إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

القضية الوطنية جزء 3

أنطون سعادة

نسخة للطباعة 1924-02-01

إقرأ ايضاً


ليس أمامنا في طول التاريخ وعرضه شهادة تاريخية واحدة ثابتة تدلنا على أننا ألفنا في الماضي البعيد أو القريب وحدة عنصرية كاملة أو وحدة مدنية ثابتة أو حدة سياسية راسخة مع أمة أخرى بل كل ما كان هنالك فتوحات وغزوات عديدة من كل حدب وصوب كان لبعضها تأثيرا في البلاد السورية أكثر من غيرها مثل الفتح الروماني والفتح العربي أما الفتح التركي فلم يؤثر في البلاد إلا من الوجهة السياسية البحتة ومع أننا لم نكن في زمن من أزماننا الماضية مستقلين استقلال امة كاملة فإننا رغما من كل الفتوحات والغزوات التي أدخلت فينا عناصر وجنسيات غريبة بقينا أمة واحدة كاملة كيفت من مختلف عناصرها وجنسياتها عوائد وتقاليد ومدنية امتازت هي دون غيرها بها ومع أن الإسلام أصبح هو القوة الوحيدة التي أثرت بنوع خاص على المدنية السورية فإن الإسلام أصبح بعد دخوله سوريا وبقائه فيها ديانة تخص سوريا كما تخص سائر العالم لأن الإسلام وإن يكن قد ابتدأ على هيئة حركة وطنية عربية فقد أصبح أخيرا قوة روحية عالمية لا تخص العرب أكثر مما تخص سواهم.

وإذا أضفت إلى ما تقدم للأدلة الجغرافية التي تفصل بلادنا بخطوط طبيعية واضحة عن البلدان الأخرى ظهر لك جليا أننا مجموع بحق يدعى أمة سورية وأن لنا بلاداً بحق تسمى وطنا كاملا لا يمكن تجزئته كما سنبينه في الكلام على وحدتنا. فوحدتنا من حيث أننا مجموع واحد يعيش في بلاد واحدة أمر موجود لأنه طبيعي والذي يزيد وحدتنا حتمية كوننا منفصلين عن غيرنا انفصالا تاما وشعورنا بهذا الانفراد، فنحن، رغم تنابذنا في أمور كثيرة نرانا كتلة واحدة تتأثر بالعوامل تأثرا واحدا لا نقدر أن ننكره بصورة ما وهوذا جاليتنا في البرازيل وجوالينا الباقية في البلدان الأخرى شواهد حية تلك على أننا كنا ولا نزال نعيش مجموعا واحدا في البلدان الأخرى شواهد حية تدلك على أننا كنا ولا نزال نعيش مجموعا واحدا سواء كنا في وطننا أو خارجه.

إذا بقي عند أحد شك في أننا مجموع متحد فليهب إلى أي فرد من أفرادنا المتنورين ويباحثه فيزول شكه أو ذا كان يريد برهانا من غير المتنورين فيذهب إلى الفلاحين وسائر العامة وليراقب أعمالهم متنقلا من بلد إلى بلد يرى من ترابطهم بعضهم ببعض، بصرف النظر عن الوجهة الدينية التي لا تزال سلطتها الزمنية ذات صولة قوية في سورية، برهاناً يفحمه ومن الأمور التاريخية العجيبة التي يحق لنا الافتخار بها أننا رغما من كل الأمم التي قدمت من أربعة أقطار المسكونة لابتلاعنا وجعلنا جزءا منها بقينا سوريين وأرغمنا عناصر تلك الأمم الغازية فينا على كيفية أصبحت معها من صميمنا تعيش عيشتنا وتشعر شعورنا وتتأثر تأثرنا وأصبحنا وإياها أمة واحدة.

يجدر بنا الآن بعد أن توصلنا إلى النتيجة المتقدمة أن نأتي على تعليل النظريتين المتطرفتين اللتين كانتا اكبر العوائق التي قامت في سبيل سير قضيتنا الوطنية سيرا منظما محمودا وما نظرية الأحزاب والأفراد القائلة بأننا عرب وأن بلادنا تؤلف جزءا من امبراطورية عربية والنظرية الأخرى المعاكسة لها تماما وهي نظرية الأحزاب والأفراد القائلة أننا أجزاء متعددة، كل جزء منا أمة ودولة مستقلة أما النظرية الأولى فدعامتها الكبرى التي استند إليها القائلون بها الاسلام الذي هو العلاقة الوحيدة التي بقيت لبلاد العرب بنا بعد علاقتي العنصر واللغة اللتين اضمحلتا الآن اضمحلالا تاما من حيث أنهما علاقتان تؤثران في كون سوريا أمة تأثيرا يفيد عكس ذلك فالسوريون الذين يعودون في الأصل إلى عنصر عربي لم يعد فيهم من ذلك العنصر ما يميزهم به إلا الاسم وهذا أيضا لم يعد يعول عليه الآن بعد الامتزاج الغريب الذي حدث بين العناصر المختلقة التي وجدت في سوريا على كيفية مدهشة ومع أن السوريين إجمالا لهم تعلق بالصفات التي اشتهر بها العرب كالمروءة ولشهامة والعفة والكرم وما شاكل، فأنك إذا أدخلت فريقا من السوريين بطريقة ما إلى داخلية بلاد العرب لوجدوا من الفوارق المتعددة بينه وبين العرب ما يجعلهم لا يطيلون الإقامة معهم إلا مضطرين أما الإسلام فقد توهم كثيرون أنه يكفي لتجريدنا من سوريتنا وإدغامنا في العرب إدغاما لا يعود يفرقنا عنهم في شيء وهو غلط واضح لا يشفع في مرتكبيه إلا حسن القصد وعدم التعمق في نظرياتهم تعمقاً يدركون معه الحقيقة، ذلك لأن الإسلام خرج من السيطرة العربية منذ ابتدأ أن يدين به غير العرب فهو في سوريا ديانة سورية كما انه في الهند ديانة هندية وفي تركيا ديانة تركية. إنه أصبح دينا للعالم وقوة روحية عالمية كما أصبح الدين المسيحي كذلك بعد أن كان ديناً وُجد لليهود أولا وأظن أن ما تقدم كاف لتعليل هذه النظرية وتبين خلوها من الحقائق الحيوية التي لا بد من الاستناد إليها في مثل هذه الأبحاث والنظريات.

.... للبحث صلة،

"المجلة" الجزء الأول، السنة العاشرة، فبراير 1924


 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024