إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

"إنكفاء" أميركا من المنظور القومي

أحمد أصفهاني

نسخة للطباعة 2016-04-19

إقرأ ايضاً


درجت على ألسنة عدد كبير من المعلقين الصحافيين والمحللين السياسيين في عالمنا العربي عبارة مهمة ذات أبعاد إستراتيجية خطيرة تتعلق بالدور السياسي والاقتصادي والأمني الذي تلعبه الولايات المتحدة الأميركية في منطقتنا. يقول هؤلاء ويؤكدون أن واشنطن بدأت منذ سنوات مرحلة "الإنكفاء" عن التدخل في "قضايا الشرق الأوسط"، ما أوجد فراغاً إستراتيجياً بات يتطلب تدخل قوى دولية أخرى أو بروز قوى إقليمية فاعلة يكون باستطاعتها ملء ذلك الفراغ الذي يتمظهر حالياً في مجموعة من الأزمات المتفجرة.

ينطلق أصحاب هذه النظرية من بعض مظاهر الممارسات الأميركية في السنوات القليلة الماضية، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: الإنسحاب العسكري بشكل شبه كامل من العراق وأفغانستان، عدم التورط العسكري على الأرض في ليبيا أولاً ثم في سوريا، تجاهل الاعتراضات الشديدة التي أبداها الحلفاء التاريخيون في الخليج على الاتفاق النووي مع إيران، البرودة الواضحة في العلاقات مع دول الخليج العربية وعلى رأسها السعودية، الصمت غير المفهوم والتراخي في التصدي لعودة روسيا بقوة إلى ساحة المنافسة الدولية ليس فقط في أوروبا بل أيضاً في الجناح الشرقي لحوض البحر الأبيض المتوسط. وهم يقدمون لذلك أسباباً متنوعة، أبرزها إثنان: الأول أن الولايات المتحدة لم تعد أسيرة الاعتماد على نفط الشرق الأوسط بعد أن أصبحت هي نفسها قادرة على أن تكون دولة مصدّرة. والثاني أن التركيز الإستراتيجي الأميركي المستقبلي إنتقل إلى جنوب شرق آسيا حيث التحدي الصيني الأكبر.

هذه المقولة تمّس الواقع جزئياً، غير أنها لا تقدم الصورة الحقيقية الكاملة. فمع أن واشنطن تبدو بالمنظور السطحي المباشر "بعيدة" عن التدخل المباشر على غرار تجربتي غزو أفغانستان والعراق الكارثيتين، إلا أنها ما تزال لاعباً أول في مجريات الأحداث في عالمنا العربي تحديداً، من العراق إلى سوريا ومن اليمن إلى ليبيا. فالمسألة بالنسبة إلى واشنطن لا تقتصر فقط على النفط وعائداته (البترو دولار)، ولا على الصعود الصيني المثير للقلق، ولا حتى على العودة القوية لروسيا المتجددة، وإنما هي المكانة المؤثرة لدولة تعتبر الأقوى على مستوى العالم. وهذا الأمر يتطلب خططاً مرنة بعيدة المدى تتأقلم مع المستجدات والظروف، من دون أن تغادر جذورها القائمة على المصالح القومية العليا للولايات المتحدة الأميركية.

نحن نعتقد بأنه لا يوجد تبدّل جذري في الإستراتيجية الأميركية تجاه أمتنا وعالمنا العربي، لكن الأكيد أن هناك تغيراً في آليات إدارة تلك الإستراتيجية وتحقيقها. من حيث المبدأ، لم تعد واشنطن مقتنعة بجدوى الغزو العسكري الشامل كما حدث في أفغانستان والعراق. فالتجربتان فشلتا بكل المقاييس وعلى كل الأصعدة، ولن تتكررا إلا في أوضاع استثنائية للغاية. ومع ذلك سيستمر التواجد العسكري الأميركي وإن بصورة محدودة في مناطق التوتر (أفغانستان، العراق، سوريا...)، كما أنه مستمر (وسيستمر) بصورة أوسع كثيراً من خلال القواعد الأميركية المنتشرة في منطقة الخليج والحوض المتوسطي.

سيكون اعتماد الولايات المتحدة الرئيسي على قواها الذاتية بالدرجة الأولى. ولكي لا تتورط في مغامرات باهظة التكاليف بشرياً ومالياً، فهي تسعى إلى نسج شبكة من الحلفاء والشركاء والوكلاء يتولون إدارة خططها الإستراتيجية على الأرض. وهنا يظهر التغيير في إدارة الآليات الذي أشرنا إليه أعلاه. إذ لم يعد يوجد حلف دائم أو شريك مميز، وإنما مسائل وأزمات يتم التعامل معها بمعزل عن الصورة النمطية للتحالفات التاريخية في المنطقة. فالتنسيق مع تركيا والسعودية وقطر في الحرب على سوريا شيء، والتوافق مع روسيا على بوادر حل للأزمة السورية شيء آخر حتى لو كان لا يرضي الثالوث المذكور. وإذا كانت الظروف في العراق تستدعي التفاهم مع إيران فلا بأس بذلك، بينما تفرض واشنطن عقوبات جديدة على طهران بسبب برنامجها الصاروخي. وقطر التي فتحت قاعدة العيديد للقوات الأميركية، وانخرطت في المشروع الأميركي لتدمير سوريا، تواجه الآن في ليبيا حملة أطلسية أوروبية تستهدف تدمير حلفائها الإسلاميين... وهكذا!

غالبية دول المنطقة باتت على بيّنة من هذا الواقع الأميركي الجديد. ولذلك نراها تتحرك على مستويات عدة بهدف إعادة صياغة تموضعها في عالم سريع التغيّر لم تألفه من قبل. ومن هذا المنطلق ندعو إلى فهم الحراك المكوكي لدول فاعلة مثل إيران والسعودية وتركيا ومصر، بغض النظر عمّا يجمعها أو يفرّقها. وفي هذا السياق أيضاً يجب وضع التحالفات القائمة أو تلك التي يجري الترويج لها لدعم محور المقاومة أو لمحاربة الإرهاب... وما شابه. ونحن نرى أن الفراغ لم يُملأ بعد، والأيام المقبلة حبلى بالتطورات والمفاجئات التي قد يكون بعضها غير سار على الإطلاق. ومن المؤسف أن العراق وسوريا غارقان في مستنقع سياسي وأمني يحد من قدرتهما على رسم صورة مغايرة لمرحلة بدأت معالمها تتبلور علناً في أروقة جنيف... وسراً في كواليس الغرف المغلقة في عواصم القرار.

 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024