إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

الرد على البطريرك عريضة:‏ مسائل السيَاسة القومية ‏جزء 2

نسخة للطباعة  | +  حجم الخط  - 1937-12-18

التوفيق المضطرب

يبتدئ غبطة البطريرك خطابه، بعد الترحيب بالوفود القادمة بحجة تهنئته بانتقاله إلى المقر الشتوي، ‏بإعلان أسفه للحوادث المكدرة التي اكتنفت حل منظمات الشباب اللبناني. فالحوادث المذكورة دعت ‏إلى أسف جميع العاملين لمصلحة الأمة ولم يكن غبطته أول الآسفين.‏

ويبدي غبطة البطريرك أسفه "لما أشيع من أقاويل النقد عن انتخابات مجلس النواب" ثم يتنصل من ‏كل تدخل في "تلك الانتخابات" معلناً أنه ترك الأمر "لأربابه" أي "الشعب والحكومة" والسبب في ‏عدم تدخل غبطته أن الكل أحباؤه وأعزاؤه فلا يمكن غبطته أن يتحيز لفريق دون آخر إذ هو بكليته ‏للكل ويحب "أن يضم الجميع تحت حمايته".‏

وبينما غبطته يعلن في فقرة واحدة في خطابه أنه يترك أمراً هاماً كالانتخابات لأربابه "الشعب ‏والحكومة" وأنه يحب أن يضم الجميع تحت حمايته إذا به ينتقل فوراً إلى تأييد تدخل الرؤساء ‏الروحيين "في الأمور الزمنية" ثم يدعم هذا الموقف في سبيل السلطة الزمنية بهذا التصريح ‏الجريء الخطير: ‏

ثم إن الشعب على اختلاف نزعاته يكلفنا وينتظر منا أن نهتم "ليس بأموره الروحية فقط، بل بأموره ‏الزمنية أيضاً ونحامي عنه ونسعى لخيره، فالشعب الذي ولى الحكام أمره ووكل إليهم الاهتمام ‏بأموره الزمنية هو ذاته يرجو منا أن نشارف على أموره الزمنية، الخ". ‏

فإذا كانت الدعوى تشتمل على حقيقة وكان الشعب ينتظر من غبطة البطريرك "أن يحامي عنه" ‏فكيف يوفق غبطته بين ترك أمور الانتخابات "لأربابها" وبين قيامه على شؤون الشعب الزمنية ‏وحمايته له؟

إننا نريد أن نصدق أنه لم يكن لغبطته رأي في الانتخابات ولا "تدخل" ولكنه لابد لنا من البحث في ‏الأسباب التي دعته إلى عدم التدخل وهو "المكلف من الشعب على اختلاف نزعاته" بالاهتمام ‏بأموره الزمنية وحمايته من الضيم والإجحاف بحقوقه. فهل السبب إهمال غبطته الاهتمام بالأمور ‏الزمنية المكلف من الشعب بالقيام عليها؟ أم السبب عدم توقع غبطته حصول ما حصل مما أدى إلى ‏‏"أقاويل النقد" المأسوف لها كثيراً؟ أم السبب هو الكائن في نظرية الحزب السوري القومي ‏الاجتماعي ومبدأه الإصلاحي القائل بفصل الدين عن الدولة ليتسنى لأهل الدين أن يتمموا واجباتهم الدينية على أفضل وجه وليتمكن أهل الدولة من تدبير شؤون ‏دولتهم من غير أن يتعرضوا للاصطدام بتدخل رجال الدين واشتغالهم بالأمور الزمنية؟

أجل، كيف يوفق غبطته بين تركه الانتخابات الزمنية وعبارته التالية: ‏

‏"وواقع الحال أن الشعب اللبناني خاصة ينظر إلى المقام البطريركي الماروني وإلى رئيسه نظره ‏إلى أب له ووكيل عنه مفوض إليه منه تفويضاً مطلقاً الاهتمام بمصالحه الخاصة والعامة المدافعة ‏عن حقوقه، حتى إذا تقاعد عن ذلك لامه ونسب إليه التقصير، إذ له ملء الثقة وهو كان دائماً مرجعاً ‏للشعب بكل أموره".‏

إذا كان غبطة البطريرك يعترف بتقاعده وتقصيره فلا بد من التسليم بأن هذا الاعتراف ينقض تعليمه ‏القائل بصلاح تدخله في الشؤون الزمنية لمصلحة الشعب. وإذا كان يعترف بعدم توقع النتائج ‏المؤسفة في الشؤون الزمنية لمصلحة الشعب. وإذا كان يعترف بعدم توقع النتائج المؤسفة وبالتالي ‏بعدم الخبرة في الشؤون السياسية والاجتماعية والاقتصادية فيكن قد اعترف بخيبة الشعب في نظره ‏فلا بد، إذن، من التسليم بمبدأ الحزب السوري القومي الاجتماعي فلا تصطدم الروحيات بالزمنيات ‏ولا تصطدم الزمنيات بالروحيات. ‏

وإذا كان غبطته يظن أنه يمكن التوفيق بين الوجهتين المتضاربتين في دعواه وموقفه بعبارة "ونحن ‏نحب أن نضم الجميع تحت حمايتنا" فما أبعد هذه العبارة من إيجاد التوفيق المطلوب.‏

الشعب اللبناني والمقام البطريركي

الحقيقة أنا قد تساهلنا كثيراً في الجدل في موقف غبطة البطريرك من بعض الشؤون الزمنية بناء ‏على مجاراتنا غبطته، جدلاً، في اعتبار ما سماه "واقع الحال". ‏

يقول غبطته "إن الشعب اللبناني عل نزعاته يكلفنا وينتظر منا أن نهتم، ليس بأموره الروحية فقط، بل ‏بأموره الزمنية أيضاً ونحامي عنه الخ" وفي موضع آخر: "وواقع الحال أن الشعب اللبناني خاصة ‏ينظر إلى المقام البطريركي الماروني وإلى رئيسه نظره إلى أب له ووكيل عنه مفوض إليه منه ‏تفويضاً مطلقاً ًالاهتمام بمصالحه العامة والخاصة والمدافعة عن حقوقه الخ". ‏

لا نعتقد إلا أن غبطته عنى بقوله: "الشعب اللبناني على اختلاف نزعاته يكلفنا" أن أفراداً من مختلف ‏النزعات كانوا يكلفون غبطته التدخل في بعض الأمور الإدارية أو غيرها لمصلحتهم المتسترة ‏بستار المصلحة العامة.‏

وإن غبطته قد أجاز لنفسه اعتبار هؤلاء الأفراد "الشعب اللبناني" من باب إطلاق البعض على الكل ولا وجه صحيح لإجازة هذا الإطلاق، إذ أن الأفراد مهما كثر ‏عديدهم، لا يمكن أن يسموا "الشعب على اختلاف نزعاته" إلا بترك الواقع والمنطق جانباً وبإحلال ‏اللاهوت محلهما ولا نعتقد أن غبطته أراد إدخالنا دائرة اللاهوت حين صرح هذا التصريح. ‏

إننا نؤكد لغبطته أن ألوف القوميين الاجتماعيين في الجمهورية اللبنانية لا يصدعون غبطته لا ‏جمهوراً ولا أفراداً. بتكليفه الاهتمام بأمورهم الزمنية. وإننا نشك كثيراً في أن الجماعات الدينية غير ‏المارونية في الجمهورية اللبنانية تنظر إلى غبطته نظرها إلى "أب لها وكيل عنها مفوض إليه منها ‏تفويضاً مطلقاً الإهتمام بمصالحها العامة والخاصة". ‏

وإذا كان غبطته يعني "بالشعب اللبناني خاصة "الموارنة فقط ففضلاً عن التناقض بين هذا ‏الافتراض وقول غبطته "الشعب على اختلاف نزعاته" نؤكد لغبطته أن القوميين الاجتماعيين من ‏‏"اللبنانيين الصرف" وكثيراً من الموارنة المثقفين الذي لما يتسنى لهم دخول الحزب القومي ‏الاجتماعي لا يدخلون ضمن أحد التعبيرين المتقدمين.‏


.... للبحث صلة،

نشر هذا البحث التحليلي في جريدة "النهضة" الصادرة في بيروت، وذلك ‏ابتداء من العدد 58 تاريخ 18 كانون الأول سنة ‏‏1937‏



 
جميع الحقوق محفوظة © 2024