إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

"هل يفلح سعاده؟" سؤال 1937... جواب 2015!

أحمد أصفهاني

نسخة للطباعة 2015-03-02

إقرأ ايضاً


قبل مدة كنت أراجع الجزء الثاني من "الأعمال الكاملة" لسعاده في إطار بحث أقوم به حالياً، عندما توقفت أمام مقال في الصفحة 232 بعنوان "هل يفلح سعاده؟" أحسست أنني لم أكن قد إطلعت عليه سابقاً. قرأت المقال بتمعن، فتأكد لي أنني لم أره من قبل! عدت إلى "الآثار الكاملة" الصادرة في السبعينات والثمانينات، والتي شكلت مرجعنا الأساسي قبل "الأعمال الكاملة"، فلم أجده منشوراً فيها. استفسرت من بعض الرفقاء المطلعين بدقة على كتابات الزعيم، فأكدوا مثلي عدم معرفتهم به.

كان يمكن ترك الموضوع برمته لولا أن المقال ذو أهمية بالغة في أفكاره وفي توقيته وفي دلالاته المستقبلية. والسؤال الأول الذي طرحته على نفسي هو التالي: هل يوجد خطأ في عدم النشر أو في النشر؟

للوصول إلى جواب يقيني، كان لا بد من العودة إلى أعداد جريدة "النهضة" التي نُشر فيها المقال، فتبين أنه يحمل توقيع أنطون سعاده بوضوح تام لا يدع أي احتمال للشك. إذن، لماذا تجاهلته طبعة "الآثار الكاملة"، علماً بأنها ضمت كثيراً من مقالات سعاده المنشورة في "النهضة" قبل تاريخ ذلك المقال وبعده؟

لا يمكن القول إن المقال "سقط سهواً" من "الآثار الكاملة"، فهو يحتل مكاناً بارزاً في "النهضة"، وتوقيع أنطون سعاده موجود عند رأس الصفحة ما لا يترك مجالاً للسهو أو للخطأ... والتفسير الوحيد الباقي في هذه الحالة هو أن المشرفين على جمع تراث الزعيم في تلك الفترة "قرروا" فرض حظر على المقال لاعتبارات خاصة بهم!

ولكي نكشف أسباب ذلك الحظر، بعد مضي أكثر من ثلاثين سنة على إصدار "الآثار الكاملة"، ورحيل غالبية الذين عملوا في مشروعها، كان لا بد من قراءة دقيقة للمقال تأخذ في الاعتبار ظروف السبعينات والثمانينات على الصعيدين الحزبي والقومي. وعلى هذا الأساس نحن نعتقد أن الذين اتخذوا قرار الحظر شعروا بـ "الإنزعاج" من أربع نقاط محورية في المقال: التركيز على دور سعاده النهضوي الجبار، والتشديد على الأخلاق والمناقب القومية كأساس لأي نهوض قومي، والوصف الدقيق لحالة المفاسد التي وجد سعاده أن الشعب السوري يرزح تحتها، وإمكان تسلل عوامل الفساد إلى نفوس بعض القوميين الذين يتغطون بالنظام والحرص على القضية القومية. ويبدو لنا أن "المشرفين" على جمع تراث الزعيم آنذاك أدركوا أن هذا الكلام الشفاف الجلي هو بمثابة المسلة التي "تنعر إبط" حاملها!!

نحن ندعو إلى قراءة جديدة لمقال "هل يفلح سعاده؟" في ضوء أوضاعنا الحزبية الراهنة وأوضاعنا القومية الراهنة. ونلفت النظر إلى دقة ومضامين كلمة "تجربة" التي استعملها الزعيم لوصف ما يقوم به في الوطن في تلك المرحلة المبكرة من عمر الحزب.


هل يفلح سعاده؟

جريدة "النهضة"، العدد 19، تاريخ 4 تشرين الثاني سنة 1937

يقوم أنطون سعاده بأعظم تجربة تعرضت لها الأمة منذ قرون عديدة ألا وهي إيقاظ الوجدان القومي وتأسيس الأخلاق القومية ورفع مستوى الأمة إلى مرتبة الأمم الحية.

الحقيقة أن تأسيس الحزب السوري القومي كان حادثاً رائعاً وتطوراً خطيراً. والذين استقبلوا خبر الحزب استقبالهم أخبار الأحزاب المحلية العادية لم يلبثوا أن وقفوا مشدوهين تجاه ما تكشف عنه الحزب في المحاكمة الأولى من الاتجاه القومي الجديد الذي برز بوضوح في دفاع سعاده. ومنذ ظهر هذا الدفاع أدرك ذوو المدارك الصحيحة أن نهضة قومية صحيحة آخذة في الانبثاق من صميم هذا الحزب وأن أمر الحزب السوري القومي ليس أمراً عادياً.

أما نحن فقد قدرنا خطورة الأمر والعبء الكبير الذي تقدم سعاده لحمله، فإن الحزب السوري القومي يعني تغيير النظرة إلى الحياة وتغيير الأساس النفسي الخلقي القائم عليه بناء اجتماعي متفسخ متزعزع. وقد قدرنا صعوبة العملية التي سيتعرض لها سعاده في بلاد لم يعتد أهلها الشعور بالحاجة القومية، ولم يتربوا على حب الوطن والمجتمع، فهم مسيرون أبداً على خطة تكييف النفس والإرادة لمقتضيات الأثرة الفردية. كل شئ في هذا المجتمع مسخر لنفعية الفرد. والحيلة الفردية في تسخير الأوضاع والأشكال والأسس بعينها لخدمة المنفعة الفردية تعد، وفاقاً للنظرة القديمة، مهارة شخصية باهرة.

جاء سعاده يقول بتغيير هذا الأساس وإبدال هذه النظرة اللاقومية اللاوجدانية، وبتأسيس أخلاق قومية ثابتة توجد قاعدة ثابتة لتلاؤم المجتمع وتجانس أفكاره وأعماله، وبإحلال النظرة القومية محل النظرة الفردية وبإقامة مبدأ التساند العام النزيه.

هذا أساس النهضة القومية التي جاء بها سعاده، وهنا سر التجربة الخطرة التي يقوم بها لتحويل هذا الشعب المائع المتباين الاتجاهات والأغراض والمنافع إلى كائن اجتماعي حي، ومجتمع متجانس في العقلية والأساليب، وأمة متحدة في الإرادة الواحدة المستمدة من المصلحة الواحدة. وهي تجربة لو وضعت على المجتمع السوري دفعة واحدة لذابت في أجزائه المتنافرة وتلاشت، لأن الفساد الذي توارثته الأجيال السورية من عصر الخمول والضلال عظيم قتال. ولذلك رأينا سعاده يتجنب الكبار ويخلو إلى الصغار يحدثهم ويبني في نفوسهم البناء القومي ويضع فيها أسس الأخلاق القومية، فينتج من ذلك هذا التضامن البديع الذي ظهر به الحزب السوري القومي.

ولكن عوامل السياسة لم تترك سعاده يستمر في عمله الإنشائي، فهي قد أقصته عن الحزب بين سجن وملاحقة وهدم وترميم نحو سنة ونصف تعرض فيها الحزب لمؤثرات البيئة الفاسدة. فإذا بالأثرة تعود فيذر قرنها فيلجأ سعاده إلى الطريقة الوحيدة الناجعة وهي: الإستئصال في الأحوال المستعصية، والحمية في الأحوال القابلة الشفاء.

والأثرة لا تظهر دائماً بمظهر محبة الذات، بل يكثر أن تتجلبب بجلباب الفضيلة والغيرة على الأنظمة وعلى القضية وعلى المصلحة العامة.

إن مجتمعنا قد ورث حالة فقدت منها المثل العليا الخلقية والنفسية، وفي هذه الحالة تجد الدول الأجنبية الطامعة مفاتيح الأبواب التي تدخل منها إلى مخازن الأمة ومقدراتها، وسعاده قد أدرك خطورة الحالة فغرس تعاليمه في الأنفس الجديدة النزيهة التي هي أمل الأمة الوحيد.

ولكنه سيكون دائماً في حرب مع البيئة، ونصره يتوقف على صلابة عود معاونيه وتمسكهم بالأخلاق القومية الجديدة: أخلاق النهضة ــ أخلاق الثقة الراسخة المتبادلة ــ أخلاق الإيمان والمثابرة.

أما أخلاق الشك والتردد فهي أخلاق فساد البيئة ــ أخلاق اللاقوميين.

وما رجاء الأمة إلا بالأخلاق القومية.

أنطون سعاده


 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024