إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

"الدور" المصري المتجدّد: حدود القدرة وحدود المناورة

أحمد أصفهاني

نسخة للطباعة 2015-02-04

إقرأ ايضاً


يكثر الحديث هذه الأيام عن عودة مصر إلى لعب دورها الإقليمي المؤثر بعد سقوط حكم "الإخوان المسلمين" بقيادة محمد مرسي. فالقيادة الجديدة برئاسة اللواء عبد الفتاح السيسي تحظى بدعم المؤسسة العسكرية، تماماً على غرار كل حكام مصر منذ ثورة تموز سنة 1952 ولغاية سقوط حسني مبارك أمام التحرك الشعبي الواسع الذي خطفه "الإخوان المسلمون" بغفلة عن قوى التغيير الوطنية التي فشلت في توحيد صفوفها وبلورة برامجها لمواجهة الإنتهازية السياسية المشهورة لدى جماعة "الإخوان".

إن "الدور" المصري الجديد أو المتجدد يحظى بدعم قوي من بعض الدول الخليجية كخطوة إضطرارية لا غنى عنها لاحتواء نفوذ دول إقليمية ذات حضور قوي في المنطقة، والمقصود بذلك تحديداً تركيا وإيران. كما أن الغرب الأميركي ــ الأوروبي ينظر بعين القبول إلى الحراك المصري الإقليمي (من دون التخلي عن إسطوانة حقوق الإنسان والحريات العامة للشعب المصري!!)، خصوصاً لجهة التعامل مع الوضع الليبي الكارثي في شمال أفريقيا وضبط الأوضاع المتدهورة في سيناء وتأثيراتها على قطاع غزة المحاصر إسرائيلياً ومصرياً من ناحية أخرى.

ولكي نفهم بدقة طبيعة "الدور" المصري المتجدد على مستوى العالم العربي، لا بد من الرجوع قليلاً إلى الماضي القريب لوضع "الدور" المصري القديم في سياقه التاريخي. قبل ثورة تموز سنة 1952، تنازعت النخبة الفكرية والسياسية المصرية ثلاثة توجهات هي: الإسلامية، والمصرية (الفرعونية ــ المتوسطية)، والعربية. وكانت الأضعف بينها النزعة العربية، في حين تراجعت نسبياً النزعة الإسلامية بعد فشل الملك فؤاد الأول (1917 ــ 1936) في جهوده لملء فراغ الخلافة الإسلامية التي ألغتها تركيا سنة 1924. وطيلة ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي، بقيت نزعة الوطنية المصرية (ذات النكهة الفرعونية أو المتوسطية) الأبرز لدى النخب الفكرية والاجتماعية والسياسية المصرية.

أول "دور عربي" مصري فاعل في التاريخ المعاصر تمثل في طريقة تعامل الملك فاروق (1936 ــ 1952) مع المسألة الفلسطينية. ومن نافلة القول إنه كان دوراً تآمرياً على فلسطين، ذلك أن مجلس قيادة الثورة المصرية الذي أطاح بالعرش الملكي أورد التقاعس الرسمي المصري من ضمن الأسباب التي دفعت إلى قيام الثورة. ولم يكن مثل ذلك "الدور" مستغرباً لأن القرارات السيادية كانت بيد الإنكليز وليس بيد المصريين.

لم تتضح هوية الثورة المصرية كثيراً في السنوات الثلاث الأولى من عمرها. ويمكننا القول إن التوجه العربي لدى الرئيس جمال عبد الناصر لم يتبلور إلا في سنة 1955 بعد أن إستتبت له أمور السلطة في أعقاب التخلص من محمد نجيب. وهكذا بدأت مرحلة "القومية العربية" بصيغتها الناصرية التي وصلت ذروتها في الفترة بين سنة 1956 (العدوان الثلاثي) وسنة 1962 (التدخل العسكري الكارثي في اليمن). وكي لا نغرق في متاهات تقييم التجربة الناصرية برمتها، وهي تجربة غنية ومعقدة وعاصفة، لا بد من التأكيد على أن "الدور" المصري كان مصيرياً في مراحل مختلفة لكنه ترك في الوقت نفسه تداعيات سلبية على مستوى العالم العربي ليس أقلها هزيمة حزيران سنة 1967 التي شكلت بداية النهاية المأسوية للمد الناصري، وبالتالي لـ "دور" مصر.

أما بعد عبد الناصر، من أنور السادات إلى حسني مبارك، فقد بات "الدور" المصري جزءاً من الإستراتيجية الأميركية ــ الغربية الساعية إلى رسم مسار جديد للعالم العربي، وبالتحديد لما عُرف آنذاك بـ "الجبهة الشرقية"، أي الأردن وسورية ولبنان (وفلسطين طبعاً). إن حرب تشرين سنة 1973 شكلت الإستثناء من حيث التخطيط والتنفيذ، لكنها كانت بالنسبة إلى السادات "مناورة سياسية" أوصلته لاحقاً إلى زيارة القدس المحتلة... وبالتالي شرّعت الأبواب للحرب الأهلية اللبنانية سنة 1975 التي استنزفت لبنان وسورية ومنظمة التحرير الفلسطينية، وصولاً إلى الغزو الإسرائيلي للبنان سنة 1982، منتهية بالقضاء على الوجود الفلسطيني عند "الجبهة الشرقية" وتشريد المقاتلين الفلسطينيين في أنحاء العالم العربي.

في خضّم التحولات السياسية للقيادات المصرية منذ وفاة عبد الناصر سنة 1970، تُرى ما هي طبيعة "الدور" المصري في هذه المرحلة بالذات، آخذين في الاعتبار فترة إنكفاء القاهرة على ذاتها خلال السنوات الأخيرة من حكم مبارك... أللهم إلا في ما يتعلق بملف المفاوضات الفلسطينية ــ الإسرائيلية بعد التوقيع على إتفاقية أوسلو سنة 1993، وهي مفاوضات لم تحقق أي تقدم إلى يومنا هذا؟؟

نحن نرى أن "الدور" المصري محكوم بمجموعة إعتبارات، أهمها على الإطلاق علاقات القاهرة الإقليمية والدولية. إن الوضع الداخلي سيشكل على الدوام عنصر قلق وإزعاج لحكم الرئيس السيسي، خصوصاً القطيعة الدموية مع جماعات الإسلام السياسي. كما أن التدهور الإقتصادي يحمل بذور إضطرابات شعبية، غير أن الدعم الخليجي سيساعد في لجمها على الأقل في المدى المنظور. أما على المستوى الخارجي، فتبدو القاهرة مشدودة إلى:

أولاً، الدعم الخليجي المالي والسياسي الذي يسعى في المقابل إلى الحصول على سند قوي يرتكز على "الثقل" المصري لتحقيق توازن مع نفوذ تركي ونفوذ إيراني فاعلين ومؤثرين في العالم العربي.

ثانياً، العلاقة الإستراتيجية مع الولايات المتحدة الأميركية التي ربما لا تتماهى سياساتها المرحلية مع بعض الطموحات الخليجية الإقليمية.

ثالثاً، معاهدة الصلح مع إسرائيل بكل ما تفرضه على مصر من إلتزامات سياسية وأمنية واقتصادية، بعضها مُجحف (بل ومضر) بالمصالح القومية المصرية العليا.

إن القاهرة، المكبلة بأعباء هذه الورثة الثقيلة، لا تبدو قادرة حالياً على حسم خياراتها الدولية والإقليمية. ولذلك ستجد أن السبيل الوحيد أمامها لاستعادة فعاليتها هو أن تعمل على صياغة "دور" يحقق لها توازناً إقليمياً يلعب على تقاطعات المصالح الدولية. والواقع أن ما نشهده الآن من تحركات خجولة، منها على سبيل المثال اجتماع المعارضة السورية، لا ينبئ بقرب خروج القيادة المصرية من عنق الزجاجة التي حُشرت فيها منذ "معاهدة كامب ديفيد". هذا لا يعني قط أن الطريق مسدود بالكامل أمام مصر للقبض على زمام "دورها" إنطلاقاً من مصالحها القومية الأساسية. فكما أن "الجبهة الشرقية" كانت المنصة التي أعطت عبد الناصر إطلالته المؤثرة على العالم العربي ومنه إلى منظومة دول عدم الانحياز، فإن "الجبهة الشرقية" المتمثلة حالياً بمحور المقاومة وركيزته دمشق هي المعبر الوحيد الباقي لـ "دور" مصري يمتلك إرادة الخروج من شرنقة الإنعزال التي حاكها السادات ورسّخها مبارك!


 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024