماكاباغال هو بالمناسبة والد الرئيسة الحالية السيدة اورويو. وتقع في وسط البلاد جزيرة سيبوه وهي معقل آل تقي الدين منذ الاحتلال الاميركي للفيليبين 1903 حيث استقر فيها الدكتور نجيب تقي الدين الذي قدمها ضابطاً طبيبا في الجيش الاميركي. وهو من خريجي الجامعة الأميركية في بيروت عام 1898 وسافر الى الولايات المتحدة للعمل، وانضم الى الجيش كطبيب الى ان استقر به الامر في جزيرة سيبوه التي مارس فيها الطب وتملّك مساحات شاسعة من الارض واصبح له في تلك الجزيرة ما لآل الشميل في مانيلا. وقد استقدم الدكتور نجيب شقيقيه فؤاد والدكتور رشيد وعدداً من شباب العائلة، وبعد ذلك سعيد . ومع التقدير للشيخ سعيد وخياله الادبي الخصب فان وضعه المالي كمدير لأعمال عمه الذي كان يلقب بملك سيبوه لم يكن ليسمح له بممارسة التعتير والشكوى من الطفر، حتى بعد وفاة عمه وانتقاله الى مانيلا للعمل في التجارة وحده او بشراكة بدرو عواد. كان تاجراً ناجحاً وقد اطلعني السيد عواد على بعض الملفات القديمة فكوّنت فكرة ان سعيدا كان من نوع "الهابرداشر" او "بتاع كله" كما يقول إخواننا المصريون. فمن استيراد وبيع الزيوت وقطع السيارات الى المأكولات المعلبة ثم بالات الملابس المستعملة، واخيرا شراء مخلفات الجيش. وهذا الوضع يوحي بان التجارة كانت بالنسبة له مجرد بوابة رزق يقفلها عندما تؤدي الغرض. استطيع الجزم أن سعيداً لم يعرف الطفر الا في لبنان بعد ان اضاع كل ثروته في الكرم والخدمة العامة والعمل الوطني ولا اقول السياسي لان المكاسب السياسية لم تكن من أهدافه. وما ان انتهت الحرب العالمية الثانية وعادت حكومة الفيليبين من المنفى، توفي الرئيس كيزون وخلفه نائبه اوسمانيا واسمه تحريف لاسم عثمان العربي وهو الذي اجرى انتخابات عامة فاز فيها احد قادة المقاومة دانيال روهاس ابن السيدة وديعة الشميل بالتبني فهو ابن وصيفتها التي رافقتها لآخر عمرها وهي التي رعته صغيراً وأمنت له اعلى درجات العلم والدعم . وكانت المفاجأة الكبرى في صيف 1947 عندما قام الجنرال رومولو مندوب الفيليبين في مجلس الأمن ورئيس الجمعية العمومية لاحقا بمخالفة الموقف الأميركي والتصويت ضد قرار تقسيم فلسطين. وقامت القيامة ضده فقال انه اتبع تعليمات رئيسه روهاس . ما الذي جعل روهاس يخالف الولايات المتحدة راعية بلاده وحكومته؟ ان سيدة واحدة استطاعت ذلك فقد ذهب اليها سعيد تقي الدين وخليل خضر مع وفد حفظتُ من اعضائه اسمي بطرس عواد ورشيد طوق وطلبوا مساعدتها، فاتصلت فورا بالرئيس وطلبت منه تأييد الموقف العربي فكان جوابه انه يخالف الدنيا كلها ولا يخالف امه ماجدولينا. هذا فصل مشرق من ملحمة الاغتراب اللبناني. حررت في 2010/06/30 *** سعيد تقي الدين– المهاجر العائد رحلة فكرية بين الفداء والصرغزة سافر سعيد الى الفيليبين بعد تخرجه من الجامعة الاميركية في بيروت عام 1928 فامثالي الذين ولدوا في اواسط الثلاثينات لم يسمعوا به وكان اقراننا في بعقلين يتساءلون اين هو الابن الاكبر للست ام سعيد التي لا تقل نشاطاً في الحقل السياسي عن ابنائها الستة. انا شخصياً عرفت انه اديب ومغترب من مطالعتي لحواراته مع الاديب سهيل ادريس التي كنت اقرأها وانا في سن مبكر. وكنت في غاية السعادة عندما علمت انه عائد الى لنان بعد ان شاهدنا في طرقات بعقلين سيارة دودج مستعملة قيل ان الشيخ سعيد اهداها لشقيقه بهيج بعد ان فاز بالنيابة عن جبل لبنان عام 1947 وكانت ثالث او رابع سيارة خاصة تسير في بعقلين. اين نحن اليوم من تلك الايام حين خاض المحامي الشهير بهيج تقي الدين معركة الانتخابات في محافظة جبل لبنان منفردا ضد ثلاث لوائح، يرأس كل منها كميل شمعون، والرئيس السابق اميل اده والشيخ سليم الخوري، وفاز فيها في دورة الاعادة بتأييد الامير مجيد ارسلان والزعيم انطون سعادة الذي كان قد عاد الى البلاد منذ فترة وجيزة. وكان بهيج لا يملك سيارة ويأتي الى بعقلين ويدير حملته الانتخابية بسيارات الاجرة وقد سمعته يشكو في حديث مع والدي ان المعركة الانتخابية قد كلفته ستة آلاف ليرة لبنانية. وقد روى لي المرحوم الامين حسن الطويل انه ذهب معه لزيارة الزعيم في ضهور الشوير لشكره على قرار الحزب بتأييده وابلغه الزعيم ان الحزب قرر دعمه تقديراً لعمله وكفاءته كما قرر تأييد المحامي اميل لحود والاستاذ فيليب تقلا لنفس السبب. اضافة الى مرشحي الحزب، الامين اسد الاشقر والرفيق الدكتور امين تلحوق. وقد اتخذ ذلك القرار دون طلب، لأن الزعيم لم يستسغ فكرة بيع المقاعد النيابية للاثرياء. وفي طريق العودة قال بهيج ان اعجابه بشخصية الزعيم سعادة لا يحد، وانه يفكر جدياً بالانتساب للحزب وقد رأيت فيما بعد في اوراق الامين حسن الطويل طلب انتساب موقع من الشيخ بهيج وشهادة المرحومين الامينين فؤاد ابو عجرم واديب قدورة، ولكنه لم ينفذ لاسباب لا اعلمها وقد تكون عائدة للاضطرابات السياسية التي عمقت الخلاف بين الحزب وعهد الشيخ بشارة الخوري. كنت يافعاً يوم شاركت اهل بعقلين الاحتفال بلقاء الشيخ سعيد العائد بعد طول غياب وقد شارك في الاحتفال جميع اهالي البلدة مما جعله يتساءل عما حل بحزبيات الحارات التي كانت محتدمة عند سفره، فقد رحب به اهل حارة التحتا معقل آل حمادة، وكفر حصيد معقل آل خضر، وحارة الفوقا طبعا معقل آل تقي الدين، ورأس الجاموس محلة آل علم الدين. وقد قام بزيارة عائلات البلدة دون استثناء . تطوع شباب بعقلين لتمثيل مسرحيات سعيد تقي الدين وكان يحضر الحفلات ويبدي ملاحظاته على الاداء وابدى اعجابه بالشاب كمال العيد بطل مسرحية لولا المحامي . في احاديث الطريق بين بعقلين وبيروت كان الشيخ سعيد يقدم تحليلاته للاحداث الجارية وينتقد بمرارة رجال الحكم العرب المصابين بمرض الصرعزة. وهذا الاصطلاح اشتقه من عبارة صرَح عزام. وفي حينه كان الامين العام للجامعة العربية عبد الرحمن عزام باشا يتحف الناس بتصريح شبه يومي عن بطولات العرب في العصور الغابرة وحقهم بالسيادة دون الاشارة الى الهزائم الحديثة التي اضاعت فلسطين ودون التجرؤ على توجيه النقد لاي طرف عربي حفظاً للتوازنات وقد اطلق عليه صحافيو تلك الايام لقب "ابو الكلام عزام" . مدرسة الصرعزة تلك خرّجت اجيالاً من المنظرين والخطباء وجسدّها فيما بعد احمد الشقيري المثقف الفلسطيني الذي كان يحفظ شعر شكسبير غيباً ومع ذلك يخطب في هيئة الامم، بصفته ممثل السعودية، باللغة العربية لكي تسمع خطبه جماهير العرب اكثر من مندوبي الدول الذين يفترض به ان يقنعهم بعدالة قضيته، ثم الاذاعي المصري المعروف احمد سعيد مدير اذاعة صوت العرب الذي، مع الشقيري، ملأ الدنيا بيانات عن انتصارات العرب عام 1967. ويضاف اليهم فيما بعد، محمد سعيد الصحاف وزير اعلام العراق عام 2003 وبعدهم كثيرون. ومن نعم الله علي سعيد تقي الدين انه مات قبل ذلك التاريخ . نادراً ما سمعت سعيداً يتناول بالنقد او المديح اياً من السياسيين اللبنانيين مع ان له نوادر وطرائف معهم. كان يائساً من الوضع كله ويعتبر السياسة المحلية لعبة يتسلى بها طلاب المنافع والمناصب وان اهتمامه كان منصباً على القضية الفلسطينية مؤمناً بوجوب العمل على التحرير القريب او سوف يكون مستقبل المنطقة كارثياً . وكان من ابرز نشاطاته داخل المؤسسة الحزبية دعوته الى انتخاب النائب الفلسطيني عن جنين الامين مصطفى ارشيد رئيساً للحزب وقد تم ذلك وتسلم معه عمدة الاذاعة، ولكن ارادة الله قضت باعتلال صحة الامين مصطفى ووفاته. وقد حضرت مناقشة ودية بينه وبين الصحافي البريطاني الشهير ايغور جونز الذي كان مراسلاً لدار الاذاعة البريطانية في الشرق الاوسط وكانا متفقين في الرأي من ان العرب باستطاعتهم تحرير فلسطين اذا قرروا ذلك واستعدوا له ولكنهم لم يقرروا. كان الشيخ سعيد يعرف انتمائي الحزبي ونشاطي الوطني في ذلك الوقت ويعجب به ويعزوه الى مغامرات سن الشباب ويقول انه كان كذلك اثناء دراسته الجامعية. وان ظروف هجرته لم تيسّر له العمل مع جماعة لتحقيق امنياته وانه ما كان ليسافر لولا رغبته المساهمة بتعليم اخوته وقد حقق له الله رغبته تلك، وقال لي مرة انه مارس مبادىء الحزب قبل ان يقرأها. ومرة سألني مازحاً في اي مراح ماعز امضيت ليلتي يوم مهرجان دير القمر الشهير في آخر عهد بشارة الخوري، فاخبرته اني ورفقاء لي سهرنا الليل كله في غابة الشربينة التي يصعب وصول قوى الامن اليها لاعتقالنا والحؤول دون حضورنا المهرجان. وكان وفدنا الى المهرجان اكبر الوفود واكثرها تنظيما اذ كان اوله عند فندق الهنود وآخره عند منشية دير القمر اي مسافة كيلو متر تقريباً، وكان في مقدمته الرفقاء حسن الطويل وفؤاد ابي عجرم واديب قدوره والامير زيد حسن الاطرش وغسان تويني وكامل ابو كامل وغيرهم من كبار المسؤولين . واذا كان سن الشباب قد دفعني ورفقائي الى حب المغامرة والتضحية فما الذي دفع سعيد الى ذلك المنهج بعد ان تجاوز الخمسين؟ ازداد تقرب سعيد من القوميين الاجتماعيين بسبب تعامله مع عدد منهم، وكان يحدثني كيف تمكن القوميون من ايجاد ناموس اخلاقي محدد وصارم والتقيد به وذلك شيء نادر في الشرق. ولم يذكر امامي انه يدرس امر انتسابه للحزب، وقد قرأت الخبر في الصحف كغيري من الناس، ولكني لم افاجأ به لأني كنت قد سمعت منه مديحاً للحزب ووصفه انه مدرسة الرجولة الحقة. وكنت اعلم ما تعني الرجولة والفداء له . فكان يعبّر دائما عن اعجابه بالشهداء القوميين ويعرف اسماءهم جميعا ويقول ان تضحياتهم كانت لحجز مكان لهم في ضمير الامة لا في عالم آخر . حسب التصورات اللبنانية ظن الكثيرون ان انتساب سعيد للحزب كان بدافع الرغبة بخوض الانتخابات النيابية بدل شقيقه بهيج، وكانت الظروف مؤاتية لذلك، اذ كان الحزب في اوج قوته في الشوف، ولكنه رفض مجرد البحث في الموضوع معتبراً ان تقسيم الدوائر يدل على ان النتائج مقررة سلفاً. واكد سعيد في اكثر من مناسبة انه لن يدخل لعبة السياسة المحلية، بل انه اندفع في لعبة الصراع على سورية ايماناً منه بأن حرب تحرير فلسطين لا يمكن اطلاقها الا من سورية. وكان توقعه الانتخابي صحيحا اذ اني كنت شخصياً عضوا في لجنة الفرز ولمست التلاعب في النتائج. اطلق سعيد تقي الدين شعار كل مواطن خفير واسس لجنة تحمل الاسم نفسه وانضم اليها كثيرون من بينهم الدكتور بشارة الدهان والصحافي وفيق الطيبي والرفيق هاني بلطجي والدكتور يوسف عبد الله صائغ والدكتور الامين جورج صليبي وغيرهم. وحسب قول سعيد فوجىء الجميع بحجم التعاون الذي ابداه المواطنون في سوريا ولبنان والاردن الذين تطوعوا لتقديم معلومات ادت الى كشف شبكات تجسس اسرائيلية، وكان الرد حشر اسم سعيد في كل مجموعة انقلابية تدعي المخابرات اكتشافها. وكان آخرها مؤامرة 1956 التي اتهم بها اكثر شخصيات سوريا وكان التزوير والتجني واضحين فيها الى حد ان الرئيس عبد الناصر تدخل شخصيا لإلغاء القضية بكل مفاعيلها ومع ذلك استمر استهداف سعيد شخصياً والسعي لاغتياله الى ان اضطر، تحت ضغط رفقائه ومحبيه، للسفر وليته لم يفعل اذ لم يطل به المقام في كولومبيا ولم نعد نسمع بكل مواطن خفير، بل سمعنا فيما بعد بوجود كوهين وامثاله . * سعيد تقي الدين عاشق بعقلين لعل اهم حدث شاهدته بعقلين حتى الان في العام 2010 كان تدشين الساحة التذكارية للشيخ سعيد تقي الدين في منطقة بليط الشحارة التي كانت عزيزة على قلب سعيد ابن حارة الفوقا. يحمل الحدث معاني كثيرة اهمها انه يعيد الينا الثقة ان الدنيا لا يزال فيها خير وان البلدة التي انجبت عبقريا مثل سعيد وغيره من العظماء بدءا بفخر الدين المعني، ولدت ابناً باراً مثل أمل ابراهيم(1)، يمثلها في التعبير عن الوفاء الذي احسسنا أننا كنا نفتقده . الشكر والرحمة للفقيد أمل والتقدير له ولبلدية بعقلين التي تجاوبت مع امنيته ووافقت على المشروع . لقد ربطتني بالشيخ سعيد علاقة خاصة تعود الى سنة 1951 يوم زارنا في منزلنا لسبب لا اذكره جيداً وان كنت أظن أن الزيارة كانت من ضمن جولة رد زيارات كان يقوم بها كل صيف. وكنت يومها طالباً في السنة النهائية في الكلية العامة في الجامعة الاميركية، وسألني عدة اسئلة عن الانشطة الطلابية والوطنية التي كنت من فرسانها المجلين، وتحدث عن ذكرياته في الجامعة. وكان من نتائج تلك المقابلة انه عرض عليّ ان يأخذني الى بيروت وكانت تلك البادرة حلما ادخل السعادة الى نفسي واشعرني بالعظمة بين رفاقي . كان يعطيني المجلات العالمية مثل لايف وتايم ونيوزويك لأقرأها عنه والخصّ محتوياتها له. كان يقول انه يفعل ذلك لتنمية ثقافتي وتمرَني على البحث. وكان أحياناً يقرأ لي مقالاته القصيرة قبل نشرها. لقد وجدتني منجذبا اليه الى درجة أني لم أكن أضيع فرصة بعد دراستي إلا واذهب اليه حيث يكون في منزله او نادي الخريجين أو مكتبه في بناية اللعازارية او في بعقلين، وأصبحتُ بالنسبة اليه مثل الابن والمساعد والسكرتير والصديق الصغير . كان الشيخ سعيد على قمة العظمة وما ذلك التواضع واللطف والاهتمام بالشباب سوى جزء منها. يتمتع بطبيعة جذابة ومحببة وتعليقاته ساخرة وصريحة، ولكنه يغضب عندما يشبهه احد بالادباء الساخرين مثل جورج برنارد شو، ومارك تواين، ويرد باتهام المشبهين بعقدة الاجنبي، كان محباً للناس ولا يحقد على احد. كان يستقبل الناس في الصالون الشمالي او على المقاعد الخارجية تحت ظل شجرة الزنزلخت. كان يحب معاشرة ذوي الالوان كما كان يسميهم اي الذين يعبرون عن مشاعرهم دون مواربة، او مجاملة، وبلا اتيكيت مثل حسن نمور، وابو ياسر رشيد حمدان، وفواز الغصيني، وفرحان ولي الدين، وسعيد ابو تين، وتوفيق ابو شقرا وكانوا بالنسبة اليه ممثلين للرأي العام. كنت مرة اجلس معه قرب الزنزلختة وجاءه شخص من الشوف الاعلى باد عليه التعب والعرق يتصبب منه فناوله الابريق ليشرب، وبعد ان كرعه دفعة واحدة واستعاد روعه طلب له الشيخ عنبا، فاخذ يلتهم العنقود بنهم فقال له الشيخ سعيد: الظاهر انك بتحب العنب كثير، فأجاب الرجل: أنا بين الحبة والحبة اشتاق لأكل العنب. ضحك الشيخ وقال لي: اي اديب يستطيع ان يعطي تعبيراً افضل من هذا. اجبته بين المزاح والجد: يمكن يكون مشتاق لصحن طبيخ، وكان حدسي صادقاً اذ سرعان ما طلب له رغيف لبنة فأكله. وهنا يظهر الفرق بين الاديب الذي التقط الصورة الجمالية وبين تلميذ الادارة الذي نظر الى الحالة المادية. لقد غادرت لبنان للعمل في الخارج سنة 1955 ولم يتسن لي مرافقة الشيخ سعيد في ازمته السياسية المتتالية مع اهل الانظمة السائدة وقتها، وكنت قد عملت معه في لجنة كل مواطن خفير وهي اول مؤسسة شعبية لمكافحة النشاطات المعادية والتي ساهمت في الكشف عن امور خطيرة جدا. ويمكن ان يكون استهداف سعيد شخصياً ومحاولات اغتياله نتيجة لنشاطه في اللجنة التي انتهت فعاليتها بعد سفره. ولا يعجبن احد من هذه الفرضية فقد ظهر مما تلا من احداث غرائب وعجائب وكواهين وكوهينات . كنت في جريدة النهار احضر مجلس الاستاذ ميشال ابو جودة بين السابعة والثامنة مساء كل يوم ويحضره كبار رجال السياسة والصحافة والأدب، عندما ورد على إحدى وكلات الانباء خبر وفاة سعيد تقي الدين بالسكتة القلبية فكان كالصاعقة على كل الحضور. عبّروا جميعاً عن حزنهم واسفهم واذكر ان الرئيس تقي الدين الصلح قال ان تلك الميتة خيبة امل لسعيد طالما تمنى ان يموت شهيداً. وفيما بعد، اخبرني مغتربون كانوا معه انه توفي على كرسي بحري عند الشاطئ والجريدة على صدره. في صيف 1961، وبعد فقد سعيد كنت على اهبة السفر الى الفيليبين للمشاركة في دورة تدريبية اقامتها الشركة التي اعمل فيها. التقيت المرحوم الامين انعام رعد الذي طلب الى البحث عن اي اثر لسعيد هناك. وقد زرت قصر عمه الدكتور نجيب الذي استقدمه ورعاه، وقابلت ابنيّ عمه المحاميين الشهيرين فريد وادوارد، واولادهما المحامين الخمسة العاملين جميعا في مكتب واحد. وقد تعرفت على افراد اسرة تقي الدين في الفيليبين التي لا يقلّ عددها عما هي في بعقلين واتيت ببعض الصور والوثائق الخاصة وسلمتها للآنسة ديانا. ولكن الاثر الاهم الذي اطلعت عليه ولم احصل عليه كان مجموعة من الرسائل بعث بها سعيد من مهجره الجديد في كولومبيا الى شريكه القديم في مانيلا بدرو عواد الذي خلفه في ادارة الشركة وفي مركز القنصلية الفخرية للبنان، وكلها تقريباً تدور حول المشاكل التي واجهت سعيداً ومحاولات اغتياله المتكررة وطلب مساعدات لوجستية لبعض رفاقه في رحلة المنفى. انها رسائل ذات قيمة تاريخية اكثر منها ادبية، واني لم اضغط لاخذ صور عنها في حينه لاني كنت مضطرا لتلبية طلب الشركة التي اعمل لها بالعودة مباشرة الى بغداد مركز عملي الجديد. وقد قدرت ان وقوع تلك المستندات في ايد مخابراتية او ايدي ناشرين سوف يلحق ضرراً بالسيد عواد فأكتفيت بطلب احضار الملف معه الى لبنان عند زيارته المقبلة على ان نتقابل ويقرر بنفسه كيفية التصرف بالرسائل، ولكن المقابلة لم تتم بسبب الاحداث التي تلت ثم لوفاة القنصل عواد. * القسم الرابع والأخير مما اخترناه عن الرفيق الاديب سعيد تقي الدين من كتاب الاديبة ادفيك جريديني شيبوب. بعد عودة سعيد الى لبنان، ورغم انتخابه رئيساً لجمعية متخرجي الجامعة، وانهماكه في بناء النادي وتحرير مجلة "الكلية"، يبدو انه ظل يحس بشيء من القلق وعدم الاكتفاء، وبضرورة تركيز جهوده الفردية في هيئة او منظمة قوية. ويقول سعيد عن الفترة التي سبقت انضمامه الى الحزب: "لقد انفقت بعد عودتي من المهجر، ما يقرب من سنوات اربع ادرس الناس".. وأنه استعرض المنظمات والاحزاب، من عروبية ولبنانية واشتراكية، حتى اهتدى الى العقيدة القومية الاجتماعية. وعن ظروف تعرفه الى الحزب، يروي لنا سعيد انه كان في عام 1949، قد باشر وضع مسرحية "المليون الضائع"، وانها ظلت بين يديه نحو سنتين، يقرأها فيحس انها "تعرض مشكلة ولا تحلها"... الى ان جاءته رسالة من سجين(1) هو من اعضاء الحزب يقول له فيها: قرأت مقدمة كتابك "غابة الكافور"، وفيها تقول: "ان اكبر همي في الحياة ان اقنع امي اني لم اعد طفلاً. وزاد السجين معلقاً: "ليس من الصعب على المرء ان يقنع امه انه لم يعد طفلاً، بل الصعوبة العظمى هي ان يقنع امته انه صار رجلاً" (2). ويقول سعيد: ان هذه الرسالة اوحت اليه بتغيير موضوع المسرحية "المليون الضائع" الى "المنبوذ"... "وكان ان استحالت حياتي من جهود فردية مبعثرة الى نظامية نشاط في مؤسسة ". والذي نعرفه، ان سعيداً، بعد عودته الى لبنان، كان ينشر في الصحف اقاصيص ومقالات و"رفات جناح". وكذلك كان يدعى الى إلقاء خطب في مناسبات مدرسية او سواها، وكان يتطرق، في معظمها، الى معالجة الافات التي تفتك بالمجتمع اللبناني من اقطاعية وطائفية وفردية، وجبن وميوعة واتكالية، وهي المواضيع ذاتها التي عني بها في مسرحياته واقاصيصه السابقة. ويبدو ان مقالاته وخطبه، حتى وكتبه، لفتت اهتمام بعض المسؤولين في الحزب. من ذلك ما يخبرنا به سعيد، من ان عبد الله قبرصي اتصل به وأطلعه على مبادىء الحزب، وان هذه المبادئ لاقت تجاوباً حاراً في نفسه، فمضى يدرسها ويدرس استعداداته الخاصة بشأنها. قبل ان ينتظم سعيد في الحزب، يخبرنا انه اراد ان يتثبت من امور ثلاثة: "اولها ان الحزب لا يحاول هدم لبنان"، والامر الثاني "ان لا يكون العنف من بعض اساليبكم"، وثالثاً: "ان لا اؤمر بكتابة شيء، او بالكف عن كتابة شيء". ولدى اطمئنانه الى اجوبة عبد الله قبرصي، يخبرنا سعيد بانه اعلن انتظامه في الحزب ببيان وزعته جريدة "الاحد" على الصحف، احدث ضجة كبرى في الاوساط اللبنانية: السياسية والاجتماعية، وتصدى له الكثيرون، منددين بالدوافع التي حدت به الى اتخاذ الخطوة. لكن سعيد قابلهم برباطة جأش، مؤكداً انه اصبح من الحزب في نقطة اللارجوع، وكان الشاهد على قسمه حسن الطويل. حصل تحويل جذري في كتابات سعيد تقي الدين، بعد دخوله الحزب، ويلاحظ ان انتاجه تطعم بالعقيدة القومية الاجتماعية، وتناول في معظمه الدفاع عن مبادئ الحزب وايضاح فضائله والرد على التهم التي الصقت به، وهي مجموعة ضخمة من المقالات، معظمها نشر في: "الاحد"، "صدى لبنان"، "النهار"، و"كل شيء"(5) . ويلاحظ ان سعيداً، بعد انتظامه في الحزب، ظل يعمل ويناضل على جبهات عدة، حتى اذا تنحى عن رئاسة جمعية المتخرجين، وما رافقها من نشاط، سواء نحو انجاز بناء النادي، او نحو تحرير "الكلية"، تحوّل بكامل زخمه الى النشاط الحزبي، فعين عام 1953 منفذاً لفرع بيروت، ثم عميداً للاذاعة. ويخبرنا بعض أمناء الحزب الذين رافقوه في تلك الحقبة، انه بحكم نفوذه ومسؤولياته الحزبية الاعلامية، فضلاً عن طبيعته المندفعة، اعطى انتاجاً غزيراً متواصلاً، ولا سيما بعد مقتل عدنان المالكي عام 1955، ومحاولة تصفية الحزب في دمشق، وتزايد الضغط عليه، وانه لم يتوقف عن الكتابة والرد على التهم الموجهة اليه والى الحزب، وشرح الملابسات ودعم آرائه بالحجج. وكان ينسق انتاجه بنفسه ويعيده للطبع، فصدر له بين عامي 1953 و1956 ستة كتب، وهي حسب تسلسل صدورها: 1- "المنبوذ"، عام 1953 – مسرحية في فصل واحد. 2- "ربيع الخريف"، عام 1954 – مجموعة اقاصيص و"رفات جناح". 3- "سيداتي سادتي"، عام 1955 – مجموعة خطب القيت بين عامي 1948 – 1954 . 4- "تبلغوا وبلغوا"، عام 1955 – مقالات عن الحزب السوري القومي الاجتماعي. 5- "غبار البحيرة"، عام 1956 – مجموعة مقالات منوعة. 6- "غداً نقفل المدينة"، عام 1956 – مجموعة مقالات ومذكرات. كان واضحاً للذين عرفوا سعيداً في تلك المرحلة من حياته، انه كان، كلما تقدم حزبياً، تراجع مادياً وصحياً(6). فالثروة التي كان قد جناها في الفلبين تبخرت باسرع مما قدر لها، وموارده التجارية من شركة المقاولات التي انشأها مع صديقه المهندس ميشال سماحة انقطعت حال اعتناقه الحزب، ولم يبق لسعيد من مورد منظم ينفق منه على بيته وعائلته. وعلى الصعيد الشخصي الخاص، تخبرنا ابنته ديانا، ان اباها، مني، بعد عودته الى لبنان، بخيبة أمل، ازدادت تفاقماً بعد دخوله الحزب، واصطدامه بالواقع، فهو المثالي كان يشلح مثاليته على اهله واصحابه، حتى اذا تبيّن له خلاف ذلك، ثار غضبه... ونتيجة لتلك الخيبة، تقول ديانا، عمد أبوها الى مجموعة الرسائل التي بعثها الى اهله من الفلبين فمزقها جميعاً. يبدو لنا ان سعيداً، في غمرة ذلك الصراع: العاطفي، النفسي، المادي، اهمل صحته وكان يكثر التدخين والسهر ويرهق نفسه عملاً متواصلاً وعيشاً لا نظامياً، بل فوضوياً، فانهارت صحته وانعطب قلبه. وبدأ واضحاً للذين رافقوه في تلك الحقبة، ان حياته من جهة ثانية اضحت في خطر، بعد ان طالبت به حكومة دمشق(7)، فاذا هو حذر، يحتاط للطوارئ، لا ينام ليلتين تحت سقف واحد، خصوصاً بعد اغتيال صديقه غسان جديد، ثم بعد نشوب الثورة صيف 1958، وتأزم الوضع أكثر فأكثر، وهكذا يبدو، ان حياة سعيد، وما يحف بها من اخطار، اصبحت ضرباً من الانتحار، فقرر الابتعاد عن لبنان، ريثما تعود الاوضاع الى حالتها الطبيعية الاولى.. * هجرته الثانية الى المكسيك وكولومبيا، وموته: في 09 ايلول 1958، استقل سعيد الطائرة الى المكسيك(8)، حيث للحزب منفذية نشيطة.. وربما خطر لسعيد، بأن وقته وظروفه هناك، قد يكونان مهيئين للانتاج.. يجب ان يسجل خواطره عن صيف الدم. كانت اول محطة نزل بها روما، حيث اجتمع بزوجته وابنته(9)، وابحر في 11 ايلول الى نيويورك، وهناك امضى اسبوعين اجتمع خلالهما ببعض الاصحاب القدامى، منهم جو سلامة وهشام شرابي وجوزف توماس اخو زوجته. ثم استأنف سعيد سفره، بحراً، الى المكسيك، حيث كان في استقباله لدى وصوله عدد من القوميين الاجتماعيين والاصدقاء، منهم الكولونيل الاميركي تشارلز اوسبون، والتاجر الصناعي نجيب دبغي. يخبرنا السيد اميل دبغي، ان اخاه نجيباً، استضاف سعيداً صديق صباه، الاسابيع الاولى من وصوله الى المكسيك، ومهّد له سبل التعرف الى الاوساط التجارية، لكن الحظ لم يحالفه، ويبدو ان مناخ المكسيك لم يلائمه، بدليل ما اطلعتنا عليه ديانا، من ان اباها اصيب بفالج نصفي، في الجانب الايمن من جسمه، واضطر، نزولاً عند رغبة الاطباء، للانتقال الى كولمبيا. في اوائل ايلول عام 1959 سافر سعيد الى بارانكيا في كولمبيا، ومكث في الفندق يدرس الاوضاع ويستشير اصدقاءه هناك. وعلى ضوء استشاراته ودراساته، قرر التوجه الى جزيرة سان اندرس(10). تخبرنا باسمة ابو انطون(11)، ان سعيداً استرد بعض عافيته في جزيرة سان اندرس، وانه اسس تجارة بالاشتراك مع انطونيو الشيخ. ونظراً لسعة اختباراته التجارية ولوفرة معلوماته عنها، مضى يخابر البيوتات الصناعية والشركات التجارية في اميركا والمانيا وانكلترا، وفرنسا، فتدفقت عليه العروض المغرية والنماذج والمساطر من الاقمشة والبضائع على انواعها. وانه لو امهله القدر عاماً واحداً، لجنى من تجارته ثروة طائلة، لكن نوبة قلبية قضت عليه، وهو يستحم في البحر، في 15 شباط 1960 فقرأ عليه الفاتحة شيخ مسلم من البقاع، ودفن في مقبرة البروتستانت، ولم يزد عدد الذين شيعوا جثمانه عن العشرين شخصاً. عام وخمسة أشهر أمضاها سعيد، بعد مغادرته بيروت، في سباق مع الموت، يمارس الاعمال التجارية ويحبر الصفحات مستعجلاً تسجيل افكاره وخواطره ومذكراته ولم يكن يخاف عليه بأن الخطر يهدده بين ساعة وساعة، لكنه كان جباراً مكابراً، لم يعترف بالوهن حتى وهو يتعثر في مشيته، ولم ينقطع عن الكتابة، فأعطى الواناً من الادب الانساني والاجتماعي والسياسي. بعد وفاة سعيد تقي الدين صدر له كتابان: 1- "رياح في شراعي"، عام 1960 - مجموعة مقالات كتبت قبل سفره الى المكسيك عام 1958. 2- "انا والتنين"، عام 1961 - مجموعة مقالات كتبت في المكسيك وكولومبيا. لقد كان لموت سعيد تقي الدين وقع مؤلم في المحافل الادبية: اللبنانية والعربية والمهجرية جميعاً، فنعته الصحف الموالية منها والمعارضة. وقبل مرور عام على وفاته، تشكلت لجنة لاحياء "اسبوع سعيد تقي الدين"، في الصحافة والاذاعة والتلفزيون، على ان يختتم الاسبوع في 12 شباط 1961، بحفلة خطابية في قاعة الاونسكو، يتكلم فيها: سعيد عقل، فؤاد صروف، جبران حايك، عبد الله سعاده، عبد الله العلايلي، امين نخلة، وخليل تقي الدين. وتعزف ديانا على البيانو. وفي 10 شباط 1961، ازيح الستار في نادي خريجي الجامعة، عن لوحة تذكارية لسعيد تقي الدين، وقد تكلم رئيس الجمعية يومذاك، الدكتور فريد حداد. وفي رسالة منه ترجع الى التاريخ نفسه، يطالب رئيس الجمعية بأن يرصد مبلغ خمسة وعشرين الف ليرة لبنانية، كمنحة جامعية باسم سعيد تقي الدين. هوامش: (1) السجين المذكور هو شاعر الزجل عجاج المهتار صاحب "مطعم البيت"، في شارع جان دارك. وفي حديث خاص معه في 19/02/1969، اطلعنا على رسالة جوابية بعثها اليه سعيد في حينه تقع في ثماني صفحات. (2) راجع "تبلغوا وبلغوا "، صفحة 133. (3) هو محام ومسؤول كبير في الحزب يومذاك. (4) راجع نص البيان في "تبلغوا وبلغوا "، صفحة 9، وهو بعنوان: "حين استجبت للنفير". (5) من احاديث خاصة في 17/02/1969، مع جورج عبد المسيح، وكذلك في 07/05/1969، مع الدكتور منير خوري، الشاعر محمد يوسف حمود، وعجاج المهتار، من امناء الحزب وكبار مسؤوليه في تلك الحقبة. وقد افادنا هؤلاء ان بعض مقالات سعيد الحزبية، كانت تنشر بدون توقيعه، غير ان معظمها ضم الى مجموعاته لدى صدورها تباعاً. (6) من احاديث خاصة، في 20/12/1968، مع ام سعيد، وميشال سماحة، والدكتور فريد حداد وفي 07/05/1969، مع عجاج المهتار، محمد يوسف حمود، واسعد المقدم المدير الاداري للمجلس الوطني لانماء السياحة، وكان ملازماً لسعيد في الحزب. (7) من احاديث خاصة في 07/05/1969، مع منير خوري، عجاج المهتار ومحمد يوسف حمود من امناء الحزب عهد ذاك، ان سعيد تقي الدين، اتهم عام 1956، بالاشتراك مع الضابط السوري الجنسية غسان جديد، بتدبير محاولة انقلاب في الشام، وانهما، نتيجة محاكمة عسكرية استمرت في دمشق نحو ستة أشهر، حكما بالاعدام، غيابياً، واصبح عرضة للملاحقة والاغتيال. (8) من احاديث خاصة في 15/02/1969، مع ديانا، واسعد المقدم الذي ودعه في مطار بيروت، بأن من بين اصدقاء سعيد الذين مهدوا له سبيل السفر الآمن، الجنرال فؤاد شهاب قائد الجيش يومذاك. (9) من احاديث خاصة في 20/02/1969، مع بياتريس وديانا تقي الدين، ان سعيداً سفرهما الى ايطاليا في 15/05/1958، حيث كانت ديانا تتابع دروسها الموسيقية في اكاديمية كيجاتا، وتحيي حفلات خاصة. (10) من حديث خاص في 17/02/1969، مع باسمة ابو انطون التي كانت قد سبقت سعيداً الى سان اندرس، ان سكان الجزيرة كانوا عبيداً، وقد دخلها البيض عام 1959، على اثر اعلانها مرفأ حرا. (11) من حديث معها في 17/02/1969، وقد التقت باسمة سعيداً في بارانكيا (كولومبيا) وهي يومذاك عروس صديقه انطون ابو انطون، وبعد ذلك عرفته في جزيرة سان اندرس طوال مدة اقامته هناك، الاشهر الاربعة الاخيرة من حياته. من رفات جناحه "الرجل الكبير لا ينتهي بمأتم". وقد صح ذلك. فالرفيق سعيد تقي الدين لم ينته بوفاته في 15 شباط 1960 انما هو بقي حياً، ليس في حزبه فقط، انما في عالم الأدب، اذ يكفي ان نعلم ان عشرات الكتب صدرت عن الانتاج الادبي الوفير للرفيق سعيد، ومنها الكثير مما اهتم باصداره الرفيق "السعيد تقي الديني" جان دايه، لندرك مدى حضور ذلك العملاق في حزبه وفي مجتمعه. وبتاريخ 15/05/2010، اجتمع أبناء بلدة بعقلين والقوميون الاجتماعيون، وفي ساحة "سعيد تقي الدين" في بعقلين شهدوا على رفع الستار عن اللوحة التي أقيمت، واستمعوا بشغف الى كلمات تفيه بعض حقه، وتذكّر الدولة أن من العار عليها ان كاتباً بحجم سعيد تقي الدين لم يُطلق اسمه على أحد شوارع عاصمتها، ولم يُقام له تمثال، كما الدول التي تحترم الكبار من فنانيها وأدبائها وشعرائها. قالت بعقلين للدولة اللبنانية، ها أنا فعلت، فمتى تفعلين انتِ؟!. فشكراً لبلدية بعقلين، وشكراً للأمين الراحل، الرائع قومياً اجتماعياً، أمل ابراهيم الذي أبى الا يكون لرفيقه الأديب الكبير، حضوره في مسقط رأسه.
|
جميع الحقوق محفوظة © 2024 -- شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه |