إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

ما شفنا شي

أنطون سعادة

نسخة للطباعة 1943-02-15

إقرأ ايضاً


تتناول "الزوبعة" في سلسلة الدروس القومية الاجتماعية التي ابتدأت اعلانها منذ مدة، الشؤون المختصة بالشعب السوري عامة وقضاياه العامة والخاصة، والشؤون المختصة بالحركة السورية القومية الاجتماعية خاصة وقضاياها العامة والخاصة.


تعلم ادارة "الزوبعة" ان قضايا الحزب كان يجب ان تعالج في نشرة خصوصية توزع في داخلية الحزب لتبقى لها صفتها الداخلية. ولكن لما لم تكن هذه النشرة موجودة ولم يكن منتظراً احداثها قريباً في المغترب لما يقتضيه ذلك من نفقات، لم يكن بد من العرض لهذه القضايا المستعجلة في "الزوبعة" لكي لا يحرم القوميون وغير القوميين فوائد الدروس الناتجة عنها.


المسألة التي نعرض لها اليوم هي مسألة عقلية شائعة يمثلها بعض الأفراد الذين يدخلون الحزب السوري القومي الاجتماعي يتوهمون أن أعظم القضايا ستقضى بسرعة البرق. فلا تمضي بضعة أشهر حتى يروا حوادث عظيمة تجري أمام أعينهم فلا يغمضونها ويفتحونها مدة، حتى يتحققوا أن الحالة السياسية او الاجتماعية أو الحربية قد تغيرت تماماً.


من هؤلاء الأفراد عدد غير قليل يجهل جهلاً تاماً الحالة العامة ومتطلباتها وشؤون التنظيم وصعوباته ومقتضاياته، ولا يحسنون غير الكلام والتعليق والانتقاد والاعتراض على المقررات والسفسطة بكل ضروبها. انهم قد تعودوا هذه الخصال السيئة في بيئة الفوضى والتقلقل وعهد الانحلال النظامي. ولعدم تأدبهم في أي أمر من الأمور الاجتماعية أصبحوا يظنون ان طبيعة الأمور الاجتماعية والسياسية هي الفوضى، فكل محاولة تأديب نظامي واخضاع للنظام تعد عندهم محاولة طغيان وحرمان لهم من آرائهم وحقوقهم. واذا قيل لهم مثلاً، انه لا يجوز للأفراد التدخل في الشؤون الادارية العليا قالوا: هه! هل نحن هنا لنساق سوقاً ولا يكون لنا من الأمر شيء؟ هذه نتيجة الفوضى التي عاشوا فيها والجهل بالانظمة الاجتماعية وبقيام الأمم وعلاقة الصلاحيات بالمسؤولية. فهم يجهلون انه متى فوض الشعب الأمر أو السلطة الى فرد أو مجلس دائماً كان أو لمدة معينة، امتنع على الأفراد الذين لم يفوض اليهم الشعب شيئاً التدخل في أي شأن من الشؤون والأعمال المتعلقة بصلاحيات صاحب السلطة. ويجهلون أيضاً ان الوظائف لها حدود لا تتجاوزها وان الأوامر الادارية العليا الصادرة وفاقاً للقانون لا يمكن للمأمورين منعها أو توقيفها أو إلغاؤها من تلقاء أنفسهم.


هم يجهلون ان أي تصرف من هذا النوع الشاذ هو تمرد على إرادة المجموع التي يقوم بها النظام واحتقار لهذه الارادة. فإذا خاطبوا الزعيم مثلاً، لم يخطر لهم انهم يخاطبون الحزب السوري القومي الاجتماعي كله بإعتبار أن الزعيم "قائد قواته الأعلى ومصدر السلطتين التشريعية والتنفيذية". ان فكرة النظام وقواعده بعيدة جداً عن افهامهم. ولذلك يتوهمون ان الزعيم ليس سوى فرد مثلهم، فإذا تدخلوا في شؤون عمله فإنما يتدخلون في شؤون فرد ويجب أن لا يصعب على هذا الفرد أن يتدخل أي من شاء في خططه وتدابيره ومراسيمه وقراراته. ولا يهمهم أن يفهموا أن وراء هذا شخصية الحزب العامة وإرادته وانه ليس وراءهم غير شؤونهم الفردية الخصوصية وانه ليحق لهم التدخل في شؤون الزعامة يجب أن يحصلوا على تفويض حزبي عام بذلك.


هذه الحالة فاشية في الجيل السوري الحاضر بسبب انتشار الفوضى فيه أجيالاً متعاقبة بلا انقطاع. والحزب السوري القومي الاجتماعي ورث هذه الحالة التي يعالجها بنظامه وتأديبه، والنظام بطبيعته قاس وشديد، وإلا بطل أن يكون نظاماً. انه قواعد مقررة لتسيير المجموع أو الجماعة، وكل خروج عنها أو عليها هو خروج عن إرادة المجموع أو عليها. والزعيم الذي يتساهل في النظام وحقوق المجموع وإرادته هو زعيم ضعيف الرأي واهن العزيمة ولا يصلح لتمثيل المجموع والتعبير عن إرادته وصون حقوقه. واذا وجدت مسائل يمكن التساهل فيها فالزعيم الصالح هو الذي يعرف أكثر من غيره مدى هذا التساهل والحد الذي يقف عنده لكي لا يفسد الروحية ولا يهدم المبادىء العامة.


يوجد أفراد غير قليلي العدد يريدون زعيماً لين العريكة، سهل الانقياد، غير مدرك عظمة المسؤولية التي يحملها ليكون لهم تأثير شخصي عليه فيحسنوا له فعل هذا فيفعله ويدلوه على تلك الطريق فيسلكها. وبذلك يصير لهم الحق بالتباهي فيقول أحدهم أنا الذي دللت الزعيم على أمر كذا ويقول آخر أنا الذي أشرت عليه بكذا ولولاي لما استقر شيء الخ...


واحد من هذا النوع حسن النية، اقترن فيه جهل المسائل العمومية النظامية ببساطة تفكيره وسلامة نيته، دخل الحزب السوري القومي الاجتماعي متمماً المعاملات القانونية ومقسماً اليمين، التي تنص على حفظ النظام وطاعة الأوامر والقيام بالواجب، وهو مع بساطة تفكيره فيه مقدار من الذكاء الفطري وله نظر عملي في بعض المسائل المحدودة. ونظراً لحسن نيته وذكائه ونظره العملي اسندت إليه وظيفة إدارية صغرى محدودة. ولكن بساطة تفكيره المتضاربة مع سرعة ذكائه الفطري والممزوجة بنظره العملي حسنت له ادخال رأيه، بصورة غير قانونية، في المسائل التي من شأن المراجع العليا تقريرها فأوقف تنفيذ عدة مقررات وتعليمات، لأنه كان يرتأي أن أمر كذا غير موافق وان مشروع كذا يجب أن يؤجل لفرصة أخرى وان حالة كيت وكيت ليست هي المطلوبة الخ... الى انه اتخذ جميع صلاحيات المراجع العليا النهائية، المفوضة من مجموع الحزب، وجعلها من خصوصياته. فاضطر الزعيم أكثر من مرة لشرح أسباب بعض الأمور ونتائجها المنتظرة لاقناع المأمور المذكور أن الأمور ليس كما يرتأيها هو وان نظرة الزعامة الى المسائل تختلف عن نظرة المأموريات المحدودة. وكان الزعيم يفعل ذلك من أجل تنوير المأمور ودائرة الموظفين معه، فلا يعود الى تدخلاته في ما هو من شأن أصحاب المسؤوليات العليا. ولكن الموظف لم يغيّر شيئاً من تصرفه، بل عاد الى العمل برأيه الخاص في كل مشروع وأمر طلب منه تطبيقه في محلته. واتخذ في بعض الحالات موقف من يجب أن يكون الزعيم نفسه مسؤولاً تجاهه، بدلاً من أن يكون مسؤولاً تجاه الزعيم، أي انه عندما طولب بالتنفيذ وحوسب على عدم تنفيذ التعليمات التي ينص عليها قسمان قسم العضوية، وقسم الوظيفة، احتج بأن الزعيم لم يوضح له ما سأله ايضاحه!


كان هذا الشذوذ الاداري ذا تأثير سيء جداً على حالة الفرع. واضطر الزعيم للفصل في مسألة تصرفات الموظف الاداري المذكور وتحميله مسؤولية تعطيل القانون وقتل بعض المشاريع الهامة التي كان يرى الزعيم امكانياتها ونتائجها الحسنة المقبلة. فما كان من المأمور الا الالتجاء الى تأويل المسائل أمام أصدقائه من الرفقاء بطريقة تجعل اللوم والحق على الزعيم نفسه، مثيراً في نفوس أولئك الرفقاء الشك في صلاحيات تدابير الزعيم، مفسداً إيمانهم القومي وثقتهم النظامية ليبرر نفسه من مسؤوليته، التي هي مسؤولية قانونية صريحة قبل كل شيء، والتي جرت محاسبة بموجبها علناً أمام جميع الرفقاء الذين حضروا الاجتماعات المعينة للنظر في القضايا.


طالت معالجة العضو المخالف للقوانين ولنص اليمين نحو سنتين والزعيم يأمل اصلاحه. وفي هذه الأثناء نقله الزعيم من وظيفته الادارية الى وظيفة سياسية الصبغة لعله ينجح فيها. فأهملها بالكلية ولما حوسب على نتائج الاهمال السيئة عاد الى عادة التنصل من التبعة ووضع الحق على بعض الأسباب التي حين سئل عن تفصيلها لم يمكنه اثباتها. وعاد الى محاولة التأثير على اصدقائه من الرفقاء ليجعلهم يرون رأيه. وقد تمكن من التأثير الفعلي على بعض الرفقاء ففسدت روحيتهم وتزعزع ايمانهم وحلت الشكوك في نفوسهم محل اليقين. اخر الوسائل التي استعملها ليصل الى غايته كانت وسيلة التأثير على الأشخاص بجيوبهم. وهذه نقطة حساسة جداً لا يمكن أن يغفل عنها ذو الذكاء الفطري وصاحب الغاية الصغيرة المحدودة. فالمغتربون قد جأؤوا ليجمعوا مالاً وليس لشيء آخر. والبخل على القضية القومية والمشاريع الثقافية لتوفير المال للآشياء الخصوصية الفردية هو شبه مذهب ديني عند عدد غير قليل. فألقى المخالف قنبلة وقال على مسمع من بعض أشخاص يعرف جيداً مبلغ تأثرهم بالتفكير المادي: "دفعنا وما شفنا شي". والظروف التي قيلت فيها هذه العبارة تجعلها ذات صبغة دبلماسية بحت، لأنها لو كانت ذات صبغة حقوقية لكان يجب أن تقال في اجتماع أو جلسة رسمية ليصير السؤال والجواب بوضوح أمام الجميع.


لسنا ننظر في الغاية الروحية من العبارة المتقدمة ولا من الاعتبارات الدافعة اليها، بل نناقشها لنبين فسادها لكيلا ينخدع بمثلها كثيرون. نسأل الشخص المذكور ماذا دفع وماذا كان ينتظر مما دفع؟! تبرع هذا الغيور في خلال ثلاث سنوات تقريباً ببضع مئات من الفاسات الارجنتينية. والذين تبرعوا مثله هم أشخاص لا يزالون يعدون على أصابع اليد الواحدة. لنفترض أنه دخل صندوق الحزب، في ثلاث سنوات، خمسة أوستة أو سبعة الاف فاس. ولتفترض ان مدخول اشتراكات الرفقاء بلغ مثل هذا المبلغ، فماذا يظن هذا الذكي الحسن النية انه يمكن أن يعمل بنحو خمسة عشر ألف فاس دخلت نتفاً نتفاً في مدة ثلاث سنوات ونيف؟!


نعلم أنه قد مضى على دخول الولايات المتحدة الأميركانية الحرب سنة ونيف قرر خلالها المجمع الاميركاني مبالغ مالية يحصل لرأس المرء دوار حين يتبع أرقامها. ونعلم أن أميركانية كانت قد خصصت اعتمادات حربية كبيرة جداً قبل دخولها الحرب بنحو سنة على الأقل. ونعلم فوق ذلك ان تجهيزات الولايات المتحدة الحربية وحدها استغرقت أموالاً طائلة في السنوات الأخيرة التي عقبت الحرب الماضية، فضلاً عما سبقها، ونعلم أيضاً انه على الرغم من مضي سنة ونيف على دخول أميركانية الحرب لما تقم هذه الدولة الضخمة بغير مناوشات حربية في جزائر سليمان وانزال بعض القوات المسلحة في المستعمرات الفرنسية في أفريقيا الشمالية بدون حرب تقريباً، وآخر اعتماد قرأنا عنه في أخبار اميركانية هو مئة وتسعة الاف مليون دولار فقط لا غير. وهو شيء لا يذكر بالنسبة الى المبالغ الأخرى!


فهل يجوز أن يقوم أحد أذكياء الاميركان ويتحدث الى أصدقائه في خلوة قائلا: "دفعنا وما شفنا شي"؟! هل يعلم ذكينا الكبير القائل:" ما شفنا شي" كم هي المبالغ الطائلة التي ينفقها اليهود على دعواتهم وحدها؟


ضربنا الولايات المتحدة مثلاً لنبين أن المبالغ الماليةهي على نسبة كبر العمل وعظم المهمة. ان الحزب السوري القومي الاجتماعي يقوم بقضية أمة بأسرها ويهتم بجميع مسائلها. وهذه القضية والمسائل ذات طبيعة داخلية معقدة وشكل خارجي مختلط وحاجاتها الاذاعية والثقافية والتنظيمية والتجهيزية كبيرة جداً جداً فهل يظن صديقنا، الذي ينفق على بيته وشؤونه المنزلية وحدها في السنة الواحدة ما يزيد على الخمسة عشر ألف فاس التي نفترض انها دخلت صندوق الحزب مدة ثلاث سنوات ونيف، انه يمكن سد هذه الحاجات العظيمة أو بعضها بهذا المبلغ الزهيد الذي لا يكفي لدفع معاش ماسك دفاتر او كاتب بسيط في مدة ثلاث سنوات ونيف؟!


وماذا يقول ذكينا في "الزوبعة" والمجهود الذي يبذل فيها لتغيير النظرة الى الحياة ونوع العقلية في الشعب وهو تغيير لا نهضة بدونه. أيعلم أو يفكر في نفقات هذ الجريدة من أين تأتي؟ هل حسب كم هي نفقات الطبع وثمن الورق فقط؟ من غير حساب تعويض الانشاء وأجرة التحرير؟ هل يقوم ذلك بدون مال؟ أما مسألة المشتركين في الصحف السورية فلا نظن أحداً يجهلها، من أكبر كبير في جميع النزالات السورية الى أصغر صغير فيها. لا يؤدي غير أفراد نادرين بدل الاشتراك بدون مطالبة متواصلة او رحلات خصوصية تكلف مجهوداً اخر ونفقات اضافية.


اذن العبارة التي بلغنا انها صدرت عن المأمور السابق هي عبارة فاسدة. اذا لم تكن صادرة عن قصد سيء فهي لا يمكن أن يكون لها غير نتائج سيئة، اذ انها تفسد نفوس اشخاص كان يمكن الاعتماد على ايمانهم وروحيتهم الحسنة وتعاونهم الخالص. وهذا الضرر لا يلحق الزعيم بل يلحق الناس وقضية الشعب.


فهذا الافساد يقتل الثقة ويعدم الايمان. ومتى ماتت الثقة فقد مات العمل. ان مثل العبارة المذكورة لا يمكن أن يميت غير ثقة الأفراد الذين لا حظ كبير لهم من الاطلاع والمعرفة. انها لا تقتل العمل ولا تعطل القضية ولكنها تفسد عدداً من العاملين وتوجد صعوبات في بعض النواحي تحتاج الحركة لبعض الوقت للتغلب عليها.


ونعود فنقول ان الهدم والإفساد ليس بطولة. واننا في الأخير، نود أن لا يكون حقيقة ما بلغنا عن قول العبارة المذكورة التي جعلناها عنوان هذا المقال، لأننا لا نحب هذه المهازل لأحد.



"الزوبعة" العدد 60، في 15 فبراير 1943.


 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024