شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية 2014-12-01
 

مقال "مات سعيد عقل": تعليق يستدعي حواراً

أحمد أصفهاني

أثار مقالي الأخير "مات سعيد عقل" بتاريخ 28 تشرين الثاني 2014 ردود فعل واسعة بين الرفقاء والمواطنين الذين أرسلته إليهم، غالبيتها العظمى كانت مرحبة مع ملاحظات بسيطة هنا أو هناك. وأعترف بأن هذا الأمر يسعدني ويريحني لأن الهدف من كتابة هذه المقالات وتوزيعها على مجموعة منتقاة من المؤمنين بالفكر القومي الاجتماعي هو خلق إطار للحوار الفكري والثقافي والسياسي بما يغني مخزوننا الإبداعي القومي.

ولا بد أولاً من الإشارة إلى أن مقالاتي هذه توزع على لائحة محدودة من العناوين الإلكترونية، ولا أعمد شخصياً إلى نشرها في أية وسيلة إعلامية أخرى. لكن يحدث أن بعضهم، مع موافقتي الكاملة، يتولى توزيعها ونشرها في مواقع إلكترونية عدة ووسائل إعلامية مطبوعة. وهذا ما يساعد أيضاً في تعزيز مجالات الحوار.

وكنتُ قررتُ منذ البداية أن لا أعلق بصورة علنية على أية ردود تصلني على مقالاتي، حتى لا ندخل في جدال عقيم يصح فيه القول "المعرفة التي لا تنفع كالجهالة التي لا تضر"! غير أنني حرصتُ دائماً على التواصل المباشر مع أصحاب الردود من أجل إيضاح ما يكون قد أشكل عليهم، أو ما أكون قد أخطأت فيه... إذ أن العاملين وحدهم هم الذين يكونون عرضة للخطأ.

لكنني هذه المرة فقط سأتجاوز القاعدة التي رسمتها لنفسي والتزمت بها خلال السنتين الماضيتين، وسأعمد إلى مناقشة تعليق وصلني بطريقة غير مباشرة. والسبب في ذلك أن كاتب التعليق يثير مسألتين إشكاليتين مهمتين أرى من الضروري نقل البحث فيهما إلى النطاق العلني، لأن في ذلك إغناء لحوارنا الفكري المنشود. ومنذ البداية أرى من واجبي التأكيد على أن المقصود ليس شخصاً بعينه، ولذلك أغفلت عن ذكر أية أسماء في معرض هذا المقال.

جاء في التعليق على مقالي "مات سعيد عقل" ما يلي (سمحت لنفسي بتصحيح بعض الأخطاء الطباعية): "تمام إلا اَخر عبارة: يعني يدنس الأرض في فلسطين أما في لبنان مش مشكلة. هذه أيضاً أفكار ما قبل النهضة لأن فلسطين ليست مقدسة أكثر من أسكندرون، قبرص، أنطاكيا، سيناء، والأهواز. فكل بلادنا بنفس القيمة. إضافة إلى ذلك، شو يعني مقدسة؟ هل نعني المفهوم القومي أو الديني؟ ومن يدرس يدرك أن تقديس الأماكن كان قبل الديانات المعروفة بالسماوية وأستمر؛ فالمعبد أصبح كنيسة وجامعاً".

المسألة الإشكالية الأولى هي استخدامي كلمة "مقدسة". إن كاتب التعليق محقٌ في اعتباره أن كل جزء من بلادنا "مقدس"، وليست فلسطين وحدها "مقدسة"! ولا نقصد هنا المضامين الدينية لكلمة "المقدس" كما باتت متداولة في الوجدان الشعبي بقدر ما نريد القول إن بلادنا عزيزة علينا إلى حدود "القداسة". وهي صورة بيانية تأخذ في الاعتبار المجال الذي تستخدم فيه. ولذلك من الضروري قراءتها في سياقها الأدبي العام من دون السقوط في التفسيرات الماورائية. فسعيد عقل "المدنس" بالخيانة والعنصرية تناول فلسطين والفلسطينيين، ولو أنه تناول الشام أو العراق أو الكويت... لكانت الصورة البيانية تعتبر كل هذه المناطق "مقدسة"... وهي بالفعل كذلك بالنسبة إلينا.

ثم أن الحديث عن فلسطين في سياق تناول سعيد عقل لا يعني أبداً نسيان الإسكندرون وكيليكيا وأنطاكيا والأحواز... وغيرها من المناطق السورية السليبة. ترى هل كان سعاده ناسياً فلسطين عندما ركز معظم نشاطاته وكتاباته في الثلاثينات على الإسكندرون؟ وهل كان ناسياً الإسكندرون عندما ركز على فلسطين في الأربعينات؟ مستحيلٌ ذلك، لكن لكل مقام مقالاً ولكل مناسبة مفرداتها.

المسألة الإشكالية الثانية التي جاءت في التعليق أعلاه تتعلق بالإسلوب المستخدم في التعبير عن أفكارنا. المقال الذي كتبتُه هو من نوع الأدب السياسي. واللغة المستعملة فيه تستفيد من كل المحسنات البديعية من كناية وتورية ومجاز وتناقض واستعارة...إلخ. والأسلوب الذي يصح في التحليل السياسي الدقيق قد لا يفيد في النص الأدبي. وهذا يعني بالتالي أن اختيار المفردات يخضع لقدرة مفردة بعينها على التأثير في القارئ أو المستمع، وفي الوقت نفسه اللعب على أوتار التعبير. فكلمة "مقدسة" التي جاءت في مقالي تضخّم صورة "المدنس" الذي هو سعيد عقل. فالكلمة هنا ذات وظيفة وليست فقط ذات معنى، سواء كان دينياً أو دنيوياً.

سعاده نفسه كان مبدعاً في هذا الحقل. خذ مثلاً عبارته في أحد خطبه: شهد العالم أدياناً تهبط من السماء إلى الأرض أما الآن فيشهد ديناً يصعد من الأرض إلى السماء. من المستحيل التصور أن كلمة "دين" الواردة هنا تحمل نفس المضامين الماورائية التي يشعر بها أتباع الأديان السماوية. ما تثيره الكلمة في نفوس القوميين الاجتماعيين هو السمو والرفعة والمناقب والسعي إلى مثال أعلى وإلى تحقيق قيم الحق والخير والجمال. الكلمة التي نطق بها سعاده في معرض خطابه التعبوي سرعان ما تفقد مدلولاتها المتداولة وتتخذ لنفسها مساراً معنوياً مختلفاً بين القوميين.

أردت تناول هذه المسألة نظراً إلى بروز نزعة عند بعض القوميين تدعو إلى التوقف عند الحدود الظاهرة للمفردات. أذكر في سنواتي الجامعية في السبعينات أننا كنا نتندر بجواب لأحد القياديين الحزبيين عندما سأله صحافي عن موقف الحزب من حدث مهم، فقال:"نحن لا نقف، نحن نسير"! هذه الفذلكة الكلامية دليل عجز وليست دليل قدرة. فنحن، أولاً وقبل كل شئ، أبناء الحركة التي تقوم على التعيين الذي هو شرط الوضوح واليقين.

إن الروح تحيي أما الحرف فيميت.



 

جميع الحقوق محفوظة © 2024 -- شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه