إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

الرد على البطريرك عريضة:‏مسائل السيَاسة القومية جزء 4

أنطون سعادة

نسخة للطباعة 1937-12-18

إقرأ ايضاً


سياسة الروحية الزمنية

لا اعتراض عل اهتمام غبطة البطريرك بمصلحة البطريركية في الشؤون التي يكون منها نفع أو ‏ضرر. أما أن تكون مصلحة البطريركية أساساً أو أحد الأسس التي يقوم عليها ادعاء وجوب التدخل ‏الديني في شؤون الدولة فمما لا مندوحة عن الاعتراض عليه.‏

ولسنا نتمكن من تصور أنه قد يخفى على غبطته ما في التشبث بجعل الرئيس الروحي مرجعاً ‏للشؤون الزمنية من الخطر على سير الأمور الزمنية التي أصبح في هذه الحالة معرضاً لتنازع ‏السلطات الروحية السلطة الزمنية أو الشؤون الزمنية، إذ ليس للشعب سلطة روحية واحدة، بل ‏سلطات يؤيدها التعصب الديني والطائفي الذي يعترف غبطة البطريك في خطابه بوجوده عند أكثر ‏الناس في لبنان. كما وأن الاستمرار في تأييد كون الممثل الديني ممثلاً سياسياً لا يفيد سوى تأييد ‏الاستمرار في اعتبار الجماعة الدينية جماعية سياسية فيظل ‏الشعب مقسماً إلى جماعات دينية تقسيماً يمنعه من الأخذ بالقومية التي هي وحدها تؤمن وحدته ‏السياسية والاقتصادية.‏

بعد الفراغ من إعطاء المبررات اللاهوتية لتدخل غبطته في شؤون الدولة الزمنية ومن الكلام على ‏وكالة رئيس المقام البطريركي الماروني عن الشعب التي نظرنا آنفاً في مبلغ أهميتها يتقدم غبطته ‏إلى معالجة الشؤون الزمنية فيقسم حاجات الشعب إلى ثمانية مواضيع منها ما هو أصلي كالاستقلال ‏والاقتصاد، ومنها ما هو فرعي، كالأمن العام والمحاكم.‏

ولما كان غبطة البطريرك قد ابتدأ بمعالجة الاستقلال رأينا أن نتابعه في ترتيبه وننظر في ما بدأ ‏غبطته بمعالجته.‏

يقول غبطته في باب الاستقلال: "من أهم الأمور التي تتطلبها الشعوب، "الاستقلال" فيعد الاستقلال ‏من جملة أمور هي أهم ما تتطلبه الشعوب، لا أهم الأمور التي تتطلبها الشعوب على الإطلاق. أي ‏أن غبطته لا يعد الاستقلال شرطاً أساسياً لكل مطلب قومي أو شعبي أو الحالة السابقة المفترضة ‏لكل مطلب قومي، التي لا يصح بدونها افتراض مطالب قومية أو شعبية، وهكذا نرى أن غبطة ‏البطريرك يعالج الاستقلال الأصلي معالجة المسائل الفرعية.‏

ويتابع غبطته الكلام في الاستقلال فيقول أنه كان للبنان "شبه استقلال" أما الآن "فقد منح الاستقلال ‏التام بعناية جمعية الأمم وفضل الدولة الكريمة فرنسة المحبوبة" هنا يقر غبطته مبدأ "منح ‏الاستقلال" من قبل صاحب سيادة مستمدة من بعض الاتفاقات الانترنسيونية حلت، بحكم الظروف ‏السياسية، محل السيادة الأصلية العائدة إلى الشعب نفسه. ولا يرى غبطته في "منح الاستقلال" عدم ‏حصول الاستقلال الصحيح وإن المنحة لا تقوم مقام الحق الأصلي وإن ما يجيء منحة قد يذهب ‏منحة وقد يتعرض لإنكار أنه حق أصلي وللنزاع.‏

ثم أن غبطته يفترض أن المعاهدة التي منحت للبنان ولا تزال معلقة على القبول أو الرفض من قبل ‏جانب المانح وجمعية الأمم قد صارت "استقلالاً تاماً" بالفعل ويثبت افتراضه هذا القول الجازم ‏المتقدم، حتى ليتوهم السامع القارئ أن لبنان قد غدا مستقلاً "استقلالاً تاماً" أي حائزاً على جميع ‏شروط الاستقلال التام وهو غير الواقع إذ البلاد لا تزال خاضعة لنظام الانتداب إلى أن تصدق ‏المعاهدة. وبعد تصديقها تظل البلاد خاضعة لثلاث سنوات تجربة ولشروط سياسية وحربية لا تسمح ‏مطلقاً باستعمال تعبير "الاستقلال التام" الذي يستعمله غبطته من غير إحاطة بدقائق الأمر أو تدقيق ‏في القول. ‏

وبدلاً من أن نجد في معالجة غبطته الاستقلال تشخيص الاستقلال الحقيقي وأسبابه الأساسية ‏وعوامله الأصلية، كما كان يكون الأمر لو كان المتكلم خبيراً ‏بالعلوم الاجتماعية والسياسية، نجد غبطته يذهب بعيداً جداً عن الأسباب التي تؤمن الاستقلال، ‏وعوامله الرئيسية، المستمدة من الاجتماع والاقتصاد والسياسة والحقوق فيدخل قضية الحكم بدلاً ‏من قضية الاستقلال، إذ يقول: "فكان على الذين استلموا "يريد تسلموا" مقدرات البلاد باسم الشعب ‏اللبناني أن يقوموا حق قيام بالمهمة التي وكلت إليهم ويبذلوا الغالي والرخيص في سبيل المحافظة ‏عليه ويبرهنوا للشعب والملأ أجمع أنهم كفؤ للحكم وأهل للثقة التي وضعت فيهم" وغبطته يعني ‏بالذين "تسلموا مقدرات البلاد" الحكومة فما شأن الحكومة في مقدرات البلاد أو في "تسلم" هذه ‏المقدرات؟

إن الحكومة في الشعب المستقل، تتسلم "مقدرات البلاد" بل تختار من قبل أصحاب الشأن في هذه ‏المقدرات تسير على سياسة ومنهاج يرضى عنهما متسلمو مقدرات البلاد الذين هم أعضاء الدولة ‏الممثلون في الأنظمة الديمقراطية البرلمانية. بواسطة البرلمان. فالذين يتوجب عليهم "بذل الغالي ‏والرخيص" في سبيل حصول "الاستقلال التام" وتأمين هذا الاستقلال هم الأمة، لا الحكومة فتنشأ ‏من الأمة للأغراض التي تريدها الأمة أو تقبلها الأمة.‏

أما قول غبطته "الذين تسلموا مقدرات البلاد باسم الشعب اللبناني" فبعيد عن الواقع لأن مقدرات ‏البلاد لا تزال في عهدة الانتداب، الذي إليه يعود القول الفصل في مصير هذه المقدرات وإنها ‏لمسؤولية خطيرة أن يقول ذو مقام عال كغبطة البطريرك أن لبنان قد نال "الاستقلال التام" وأن ‏هناك من تسلموا مقدرات البلاد باسم الشعب اللبناني.‏

ثم أن غبطة البطريرك، بعد أن يحل قضية الحكم محل قضية الاستقلال، يعطف الكلام على ‏‏"الحكام" فيتكلم فيهم بما لا يتفق مع النظرة العصرية في الحكومة وبما يتفق مع صورة "الحكام" ‏القدماء دبشليم الملك وبكلام يذكرنا كثيراً كلام بيدبا الفيلسوف ونصائحه وإرشاداته التي قالها بنفسه ‏أو أجراها على لسان الحيوانات فمن ذلك قوله: وآفة الحكام حب الاستبداد الخ" وقوله "وكم من ‏ملوك أضاعوا عروشهم لقلة اهتمامهم بمصالح الجمهور" وقوله "فالذي يحكم الشعب يجب أن ‏يكون فوق الشعب بصفاته الأدبية الخ" فيرينا في مبدأ الحكومة العصرية صورة الحكام الأقدمين ‏الذين كانوا يدعون أنهم فوق الشعب وأن السلطة مستمدة من الله. ولكنه يعود فيعطينا صورة أخرى ‏من "الحكام" في باب "توزيع الوظائف والمنافع" فيقول "إن الحكام مؤتمنون على مصالح الشعب ‏تحت أجرة معينة" فيترك السامع أو القارئ يتخبط في ديجور من الصور الغامضة عما هي ‏الحكومة وما هم الحكام في الوقت الذي يقر من فيه مبدأ يتضارب مع أساس الحقوق الدستورية ‏والمبادئ الأساسية للدولة وهو مبدأ كون الحكومة حكاماً فوق الشعب وظيفتهم حكم الشعب.‏

ويعود غبطته إلى الاستقلال فيخص "الاستقلال اللبناني" الممنوح ويتأسف: "أن يتكون فريق من اللبنانيين وأحزاب تحت سيطرة الأجانب كالحزب السوري القومي ‏الاجتماعي والحزب الشيوعي ضد الاستقلال للبنان" وهذه كل العوامل السلبية المقوضة أركان ‏الاستقلال. أما العوامل الإيجابية التي تعمل على المحافظة على الاستقلال الممنوح فهي "المنظمات ‏اللبنانية" التي أنشئت بمعرفة الحكومة وإجازتها وتنشيطها للدفاع عن استقلال لبنان ولم يبد منها ما ‏يضاد تلك الغاية النبيلة". ‏

أما قول غبطته "وأحزاب تحت سيطرة الأجانب كالحزب السوري القومي الاجتماعي والحزب ‏الشيوعي" ففيه خروج عن الحقيقة لا نظن إلا أنه من عمل المغرضين المتحاملين، الذين خلطوا بين ‏الليل والنهار وكان النور في أعينهم ظلاماً فسمع غبطته صوت الخور أسقف لويس خليل ولم يبلغ ‏أذنيه صوت الخوري مسعد لكثرة الأصوات المضجة حوله، والخروج هو فيما يختص بالحزب ‏السوري القومي الاجتماعي الذي اتهمه خصومه بالعمل لإرادة أجنبية، لأن الحزب الذي قام بنقض ‏الإرادات الأجنبية في تقرير مصيرنا ويعمل لإيجاد الأساس الوحيد لقيام الاستقلال التام الحقيقي، ‏الذي هو وحدة الأمة ووحدة مصالحها ووحدة إرادتها فوضع الحزب القومي إلى جانب الحزب ‏الشيوعي القائم بإرادة أجنبية والمسير برغبات أجنبية، مع أن تاريخ نشوء الحزب القومي والعوامل ‏الأصلية العاملة فيه تدل دلالة صريحة على أنه الحزب الوحيد في البلاد الذي أوجد أساس وحدة ‏الأمة ووحدة مصالحها وعمل على تعيين أسباب الاستقلال التام الحقيقي وتحقيقها.‏

ولابد لنا من القول أنه في كل التحقيقات المباشرة والمداورة التي أجريت مع الحزب السوري ‏القومي الاجتماعي بقصد الوقوف على حقيقة الأمر بصدد الإشاعات المختلفة التي أشاعها عنه عبيد ‏الإرادات الأجنبية لم يجد المحققون العلنيون ولا المحققون السريون مثل هذا التصريح الخطير، ‏الذي يفوه به غبطة البطريرك نفسه لمصلحة دولة أجنبية: "فهذه دولة إيطالية أنجح دول العالم" في ‏الوقت نفسه الذي يشيد فيه غبطته بفضل "الدولة الكريمة فرنسة المحبوبة".‏

أما وضع غبطته الحزب السوري القومي الاجتماعي ضد الاستقلال فهو غير مبني على معرفة ‏صحيحة لحقيقة الحزب السوري القومي الاجتماعي.‏

وأما جعله "المنظمات اللبنانية" في جانب العوامل الإيجابية المؤيدة الاستقلال وقول غبطته "ولم ‏يبدو منها ما يضاد تلك الغاية النبيلة" فالجواب عليه هو إنه إذا كانت الانقسامات الطائفية، والدينية ‏تكون من عوامل تحقيق الاستقلال وتثبيته "فالمنظمات" تكون من هذه العوامل بدليل حوادث ‏الخامس عشر من نوفمبر 1936 وحادث بنت جبيل وغيره. وفي هذه الحوادث ما ينقض عبارة ‏غبطته: "ولم يبدو منها ما يضاد تلك الغاية النبيلة".‏

والحقيقة أن المنظمات اللبنانية كان يجب أن ترد في خطاب غبطة البطريرك ‏في عداد العوامل، التي تعمل لتفكيك الأمة وإبطال إمكانيات استقلالها التام. فتضاف إلى العوامل ‏الأخرى التي من أهمها مزج الدين بالدولة وتدخل رجال الدين في شؤون السياسة والقضاء ‏القوميين.‏

وأما شكر غبطته للحكومة مقاومة الحزب السوري القومي الاجتماعي، فإذا كان الباعث عليه ‏مصلحة البطريركية فهو شكر في محله. أما إذا كان الباعث عليه الغيرة على مصلحة الأمة ‏واستقلالها فهو في غير محله لأنه يعني تهديم الحزب الذي أنشأ عقيدة القومية الصحيحة وحول ‏الأمة عن الانقسامات الدينية والطائفية إلى الوحدة القومية التي هي أساس كل استقلال صحيح.‏



.... للبحث صلة،


نشر هذا البحث التحليلي في جريدة "النهضة" الصادرة في بيروت، وذلك ‏ابتداء من العدد 58 تاريخ 18 كانون الأول سنة ‏‏1937‏





 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024