إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

معضلة الأقليات والحل القومي الاجتماعي

أحمد أصفهاني

نسخة للطباعة 2016-03-09

إقرأ ايضاً


"بدون وحدة المصالح ووحدة الحقوق لا يمكن أن تتولد وحدة الواجبات ووحدة الإرادة القومية".

سعاده

أظهرت الأحداث السياسية والأمنية في مجمل كيانات الأمة السورية أن أياً من الأنظمة الحاكمة، على تنوع مشاربها الإيديولوجية، لم يستطع تقديم الحلول الناجعة لمعضلة الأقليات، الدينية منها أو المذهبية أو العرقية. وبدلاً من أن تعمل الحكومات "الاستقلالية" منذ أربعينات القرن الماضي على انتهاج سياسات تساهم في إزالة الحواجز الاصطناعية بين مكونات المتحد القومي الواحد، وجدنا أن ممارساتها الفعلية زادت في تهميش تلك الجماعات إلى حدود نفيها خارج إطار المصلحة العامة. وحدث في أحيان كثيرة أن تلك السياسات انطلقت من أهداف آنية سرعان ما تحولت، بعد تغير الظروف، إلى كوارث هددت الوجود القومي برمته.

يكشف الواقع الاجتماعي للأمة السورية عن وجود جماعات دينية ومذهبية وعرقية متنوعة، بعضها يعيش في متحدات شبه مغلقة في القرى والأرياف البعيدة عن المراكز المدينية بينما يستقر بعضها الآخر في بلدات وتجمعات كبرى. وهي، في الغالب، لم تحظ من قبل الحكومات "الاستقلالية" على مدى عقود بأي اهتمام تنموي (ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً) يساعد في نقل أفرادها من قيود الانعزال إلى رحاب الاندماج المجتمعي الكامل. وقد شاهدنا خلال الحروب الأهلية في لبنان والعراق والشام كيف أن الضغوط الداخلية والتدخلات الخارجية أدت إلى تصدع الفسيفساء الاجتماعية في الوطن السوري، ومن ثم اصطفاف تلك "الأقليات" وفق خطوط دينية ومذهبية وعرقية تحركها وتستغلها أصابع خارجية مكشوفة!

لم تكن هذه الظاهرة خافية على أنطون سعاده، مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي وزعيمه، عندما بدأ أبحاثه العلمية لفهم طبيعة نشوء الأمم. وهو أدرك بصورة جلية أن غياب الوعي القومي وضياع الهوية القومية لدى الشعب هما في أساس "الويل" الذي لحق بالأمة السورية خلال قرون الانحطاط المديدة. خصوصاً أن السلطنة العثمانية أولاً، ثم الدول الأوروبية الكبرى لاحقاً، تمكنت من اللعب على التناقضات الاجتماعية الداخلية الهادفة إلى ترسيخ الانقسامات الدينية والمذهبية والعرقية كوسيلة لا غنى عنها لسلب الأمة السورية حق السيادة الكاملة على نفسها.

خصّص سعاده في مطلع ثلاثينات القرن الماضي المبدأ الرابع من المبادئ الأساسية للحزب السوري القومي الاجتماعي كأساس لفهم تركيبة الشعب السوري، فقال: "الأمة السورية هي وحدة الشعب السوري المتولدة من تاريخ طويل يرجع إلى ما قبل الزمن التاريخي الجلي". وعندما نربط هذا المبدأ بالمبادئ الأساسية الثلاثة السابقة له، يتضح لنا أن سعاده يعتبر التفاعل الأفقي بين مكونات الشعب السوري والتفاعل العامودي بين هذا الشعب والبيئة الجغرافية الحاضنة هما جوهر نشوء الأمة السورية وبروز الوعي القومي الذي هو قاعدة استعادة الأمة سيادتها ومنع التدخلات الخارجية في شؤونها الداخلية.

ويقدّم سعاده نظرة إنسانية قومية أشمل في هذا الشأن بقوله في شرح هذا المبدأ: "إن في سورية عناصر وهجرات كبيرة متجانسة مع المزيج السوري الأصلي، يمكن أن تهضمها الأمة إذا مرّ عليها الزمن الكافي لذلك، ويمكن أن تذوب فيها وتزول عصبياتها الخاصة. وفيها هجرة كبيرة لا يمكن بوجه من الوجوه أن تتفق مع مبدأ القومية السورية هي الهجرة اليهودية". كان ذلك في منتصف الثلاثينات، وقد عاد سعاده ليؤكد على هذا الموقف في أواخر الأربعينات عندما شرح المبدأ الأساسي الرابع في المحاضرة الرابعة من سلسلة "المحاضرات العشر"، فقال: "لا حاجة إلى أصل واحد معيّن لنشوء الأمة، لنشوء القومية. فالأمة موجودة بتفاعلها ضمن بيئتها ومع بيئتها". (أي التفاعل الأفقي والعامودي الذي أشرنا إليه أعلاه).

إن تحقيق ذوبان الجماعات وزوال عصبياتها الخاصة، حسب تعبير سعاده، يتطلب وجود عنصرين متلازمين لا مجال لنجاح أي منهما دون الآخر. الأول هو قيام الدولة القومية الاجتماعية، والثاني بروز إرادة لدى الجماعات بالإندماج في المتحد الاجتماعي. والمقصود بذلك أن الدولة، من حيث هي المظهر السياسي الحقوقي للأمة، معنية بتوفير المناخات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية الضرورية لنشوء الوجدان القومي العام. فتجد الجماعات، أكثرية كانت أم أقلية، أن مصالحها مرتبطة مصيرياً بمصلحة الشعب العامة... فتتكون مع الوقت الشخصية القومية ذات الخصائص المميزة، وبالتالي "تزول عصبياتها الخاصة" لتحل مكانها عصبية أشمل هي العصبية القومية.

لكن هذا الاندماج لا يعني إلغاء "التنوع" في المجتمع السوري الموحد! فالتنوع الثقافي هو جزء من الموروث الحضاري السوري على مدى الأجيال. وقد أكد سعاده على هذه الحقيقة في المبدأ الأساسي السابع: "تستمد النهضة السورية القومية روحها من مواهب الأمة السورية وتاريخها القومي والسياسي". غير أن ذلك يجب أن يكون على الدوام تحت سقف الوحدة القومية، وليس على حسابها. ومسؤولية الدولة القومية الاجتماعية أن تضيء على الموروث الثقافي المتنوع والغني، وفي الوقت نفسه أن تخلق المناخات الكفيلة بتعزيز الثقافة القومية المعبرة عن روحية الأمة في أجيالها المختلفة وفق منطق التمايز الخلاق وليس التناقض المدمر.

قلنا أعلاه إن تحقيق ذوبان الجماعات وزوال عصبياتها الخاصة يتطلب وجود عنصرين متلازمين، وعرضنا باختصار إلى الأول منهما وهو الدولة القومية الاجتماعية. أما الثاني فيتعلق بالجماعات الدينية والمذهبية والعرقية التي تتحمل هي أيضاً جزءاً مهماً من مسؤولية خلق الظروف المناسبة للإندماج. إذ لن يكون مفيداً أن تتقدم الدولة القومية الاجتماعية خطوة إلى الأمام في حين تتراجع هذه الجماعة أو تلك خطوات إلى الوراء وتزداد تشبثاً بعزلتها الخانقة. فطريق قيام الوحدة الاجتماعية الشاملة لا يكون في اتجاه واحد فقط، وإنما هو رهن إرادة صريحة للخروج من القوقعة المنغلقة والانفتاح على الآخر تحت سقف الانتماء القومي.

إن ظاهرة تشرذم مجتمعنا السوري في لبنان والعراق والشام خلال الأحداث الراهنة هي دليل قاطع على أن الطبقات السياسية في بيروت والأحزاب الإيديولوجية الحاكمة في دمشق وبغداد فشلت فشلاً ذريعاً في معالجة معضلة الأقليات. بل يمكننا القول إنها، عن جهل أو عن سوء نية، ساهمت في تفسيخ وحدتنا القومية بحيث تحولت أقليات سورية عدة إلى أدوات بيد القوى الخارجية تستخدمها في تمزيق ما تبقى من النسيج الاجتماعي السوري. وهذا ما يزيد في صعوبة مسؤولية الحركة القومية الاجتماعية الساعية إلى بناء الوجدان القومي العام. غير أنها ليست مهمة مستحيلة في مطلق الأحوال، فالقوميون الاجتماعيون يملكون تراث سعاده الفكري الذي يزداد راهنية مع كل حدث جديد في سوريا والعالم العربي. كما أنهم ينطلقون من قاعدة الثقة بأصالة الشعب السوري على الرغم من المظاهر الآنية المعاكسة لذلك. إنها مواجهة كان سعاده يدرك دائماً أنها دقيقة جداً، لذلك ترك لنا مبادئ هي قواعد لانطلاق الفكر نحو الأفضل والأجمل.


 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024