إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

صراعات عالمية وإقليمية: تسوية كبرى أم مواجهة كبرى؟

أحمد أصفهاني

نسخة للطباعة 2015-02-24

إقرأ ايضاً


تتعرض بلادنا السورية وعالمنا العربي لمؤامرة كبرى مركزة منذ توافق السلطان التركي عبد الحميد الثاني مع أقطاب الحركة الصهيونية في مطلع القرن الماضي، وصولاً إلى إتفاقية سايكس ــ بيكو الإستعمارية ووعد بلفور غير القانوني بعد ذلك. وهي مؤامرة مستمرة حتى هذه اللحظة. لكن الاكتفاء بالحديث عن عنصر المؤامرة وحده لتفسير وفهم ما يجري في وطننا الآن يكاد يعمي بصرنا وبصيرتنا عن رؤية أبعاد المتغيرات الإقليمية والعالمية التي ترسم مسار الأحداث بحيث يختلط العامل المحلي بالعوامل الأخرى الخارجة عن سيطرة صناع القرار في عواصمنا، فيضيع الإتجاه السليم لبوصلة العمل القومي.

نحن نعيش ظاهرة صراعات متعددة ذات طبقات متباعدة، لكن متداخلة بقوة في الوقت نفسه. سنبدأ بالعالمي وصولاً إلى المحلي. وهدفنا في هذه العجالة ليس التعامل التفصيلي مع تلك الصراعات بل إدراك طبيعتها الأساسية وبالتالي تأثيرها في الصراعات الأدنى.

هناك صراع أميركي ــ روسي دخل بالفعل ما يمكن أن نسميه الحرب الباردة ــ الساخنة. وساحات هذا الصراع تمتد من حدود أوروبا الشرقية إلى أطراف أميركا اللاتينية، وبينهما الشرق الأوسط وآسيا الوسطى وغيرهما. المواجهة في بعض هذه المناطق ما زالت "باردة"، لكنها أصبحت "ساخنة" ودموية في مناطق أخرى. والأمثلة على ذلك باينة للعيان ولا ضرورة للخوض في تفاصيلها من جورجيا إلى أوكرانيا إلى فنزويلا إلى سورية إلى العراق...إلخ. ومع ذلك لا بد من الإشارة إلى أن المعركة حول أوكرانيا ستترك تداعيات خطيرة للغاية على مجمل العلاقات الأميركية ــ الروسية والأوروبية ــ الروسية والأطلسية ــ الروسية.

في هذه المواجهة، تعتمد واشنط على "الغرب الأوروبي" (الحلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي)، وهو غرب يبدو متماسكاً حتى الآن على الرغم من بروز تصدعات ملحوظة في عدد من الملفات الإشكالية. غير أن طبيعة العلاقة التي تربط الولايات المتحدة بأوروبا، والدور الحيوي الذي يلعبه الحلف الأطلسي في إستراتيجية "الدفاع" عن أوروبا يجعلاننا نعتقد بعدم قدرة القيادات الأوروبية على التفلت من النفوذ الأميركي ذي الإمتدادات العسكرية والأمنية والاقتصادية والسياسية. ولذلك فإن أي رهان على استخلاص إستقلالية أوروبية في القضايا السياسية العالمية هو رهان في غير محله على المدى المتوسط، على الأقل.

ثم هناك صراع أميركي ــ صيني ما زال تحت السيطرة، ولم يصل بعد إلى حد "الحرب الباردة"... لكنه يسير في هذا الاتجاه بسرعة ملفتة بعد إعلان الإدارة الأميركية سنة 2011 أن منطقة جنوب شرق آسيا وبحر الصين الشرقي والمحيط الهادئ برمته تحتل أولوية إستراتيجية بالنسبة إلى الأمن القومي الأميركي. وتعتمد الولايات المتحدة في "محاصرتها" الصين على حلفاء يمكن أن نطلق عليهم لقب "الغرب الآسيوي"، وهو مكون من دول تدور في الفلك الأميركي منذ إنتهاء الحرب العالمية الثانية، أمثال اليابان وأستراليا وإندونيسيا والفيليبين وتايوان وكوريا الجنوبية وتايلاند وغيرها. وقد شهدت السنوات الثلاث الماضية توقيع عدد من الاتفاقات الأمنية والعسكرية بين الولايات المتحدة وبعض هذه الدول تتضمن السماح بتمركز قوات أميركية في قواعد عسكرية آسيوية، وإجراء مناورات دورية مشتركة، وبيع معدات وأسلحة متطورة لدول "حليفة" بهدف خلق توازن مع تطور ونمو القدرات العسكرية الصينية.

هذان الصراعان العالميان، والعنصر المشترك فيهما هو الولايات المتحدة الأميركية، يدفعان نحو بناء تحالفات بين الدول التي تشعر بأن الإستراتيجية الأميركية تستهدفها تحديداً. ولكن مثل هذا التحالف لم يتبلور تماماً بعد. فالحديث عن مجموعة "بريكس" (البرازيل، وروسيا، والهند، وجنوب أفريقيا، والصين) بوصفها تحالفاً قادراً على خلق نوع من التوازن مع الولايات المتحدة والغربين الأوروبي والآسيوي هو كلام سابق لأوانه، إذ لم تتعد تفاهمات هذه الدول الخمس الجوانب الاقتصادية والمالية... بل أن الهند تسعى من جهتها، بشكل أو بآخر، إلى بناء علاقات خاصة مع الولايات المتحدة من أجل إيجاد توازن مع الصين التي خاضت معها حرباً دموية قصيرة في ستينات القرن الماضي، وما زالت وإياها على طرفي نقيض في عدد من الخلافات الحدودية.

في إطار هذين الصراعين العالميين، وجدت بلادنا نفسها في خضم صراعين مستجدين هما: الصراع الخليجي ــ الإيراني، والصراع السني ــ الشيعي. ومن الطبيعي أن تكون لهذين الصراعين إرتباطات بالصراعين العالميين اللذين ذكرناهما أعلان. غير أن خطورتهما تكمن في كونهما مندمجين في سياق واحد، وأنهما يتخطيان الجغرافيا السياسية ليتغلغلا في صميم النسيج الاجتماعي للشعب الواحد حسب الإنتماءات المذهبية للجماعات المكونة لهذا المجتمع أو ذاك. وقد استعملنا عبارة "الصراعين المستجدين" لأنهما حلا مكان صراعنا التاريخي المصيري مع الوجود الصهيوني الذي يهدد وجودنا القومي برمته. فمنذ مطلع القرن الماضي كانت صورة المواجهة في بلادنا واضحة إلى حد بعيد: مشروع صهيوني يدعمه استعمار غربي يهدف إلى استكمال تفتيت ما تبقى من بلادنا بعد سلب أجزاء أساسية منها شمالاً وجنوباً، في مقابل مشروع نهضوي يناضل من أجل "إيقاظ الوجدان القومي وتأسيس الأخلاق القومية ورفع مستوى الأمة إلى مرتبة الأمم الحية". (أنطون سعاده، 4 تشرين الثاني سنة 1937).

وظلت المعركة بين هذين المشروعين سجالاً على مدى السنوات المئة الماضية، نُهزم في أحيان وننتصر في أحيان أخرى... لكن بوصلة الصراع بقيت جليّة في كل الأحيان. أما ما يحدث في سورية والعالم العربي اليوم فهو انخراط عبثي في صراع إقليمي مذهبي ربما يتقاطع مع بعض الاعتبارات المحلية، لكنه في المحصلة النهائية لن يكون في صالح قضايانا القومية المصيرية.

الحرب الباردة ــ الساخنة الناجمة عن الصراعين العالميين الأميركي ــ الروسي والأميركي ــ الصيني ستحدد بشكل أو بآخر (في القريب العاجل على ما نظن) مسار الصراعين الآخرين الخليجي ــ الإيراني والسني ــ الشيعي (والصراعان، في رأينا، وجهان لمعضلة واحدة)، وبعدهما الصراعات المحلية المتنوعة من سورية إلى العراق، ومن ليبيا إلى تونس، ومن مصر إلى السودان، ومن أوكرانيا إلى صربيا! فإما أن تسير القوى الفاعلة في كل هذه الصراعات، على مستوياتها المتعددة، إلى ما يمكن أن نسميه "التسوية الكبرى" أو أن نقترب جميعاً من هاوية "المواجهة الكبرى" في كل صراع على حدا... وقلقنا العميق أننا أقرب إلى المواجهة منا إلى التسوية!!

 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024