إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

الجذور الفقهية للجماعات التكفيرية

أحمد أصفهاني

نسخة للطباعة 2015-11-18

إقرأ ايضاً


بعد كل عمل إرهابي موجع يطال الغرب الأميركي ــ الأوروبي في عقر داره، تطل علينا أصوات تحاول "تفسير" ظاهرة نشوء وصعود الجماعات التكفيرية الإسلامية أمثال "القاعدة" و"داعش" و"جبهة النصرة" وغيرها من التنظيمات المنتشرة في أنحاء كثيرة من العالم الإسلامي. وتتوزع هذه الأصوات على قسمين كبيرين أساسيين: الأول ينطلق من عقلية إستشراقية تفهم الأحداث في العالمين العربي والإسلامي من منظور المصالح الغربية. والثاني تبريري اعتذاري يطرحه منظرو الإسلام السياسي بمختلف إيديولوجياته وتفرعاته السياسية.

المنطق المحوري لهؤلاء جميعاً يقوم على أساس أن بروز "القاعدة" أو "داعش" أو "النصرة"...إلخ. هو نتاج طبيعي لأحداث سياسية مفصلية وقعت في عدد من دول المنطقة، وتركت تأثيرات ضخمة على السكان. وأنه لولا تلك الأحداث لما كان للجماعات التكفيرية الإسلامية أن تجد حاضنة شعبية تحميها وترعاها وتمدها بالعنصر البشري المقاتل، إضافة إلى الدعم المالي السخي الآتي من قطاعات تتماهى مع إيديولوجيات الإسلام السياسي المتطرف والتكفيري.

ووفق هذا المنطق المفذلك، فإن "القاعدة" وأخواتها ما كانت لتظهر وتسيطر حقبة طويلة على أفغانستان لولا وقوع الاحتلال السوفياتي لتلك الدولة المسلمة. أما "داعش" فهي محصلة متوقعة للاحتلال الأميركي للعراق، ومن ثم سيطرة القوى المذهبية الشيعية على مقاليد السلطة في بغداد. ويوصلنا المنطق نفسه إلى أن "جبهة النصرة" إنما تكوّنت بعد إقدام السلطات الحكومية في دمشق على استخدام القوة بهدف قمع مطالب "المعارضة السلمية" المطالبة بعملية إصلاح سياسي واجتماعي واقتصادي.

الأصوات التي ننعتها بـ "الإستشراقية" لا تقتصر على الغربيين وحدهم، بل يشاركهم فيها مفكرون وإعلاميون من بلادنا هم "مستغربون" في رؤيتهم إلى أوضاعنا القومية والاجتماعية، بحيث أصبحوا صدى مكرراً ممجوجاً للعناوين السياسية العريضة التي يرفض الغرب حتى الآن التخلي عنها لأنها جزء من "عدة الشغل" في أوطاننا. وهؤلاء يحمّلون الحكومات الغربية "المسؤولية السلبية" لبروز "داعش" و"جبهة النصرة"، على سبيل المثال، لأن القادة الغربيين لم يتدخلوا منذ البداية في الأزمة السورية. والتدخل الذي يقصدونه، بطبيعة الحال، يعني العمل العسكري المباشر... أي الاحتلال الجديد!

أما الأصوات التبريرية الاعتذارية لمنظري الإسلام السياسي وإعلامييه فهي تُجهد النفس لإيجاد تفسير لظاهرة التطرف والتكفير، ومن ثم وضعها خارج البنية الفقهية الإسلامية بالذات. ولذلك نراها تشدد على أن "القاعدة" أو "داعش" أو "جبهة النصرة" إنما هي مجرد نتوءات ظرفية في جسد العمل السياسي الإسلامي. وبالتالي عندما تنتهي الظروف المحيطة بنشوئها وتوسعها، ستبدأ تلك الجماعات بالزوال شيئاً فشيئاً. وهؤلاء التبريريون الاعتذاريون يريدون إقناع الناس بأن ظاهرة التطرف والتكفير هي حالة استثنائية لا يجوز الاستناد عليها لفهم حقيقة الإسلام السياسي ذي الإيديولوجيات المختلفة.

وهكذا نلاحظ أن الطرفين يلتقيان عند نقطة تمهيدية تعتبر الجماعات التكفيرية وجوداً مؤقتاً من خارج سياق التأويلات التي تقدمها مدارس فقهية تشكل جزءاً فاعلاً في قلب التيار الإسلامي العريض. ولأنهما يتجنبان عمداً المس بجذور الفكر التكفيري الإلغائي لا من قريب ولا من بعيد... فهما مخطئان في المقدمات التي ينطلقان منها، وفي النتائج التي يتوصلان إليها!

نحن نعتقد أن نزعة تكفير الآخر وإلغائه كامنة في تأويلات بعض جماعات الإسلام السياسي، وهي تنتظر الظروف المؤاتية كي تخرج من حيز التأويل والتنظير إلى مجال التطبيق والتنفيذ. وكثيراً ما تستند هذه الجماعات على فهمها الخاص لآيات قرآنية من أجل تعزيز منطلقاتها الفقهية. لكن الأساس النظري لها هو حديث "الفرقة الناجية" الذي يعتبره معظم علماء الحديث النبوي صحيحاً. قال رسول الله: "إن بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة، وإن أمتي ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة". (رواه أنس بن مالك). فإذا كانت النار مأوى الكافرين، حسب الوعيد القرآني، فإن الفرق الإسلامية الإحدى والسبعين التي في النار ــ بناء على هذا الحديث ــ هي من الكفار!

ولعلنا نجد في الجماعات التي خرجت على عليّ بن أبي طالب أثناء معركة صفين ضد معاوية بن أبي سفيان، بعد رفضها مبدأ التحكيم، النموذج الأسلامي الأول لنزعة التكفير. فهؤلاء "الخوارج" لم يكتفوا بالرفض واعتزال القتال الأهلي بين جماعات المسلمين، بل كفرواً علياً ومعاوية وعمرو بن العاص وانتدبوا عناصر منهم لقتل الثلاثة... فنجحوا مع عليّ وفشلوا مع الآخرين. وتخبرنا المصادر التاريخية الإسلامية من تلك الفترة أن "الخوارج" لجأوا إلى تأويل آيات قرآنية وتفسير أحاديث نبوية بما يمنح نزعة تكفير الآخر والغائه سنداً شرعياً قوياً مدعوماً بالنص الديني. ولم يكن "الخوارج" نموذجاً فريداً في توجهاتهم التكفيرية، فعلى مدى القرون برزت في أنحاء مختلفة من العالم الإسلامي مدارس فقهية عدة تبنت التأويلات نفسها (مع اختلاف ظروف المكان والزمان)... وصولاً إلى "عقيدة الولاء والبراء" التي كان من أبرز منظريها إبن تيمية (توفي سنة 1328م).

ويمكننا أن نعثر على تأويلات مماثلة في مؤلفات حسن البنا وأبي الأعلى المودودي وسيد قطب ويوسف القرضاوي وغيرهم من منظري الإسلام السياسي خلال المئة سنة الماضية. فكتابات هؤلاء تشكل السند الفقهي للجماعات التكفيرية الناشطة حالياً في أكثر من مكان، بغض النظر عمّا استجد من ظروف سياسية واجتماعية. ونحن لا نقصد بكلامنا الوارد أعلاه القول إن هذه الجماعات هي "مذهب إسلامي"، أبداً!! بل هي مجرد مجموعات إرهابية تتخذ لنفسها قواعد فقهية من خلال تأويلات حداثية لنصوص قرآنية ونبوية قديمة. وهنا مكمن المواجهة الفعلية المصيرية. فلكي نتمكن من التصدي الفكري للجذور الفقهية التي تقوم عليها الجماعات التكفيرية، يتوجب علينا أولاً أن نتخلى عن المقاربة المقدسة التي نلامس بها النص والشخص في التراث الإسلامي... أي تحكيم المنطق العقلي بوصفه الشرع الإنساني الأعلى في كل شؤون الحياة البشرية.

 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024