إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

أمر عمليات أطلسي نحو سوريا

أحمد أصفهاني

نسخة للطباعة 2015-12-07

إقرأ ايضاً


لم يكن لدينا شك أبداً في حصول الحكومة البريطانية على الضوء الأخضر من مجلس العموم للبدء بتوجيه ضربات جوية ضد "تنظيم الدولة الإسلامية" (داعش). وكان من المتوقع كذلك أن تنال الحكومة الألمانية تأييد مجلس النواب للانخراط في "التحالف الدولي" ضد "الإرهاب". وقد لا يصل هذا المقال إلى أيدي القارئ الكريم، إلا وتكون هولندا وغيرها من الدول الأعضاء في الحلف الأطلسي (الناتو) قد انضمت رسمياً وعلناً إلى هذا الحشد العسكري في سماء سوريا والعراق، وبالقرب من شواطئهما، وفي قواعد عسكرية منتشرة من قبرص إلى تركيا إلى الكويت... إلخ!

تختلف الذرائع والأسباب والمبررات التي تعلنها كل واحدة من هذه الدول لإقناع نوابها والرأي العام فيها بضرورة القضاء على إرهاب (داعش) كجزء لا بد منه لحماية الداخل الأطلسي من هجمات إرهابية على غرار ما حدث في باريس مؤخراً. وقد وجدت هذه الدول في الدعوة الفرنسية لمساعدتها في التصدي للإرهاب، بموجب مواثيق الحلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي، ما يدعم موقفها المتحمس للوقوف إلى جانب "الحليف الفرنسي في زمن محنته وحاجته".

لا نسعى إلى التقليل من خطورة وفظاعة ما شهدته باريس من أعمال إرهابية لا تقل خطورة وفظاعة عمّا وقع في تونس وبيروت والقاهرة وسيناء وبغداد والكويت... وغيرها. فالمخطط الإرهابي واحد والأيدي المجرمة واحدة والفكر التكفيري الذي يقف خلفها واحد أيضاً. غير أن هذا الأمر يجب أن لا يحجب عن بصيرتنا الأبعاد الإستراتيجية الأوسع للمخططات الأطلسية المتعلقة بالتمدد نحو حوض البحر الأبيض المتوسط، بالتوازي مع استكمال الحلقة الأوروبية الشرقية التي يراد لها أن تحيط بروسيا إبتداء من دول البلطيق شمالاً إلى جورجيا وتركيا جنوباً. وليست دعوة جمهورية الجبل الأسود "مونتينغرو" قبل أيام للإنضمام إلى الحلف الأطلسي إلا حلقة أخرى من سلسلة ستشمل مستقبلاً كلاً من أوكرانيا وجورجيا (وربما صربيا أيضاً؟)

في السادس من تموز الماضي وزّعتُ مقالة تحت عنوان "الخطط الأطلسية الأوروبية على ضفاف المتوسط" تناولتُ فيها تطور التفكير الاستراتيجي الأطلسي منذ انهيار الاتحاد السوفياتي سنة 1991، ومن ثم تفكك "حلف وارسو" وغيابه عن مسرح الأحداث. وقلت يومها إن قيادة الأطلسي عمدت إلى إجراء مراجعةٍ استراتيجيةٍ لتقييم الغاية من بقاء ذلك الحلف الذي نشأ في الأساس سنة 1949 بهدف مواجهة المعسكر الشيوعي المكوّن آنذاك من الاتحاد السوفياتي ومنظومة الدول الاشتراكية في أوروبا الشرقية. ولكن بما أن الخصم قد غاب عن الوجود، فقد بات الأطلسي أمام وضع من إثنين: إما الدخول في غياهب التاريخ، أو إيجاد حيثيات مختلفة لوجود متجدد!

المبادئ التأسيسية لحلف "الناتو" تضمنت عناصر ثلاثة هي: أولاً، مواجهة مخاطر التوسع السوفياتي (الشيوعي). ثانياً، منع إحياء النزعات العسكريتارية القومية في أوروبا من خلال وجود عسكري واسع لقوات من أميركا الشمالية على الأراضي الأوروبية. ثالثاً، المساعدة في، أو التشجيع على، مزيد من الاندماج السياسي في أوروبا. والعنصر الثالث هذا يؤكد لنا أن مؤسسات "الاتحاد الأوروبي" السياسية والاقتصادية والأمنية تعتبر رديفاً حيوياً للبنى والمنظمات التي أقامها الأطلسي في أوروبا على مدى العقود الماضية.

لذلك لم يكن من المستغرب أن يوسع الأطلسي دائرة اهتمامه لتشمل حوض المتوسط بعد وصول تمدده في أوروبا الشرقية إلى أقصى مدى متاح له... أي إلى حدود الاصطدام المباشر مع روسيا الصاعدة مرة أخرى إلى مصاف "الدول الكبرى"، والساعية إلى استعادة وزنها الإقليمي والعالمي الفاعل. إن الضفتين الشرقية والجنوبية للبحر المتوسط هما المجال الأمني الحيوي للضفة الأوروبية المقابلة. وإذا استعرضنا جغرافية المتوسط من المغرب إلى اليونان، مروراً بالجزائر وتونس وليبيا ومصر وفلسطين ولبنان وسوريا وقبرص وتركيا، لوجدنا أن للحلف الأطلسي تواجداً أو علاقات أو اتفاقات مع معظم هذه البلدان. وحدها سوريا كانت خارج هذه السلسلة، بل وتحتضن قاعدة بحرية روسية هي الوحيدة التي تعتمد عليها موسكو في البحر المتوسط.

في ختام ذلك المقال علقنا على المشاريع الأمنية الأوروبية لمكافحة "تهريب البشر" في المتوسط بالقول: "إننا نرى في الخطط الأطلسية ــ الأوروبية غموضاً مقصوداً، ربما كان جزءاً من "تأقلم الحلف الأطلسي" حسب تعبير ستولتنبرغ (الأمين العام لحلف الناتو)، بحيث يصبح الأطلسي منتشراً بالفعل على كامل ضفاف المتوسط". ونجد اليوم، بعد ستة أشهر على تلك العبارة، أن هذا "التأقلم" قد تحقق في أجواء سوريا ومياهها بغض النظر عن مصداقية التبريرات التي ينطق بها القادة الأوروبيون، ومعظمها إما لذر الرماد في العيون أو لإقناع رأي عام أوروبي تنتابه الشكوك العميقة بالمغامرات العسكرية الفاشلة من أفغانستان إلى العراق... فإلى سوريا.

في رأينا إن النقطة الأساسية في المسألة السورية الآن لم تعد مستقبل سوريا السياسي بالتحديد. إن بقاء الرئيس السوري بشار الأسد أو رحيله، ونجاح الانتقال السياسي أو فشله، وتحقيق الإصلاح الدستوري أو عدمه... هي مجرد جزئيات تُستخدم لتغطية طبقات الصراع الإقليمي والصراع الدولي. لقد جاء التدخل الروسي القوي ليغيّر الموازين الميدانية بعد أن كان الحلف الأطلسي، من خلال أعضائه (تركيا) وحلفائه (بعض دول الخليج والأردن)، نجح في تهديد بنية الدولة السورية وموقعها الحيوي في استراتيجية الصراع الدولي المتجدد. إن نجاح روسيا في تعديل الواقع الميداني، بالتوازي مع ظهور مؤشرات مهمة جداً على تنسيق إيراني ــ عراقي ــ سوري ــ روسي (وإلى حد ما لبناني)... استدعى استعجال الأطلسي لحشد قواته وقوات حلفائه من أجل عرقلة حركة موسكو في المنطقة.

يدرك المخططون العسكريون في الدوائر الأطلسية أن هذا "الحلف الجديد" الممتد من سيبيريا في أقصى الشمال الروسي المتجمد إلى مياه المتوسط الدافئة في سوريا ولبنان، مروراً ببحر قزوين وإيران والعراق، سيشكل عقبة إستراتيجية يصعب تجاوزها في إطار المسعى الأطلسي لجعل البحر المتوسط بحيرة مغلقة لصالح أوروبا و"الناتو". روسيا تدرك ذلك، والأطلسيون يدركون ذلك... والميدان السوري هو ساحة المواجهة التي لا تستطيع موسكو أن تتحمل خسارتها!!

 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024