إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

سعاده في أبعاده الثلاثة

أحمد أصفهاني

نسخة للطباعة 2015-05-08

إقرأ ايضاً


"ما الذي جلب على شعبي هذا الويل؟"

هذا السؤال الوجودي خفق في وجدان سعاده وهو يقاسي مأساة الحرب العالمية الأولى التي عايش كوارثها في جبل لبنان ولم يكن تجاوز العاشرة من العمر. ثم صاغ السؤال في رسالة إلى المحامي حميد فرنجية بتاريخ 10 كانون الأول سنة 1935 بعثها من السجن بعد كشف أمر الحزب السوري القومي.

والويل الذي ذاقته الأمة في تلك الفترة لا يقل فظاعة عن الويل الذي تتذوقه كل يوم حالياً. الفارق الجوهري بين الويلين هو أن الأول حلّ بشعبنا يوم لم تكن عقيدة سعاده قد ظهرت إلى الوجود بعد، في حين أن الثاني يلحق بشعبنا لأنه تجاهل العقيدة القومية الاجتماعية الحاملة في مبادئها أسس الخلاص القومي الصحيح. ذلك أن سعاده "وبعد درس أولي منتظم" قرّر "أن فقدان السيادة القومية هو السبب الأول في ما حلّ بأمتي وفي ما يحل بها". إن مصيبة فقدان السيادة القومية وضياع الوعي القومي هي في صميم الويل الذي يأخذ شعبنا من مذبحة إلى أخرى.

نجد اليوم أن عدداً كبيراً من المفكرين والباحثين والسياسيين يعيد اكتشاف سعاده وعقيدته في ضوء الأحداث الجارية. إن الكوارث القومية المتلاحقة على مدى العقود الماضية عرّت الأنظمة على أنواعها وفضحت عقم الأفكار التي حكمت مجتمعاتنا العربية وسيطرت على نخبها وجماهيرها على حد سواء. وعندما بلغت الأمور مأزقها الدموي المصيري، لم تجد هذه النخب مناصاً من الاستنجاد بفكر سعاده القومي العلماني المستقبلي... لكن من دون الاعتراف من جانبهم بأخطاء الماضي تمهيداً لفتح صفحة جديدة مع الفكر القومي الاجتماعي.

هنا يقف القوميون الاجتماعيون أنفسهم أمام مهمة ملحة لا تقل خطورة وجذرية عن تلك التي تنكب بها سعاده لرفع مفاعيل الويل عن شعبه! لا يكفي أن نطلق عبارات الشماتة والتشفي بحق الذين أخطأوا سابقاً وعادوا اليوم يتلمسون معالم طريق الإنقاذ في العقيدة القومية الاجتماعية. بل علينا نحن بالذات أن نلقي أضواء كاشفة على أبعاد سعاده المميزة التي كرسته رمزاً سامياً، ليس للقوميين وحدهم وإنما حتى للذين لم يقبلوا في الماضي على أفكاره ليتبين لهم لاحقاً وبالتجربة المرّة أن عبور درب الجلجلة القومية يجب أن يكون من خلاله تحديداً.

لسعاده ثلاثة أبعاد تفترق أحياناً وتتكامل في أحيان أخرى، غير أنها في جميع الأحوال تؤلف شخصية المفكر والزعيم الذي طبع تاريخ سورية والعالم العربي منذ ثلاثينات القرن الماضي وإلى مدى غير منظور بعد. الأبعاد هي: حياته، وعقيدته، وحزبه السوري القومي الاجتماعي.

يعترف خصوم سعاده قبل مريديه بأنه مثّل في سنواته الخمس والأربعين القدوة المناقبية الراقية في التفكير كما في الممارسة. لم يأتِ على العالم العربي خلال القرن الماضي من وصل إلى سويته في فعل البطولة المؤمنة المؤيدة بصحة العقيدة. كانت هناك شخصيات سورية وعربية قدمت نماذج مميزة في الفكر وفي الممارسة، لكن أياً منها لم يرقَ إلى شمولية سعاده في استشرافه القومي وحركته التغييرية وقيادته الطليعية. فهو لم يضع حداً وهمياً بين الخاص والعام في جميع شؤون حياته، بل طبق مثالية عليا لا تعرف أنصاف الحلول في الأمور المبدأية ولا تقبل المساومات في كل ما يتعلق بالمصالح الأساسية للأمة السورية.

عقيدته، وهي البعد الثاني، موجودة في مباديء حزبه الأساسية. ويمكن تلخيصها في أن سورية هي للسوريين الذين يشكلون أمة تامة ومجتمعاً واحداً، وأن لها قضية مستقلة عن القضايا الأخرى، وأن لها تاريخاً ثقافياً ضارباً في القدم أي أنه لا يبتديء مع ما يُعرف بالأديان الإبراهيمية، وأن مصلحة سورية فوق كل مصلحة. هذه العقيدة، والمباديء الإصلاحية المرافقة لها خصوصاً ما يتعلق منها بفصل الدين عن الدولة، وكذلك غايتها، جابهت منذ البداية تنيناً معادياً متعدد الرؤوس.

أكثر من ثمانين سنة مضت على وضع مباديء النهضة القومية الاجتماعية، سقطت خلالها عقائد وتبدلت أخرى. ومع ذلك تجد الأمة السورية وعالمها العربي نفسيهما أمام الأسئلة الوجودية ذاتها التي أوصلت سعاده إلى تفكيره القومي العلمي. مرّت مراحل تسلل خلالها الشك حتى إلى نفوس بعض "المؤمنين" بالعقيدة القومية الاجتماعية. وحلت ظروف بدت وكأن العروبة الانفلاشية واللبننة الانعزالية ترسختا فعلاً بعدما كان سعاده قد أعلن في الأربعينات إفلاسهما النهائي... فإذ فقاعتهما تتبدد هباء، ليؤكد المجال الجغرافي ــ الاجتماعي ــ السياسي ــ الاقتصادي أن الحقيقة تكمن في القومية السورية سواء عُرفت بـ "الجبهة الشرقية" أو "الهلال الخصيب" أو "المشرق" أو "جبهة المواجهة" أو "محور المقاومة" وغيرها من تسميات لا تلغي الواقع. الفكر الشيوعي، من حيث هو نظام سياسي ــ اجتماعي، مات ولن تكون له قيامة قط وفق النموذج السوفياتي السابق. وكذلك تلاشت معالم الاشتراكية كما "طبقتها" أحزاب سيطرت على مقاليد السلطة في بعض الكيانات السورية والعربية. ومع ذلك يكابر عدد من المفكرين في الاعتراف براهنية فكر سعاده، بل وبمستقبليته أيضاً، فنراهم يتخبطون في محاولات لا طائل من ورائها بهدف مزاوجة قواعد الفكر القومي الاجتماعي مع أطلال الأفكار الأخرى البائدة... فيتمخض الجبل ليلد فأراً هجيناً مسخاً مشوهاً!

أما البعد الثالث، الحزب السوري القومي الاجتماعي، فهو الأكثر إثارة للإشكالات من ضمن الأبعاد الثلاثة التي حددناها. ولا نقصد بهذه العبارة الانتقاص من قيمة المؤسسات الحزبية أو انتقادها، وإنما حالة الحزب الراهنة هي التي تفرض هذا التقييم. هناك الآن ثلاث مؤسسات تحمل اسم الحزب السوري القومي الاجتماعي المفترض فيه أن يكون حركة الوحدة القومية الراسخة. يُضاف إلى ذلك أن الإدارات الحزبية بعد الثامن من تموز سنة 1949 لم تعمل إجمالاً على تحقيق غاية الحزب بل أهملتها في معظم مراحل تاريخه، وحاولت تغييرها في مراحل أخرى. وقد شق الحزب لنفسه مساراً مغايراً عن المفهوم الذي وضعه له المؤسس منذ سنة 1932. هذا المسار المستقل لم يكن في مطلق الأحوال بعيداً عن "نظام الفكر والنهج، ثم نظام الأشكال التي تحقق الفكر والنهج". غير أنه في أحيان عدة افترق عنهما يساراً أو يميناً، لبننة أو عربنة، ممارسة سياسية أو ممارسة مناقبية... بحيث أصبح من الصعوبة بمكان النظر إلى تراث سعاده الحزبي الأصيل من منظور أي من المؤسسات الحزبية الثلاث خارج سياق الأحداث القومية العامة.

نحن نعتقد أن التمييز بين الأبعاد الثلاثة مسألة شديدة الأهمية في أوضاعنا الاجتماعية والقومية الراهنة. فليس هناك الكثير مما يُضاف إلى حياة سعاده، وما يُكتشف بين الحين والآخر يُعزز الصورة ولا يناقضها. أما الحزب فيخضع لآلية تقييم ترتبط بالظروف السياسية في زمان ومكان محددين.

وتبقى العقيدة ــ المنطلق والغاية ــ الهدف اللتان يقع على عاتق القوميين الاجتماعيين مهمة بلورة الآليات الضرورية لتحقيقهما، ونشر مضامينهما، وترسيخ مثلهما العليا وقيمهما المناقبية... كل ذلك حتى لا يظل سعاده المفكر والمؤسس والزعيم والشهيد أسير ممارسات لم يكن له فيها أي دور. وبذلك تنطلق العقيدة القومية الاجتماعية في رحاب المجتمع السوري محطمة قيود سوء الفهم أو سوء التطبيق على مدى عقود. وبهذه الطريقة وحدها نضمن أن تكون المباديء، كما أرادها سعاده، قواعد لانطلاق الفكر بهدف "إيقاظ الوجدان القومي وتأسيس الأخلاق القومية ورفع مستوى الأمة إلى مرتبة الأمم الحية". وكل ما عدا ذلك باطل!


 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024