إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

اللاجئون السوريون وأوروبا: نظرة مختلفة!

أحمد أصفهاني

نسخة للطباعة 2015-09-15

إقرأ ايضاً


عمرُ المأساة السورية الآن خمس سنوات. عدد المواطنين السوريين الذين أجبروا على ترك ديارهم يُقدر بحوالي ثمانية ملايين شخص من أصل عدد السكان البالغ 25 مليوناً تقريباً. بعضهم نزح إلى مناطق أكثر أمناً واستقراراً داخل سورية، وغالبيتهم لجأت إلى دول الجوار في لبنان والأردن والعراق وتركيا. والملفت للنظر أن القسم الأكبر من النزوح الداخلي كان إلى مناطق تسيطر عليها القوات الحكومية. فإذا كانت أزمة اللاجئين مستمرة منذ أربع سنوات على الأقل، ومحاولات الوصول إلى أوروبا حصدت الألوف في تلك الفترة، فلماذا إذن هذه الضجة العالمية في هذا التوقيت بالذات؟

في الفن الإعلامي الدعائي نظرية تقول إنه بالإمكان دفن الأخبار السيئة بالترويج للأخبار الطيبة في وقت متلازم. ويبدو أننا نشهد الآن تنويعاً آخر لهذه النظرية يقول بدفن الأخبار السيئة من خلال إبراز الأخبار الأكثر سوءاً... وهل يوجد ما هو أسوأ وأفجع من رؤية جثث الأطفال والنساء اللاجئين منثورة على رمال الشواطئ بعد أن ابتلعتها مياه المتوسط ثم لفظتها أمواجه أمام بصر "العالم المتمدن" وسمعه؟

لا يستطيع إنسان أن يقف بلامبالاة أمام هذه المأساة الكارثية، إلا من تحجرت مشاعره أو قُد قلبه من صوان. لكن يبدو أنه مكتوب علينا أن نفتش في "أكوام تبن" هذا الكم الهائل من الإعلام الموجه عن "إبرة" الحقيقة في ما يتعلق بأزمة اللاجئين السوريين من مخططات تتجاوز الاهتمام الإنساني المجرد. فمع تقديرنا واحترامنا لمشاعر التعاطف التي أظهرها الألوف من المواطنين الأوروبيين الصادقين فعلاً في أحاسيسهم التضامنية، إلا أنه يتوجب علينا عدم التغافل عن أن الحكومات الغربية (الأوروبية والأميركية والأسترالية والكندية) لا تتعامل مع مثل هذه المسائل إنطلاقاً من البعد الإنساني فحسب، وإنما هي تأخذ في الاعتبار أولاً وأخيراً مصالحها الإستراتيجية البعيدة المدى.

فلنبدأ أولاً بتفكيك الصورة الإعلامية الراهنة كي نتمكن من إعادة تركيبها بوضوح يساعدنا في فهم حقيقة ما يجري وطبيعة المخططات المستقبلية لمئات الألوف من اللاجئين السوريين.

خلال السنتين الماضيتين، تدفق عشرات ألوف "المهاجرين" من شمال أفريقيا إلى إيطاليا في رحلات بحرية غير شرعية حصدت الألوف غرقاً. وقد تحرك الاتحاد الأوروبي للتعاطي مع هذا المد البشري على مستويين: إنساني لمساعدة الحكومة الإيطالية في تحمل أعباء إيواء هؤلاء المهاجرين، وأمني لملاحقة مهربي البشر خصوصاً في ليبيا. ويبدو لنا أن الحكومة التركية أدركت حساسية موضوع "المهاجرين غير الشرعيين" بالنسبة إلى الحكومات الأوروبية على مستوى الرفض الشعبي، فقررت أن تغض النظر (بل وتشجع) فتح معبر آخر للهجرة عبر المتوسط! فهل لاحظتم كيف أن خط اللجوء الأول الأساسي نحو إيطاليا لم يعد يعمل بالوتيرة نفسها منذ أن باتت الجزر اليونانية القريبة من الشاطئ التركي مشرعة أمام اللاجئين؟

فما الذي ترغب أنقرة في تحقيقه من جراء المتاجرة العلنية بمآسي اللاجئين السوريين أساساً؟

أولاً، التخلص من عشرات الألوف من السوريين اللاجئين إلى أراضيها (الواقع أنهم لاجئون في أراضيهم السورية السليبة!). ثانياً، فرض نوع من التطهير العرقي خصوصاً بين الأقليات (عائلة الطفل الغريق من أكراد عين العرب، على سبيل المثال)، ما يساعد الحكومة التركية في طموحها المعلن بإقامة منطقة عازلة أو آمنة داخل سورية. ثالثاً، خلق ما يكفي من عناصر الضغط على الحكومات الأوروبية لدفعها باتجاه ما تسعى إليه حكومة "حزب العدالة والتنمية" للتدخل العسكري ضد الحكومة السورية تحت شعارات إنسانية. طبعاً توجد اعتبارات تركية أخرى مثل الانتخابات النيابية المقبلة، لكنها تحتل أهمية ثانوية في الإطار الأشمل لما نتحدث عنه.

أوروبا فوجئت بحجم المد البشري الذي حط رحاله عند أبوابها. صحيح أن مسألة الهجرة واللجوء إلى الغرب، سواء هرباً من الاضطهاد أو سعياً وراء حياة أفضل، كانت مطروحة دائماً في أوروبا... لكن ليس على هذا المستوى الذي وصفه بعضهم بأنه "نزوح ذو أبعاد توراتية". لذلك لم يستطع الاتحاد الأوروبي صياغة سياسة موحدة للتعامل مع اللاجئين، وتراوحت المواقف بين مرحب على نطاق واسع مثل ألمانيا والنمسا وموافق على مضض وفق شروط صارمة مثل بريطانيا وفرنسا ورافض نهائياً مثل هنغاريا وتشيكيا وسلوفينيا. لكن ما يُسجل لصالح أوروبا هو قدرتها واستعدادها لتغيير مواقفها، وإعادة رسم سياساتها بما يكفل حل الأزمة الراهنة ومن ثم توظيفها لخدمة مصالحها العليا.

ولنعد الآن قليلاً إلى تلك الخدعة الإعلامية التي تدفن الأخبار السيئة بأخبار أكثر سوءاً. عدد من الدول الغربية التي أبدت استعدادها لقبول اللاجئين إشترط أن يكون هؤلاء من المسيحيين! الرئيس الفرنسي فرنسوا أولاند لم يكن بمثل هذه الوقاحة ــ علناً على الأقل ــ لكنه دعا إلى مؤتمر في باريس للبحث في "مصير الأقليات في الشرق"، وعلى الهامش أعلن أن فرنسا ستوسع طلعاتها الجوية فوق سورية وربما تقصف أهدافاً لـ "الإرهابيين" هناك. أما رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون فأكد أن بلاده ستستقبل اللاجئين، لكنها ستختارهم من مخيمات اللجوء في دول الجوار السوري، معلناً في الوقت نفسه أن سلاح الجو البريطاني نفذ ضربة ضد أهداف "إرهابية" في سورية وهو مستعد لضربات أخرى إذا لزم الأمر. في حين أن المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، التي لا طموح عسكرياً لديها حتى هذه اللحظة، كانت صريحة بتأكيدها على أن الاقتصاد الألماني سيستفيد كثيراً من وجود الأيدي العاملة الرخيصة التي سيوفرها اللاجئون السوريون.

فماذا نستنتج من هذا الواقع الذي اختلط الحابل فيه بالنابل؟ دعونا نسمي الأمور بمسمياتها:

ــ الغرب ينظر إلى السوريين كمجموعات عرقية ودينية ومذهبية متناحرة، وبالتالي فإن أية حلول يسعى إليها في منطقتنا ستقوم على هذه النظرة تحديداً.

ــ دولنا الفاشلة هي المسؤولة عن أزمة اللاجئين، ما يعطي الغرب ذريعة "شرعية" لتجاهل إرادتنا وتقرير مصيرنا حتى من دون العودة إلى المنظمة الدولية. وكان أحد الخبراء الأوروبيين واضحاً عندما قال إن الغرب "يجب" أن يتدخل في سورية بموجب قرار من الحلف الأطلسي أو الاتحاد الأوروبي بمعزل عن مجلس الأمن الدولي حيث لروسيا والصين حق النقض.

ــ أزمة اللاجئين السوريين أعادت إحياء نظرية "التدخل الإنساني" التي اعتمدها الحلف الأطلسي في تسعينات القرن الماضي ضد صربيا بهدف "حماية" سكان إقليم كوسوفو.

ــ وفي الحد الأدنى، سيكون اللاجئون السوريون (معظمهم من الشباب والمهنيين) اليد العاملة الرخيصة التي تغذي النمو الاقتصادي في دول مثل ألمانيا وبريطانيا وأستراليا وكندا والنروج وغيرها.

ولن تكتمل الصورة إذا لم نتناول اللاجئين أنفسهم. إذ لا يكفي أن نجعل الغرب شماعة نعلق عليها كل مشاكلنا، بل هناك مسؤولية ذاتية نتحمل جميعاً تبعاتها. الذين تابعوا على شاشات التلفزيون مسيرات اللاجئين لا شك صدمتهم الحقيقة الموجعة التي أظهرت أن الغالبية العظمى منهم من الشباب. وهذا ما يدفع إلى طرح أسئلة مفصلية: ألم يجد هؤلاء، سواء عند الحكومة السورية أو المعارضة، ما يستحق الصمود والقتال لأجله؟ أليس هناك ارتباط بالأرض يستحق الدفاع عنه بدلاً من التشرد في بلاد الله الواسعة؟ هل فشلت دولنا وحكوماتنا وأحزابنا في خلق الإنتماء الذي يجعل الوطن جذوراً راسخة وليس مجرد حقيبة سفر، كما قال الشاعر محمود درويش ذات مرة؟

الغرب يتسلل إلى دواخلنا من خلال أخطائنا، ويبني قصور نجاحاته على أطلال فشلنا. وهو ــ من وجهة نظر مصالحه القومية ــ لا يلام بقدر ما نلام نحن لأننا نبكي الآن على واقع كان تغييره طوع أيدينا... ولم نفعل!!


 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024