إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

عوامل الانحراف في الحزب السوري القومي الاجتماعي

أحمد أصفهاني

نسخة للطباعة 2016-05-18

إقرأ ايضاً


الانحراف في الحزب السوري القومي الاجتماعي ليس ظاهرة جديدة ولا حدثاً استثنائياً، بل هو محصلة طبيعية لمدى فعل النهضة في المقبلين على الدعوة القومية الاجتماعية، ومدى فعل عمل المؤسسات في الذين يترجمون إيمانهم بالعقيدة إلى ممارسة نظامية على أرض الواقع. النهضة تريد أن تبني الإنسان الجديد وفق منظومة قيم راقية، والحزب يهدف إلى خلق المواطن الصالح في الدولة السورية المصغرة التي هي المؤسسات الحزبية. وفي الحالتين، من الطبيعي أن تصطدم عوامل الحياة الجديدة بعوامل الحياة القديمة المتراكمة عبر عصور الانحطاط، فتنتصر الأولى في أحيان وتنتصر الثانية في أحيان أخرى.

لذلك كانت الأزمات التنظيمية والانحرافات الفكرية والمسلكية والسياسية متوقعة في الحزب منذ نشأته سنة 1932. فأنطون سعاده، مؤسس الحزب وزعيمه مدى الحياة، جاء برسالة بناء إنسان جديد ينهض من رماد إنسان سوري عتيق شوّهت شخصيته أمراضُ تشرذم الوعي القومي وضياع الهوية القومية في ظل قرون من غياب سيادة الأمة السورية على نفسها، وهيمنة الإرادات الأجنبية التي كان أفظعها الاستبداد العثماني الممتد لأكثر من أربع مئة سنة.

هذا الصراع بين القديم والجديد، بين قيم النهضة ومناقبها من جهة وبين مواصفات الانحطاط وأخلاقه من جهة أخرى، ما كان ليتم حسمه بين ليلة وضحاها على الرغم من الجهود الجبارة التي بذلها سعاده في التثقيف والتربية والتنظيم داخل مؤسسات الحزب الدستورية وخارجها. والمطلع على تاريخ الحزب خلال حياة سعاده، في الوطن وفي المغترب القسري، يلاحظ أن الأزمات والانحرافات على أنواعها كانت شأناً حاضراً على الدوام، تماماً كما كان حاضراً أبداً استعداد زعيم الحزب لمواجهتها فكرياً ونظامياً من دون أدنى تردد، إنطلاقاً من إيمانه بأن عملية فصد الدم الفاسد أكثر من ضرورية لبقاء الحزب واستمراره أداة فاعلة للبناء النهضوي الشامل.

وقد أوضح سعاده هذه المسألة في خطاب الأول من آذار سنة 1938 عندما قال: "... وهكذا ترون الفائدة العملية الكبيرة من القاعدة التي وضعتها واعتمدتها لتوليد النهضة القومية ومن العمل بموجبها، فإنني لو تركت الفساد يستمر مندمجاً مع الصلاح والجدارة لما كان نمو الحزب سوى تضخم لا يلبث أن ينتهي إلى التفسخ والتفكك. إن عملية تنقية الحزب السوري القومي من العناصر الفاسدة، غير الصالحة لحمل الرسالة القومية المجددة، ابتدأت مع ابتداء الحزب ويجب أن تستمر ليكون الحزب متيناً، جديراً بحمل أعباء النهضة القومية". (1)

يمكننا إدراج مظاهر الانحراف في الحزب ضمن أربعة مجالات: الانحراف العقائدي، والانحراف السياسي، والانحراف التنظيمي، والانحراف المناقبي. ويحدث في أحيان عدة أن يتقاطع مجالان أو أكثر من هذه المجالات في مظهر انحرافي واحد. فصلاح لبكي، مثلاً، انحرف سياسياً في معركة انتخابات سنة 1937 إلى جانب خرقه للنظام الحزبي من حيث خروجه على قرارات الزعيم في ما يتعلق بدور الحزب في تلك الانتخابات. أما خالد أديب، في الأرجنتين خلال الأربعينات، فقد عُوقب على مسلكيته الأخلاقية المنافية لمناقب النهضة القومية الاجتماعية، وفي الوقت نفسه تخليه عن العمل الحزبي الإداري. في حين أن انحراف نعمة ثابت ومأمون أياس بين 1944 و1947 دمج خروقات عقائدية وسياسية وتنظيمية في آن واحد.

أزمة الانحراف الأولى جاءت بُعيد تأسيس الحزب سنة 1932، إذ اكتشف سعاده أن اثنين من الأعضاء الخمسة الأول منحرفان: "الأردني يراوغ بالاشتراك مع رفيقه فهو ما انفك يتمسك بمظاهر الاختلاطات السياسية بدلاً من الأخذ بجلاء القضية القومية. وزاد الطين بلة أن الثاني ألقى قصيدة سياسية في دمشق تثير النعرة الطائفية". وهذا يعني وجود انحراف سياسي وانحراف مناقبي، لذلك قرر سعاده المعالجة السريعة. يقول: "وكنت قد استوثقت من نزاهة الآخرين واخلاصهم فجمعتهم وأطلعتهم على رغبتي في طرد الأردني ورفيقه من الحزب. ولما لم يكن قد وُضع للحزب دستور، رأيت أن يكون الطرد بصورة حلّ الحزب". (2)

كان حلّ الحزب الأسلوب الوحيد المتاح لسعاده آنذاك. ففي ظل غياب دستور يحدد العلاقة بين صاحب الدعوة والمقبلين عليها، كان من الصعب محاسبة مظاهر الانحراف السياسي والانحراف المناقبي. ولا شك في أن هذه التجربة التأسيسية الأولى، تُضاف إليها تجارب حزبية أخرى أقدم عليها سعاده في مغتربه البرازيلي الأول بين 1924 و1930، شكلت حافزاً له على صيانة بنية الحزب الجديد بالنصوص الدستورية التي تحظى بأهمية خاصة لا تقل مطلقاً عن أهمية مبادئ الحزب الأساسية والإصلاحية.

ولم تكن تلك الحادثة آخر التجارب الانحرافية التي مرّ بها الحزب السوري القومي الاجتماعي في حياة زعيمه. لكن الانحراف الأهم والأكبر، والذي ترك مفاعيل خطيرة على سعاده وعلى الحزب، كان سياسة "الواقع اللبناني" التي روّجت لها وتبنتها القيادة الحزبية في الكيان اللبناني أثناء وجود الزعيم في مغتربه القسري بالأرجنتين طيلة فترة الحرب العالمية الثانية. وخطورة ذلك الانحراف تكمن في ناحيتين: الأولى، أنه كان انحرافاً نظامياً وسياسياً وفكرياً ومناقبياً في آن معاً. والثانية، أنه عاود الظهور مرات عديدة وبحلل مختلفة في الكيانين اللبناني والشامي بعد غياب سعاده (وهومستمر في الظهور بأشكال متنوعة حتى الآن).

ألقى رئيس المجلس الأعلى نعمة ثابت خطاب "الواقع اللبناني" في مهرجان حزبي أقيم في بعقلين سنة 1944، وكانت الحرب العالمية الثانية تدخل أطوارها النهائية. غير أن تقطع سُبل الاتصال بين الوطن والمغتربات الأميركية، بسبب استمرار المعارك في أوروبا التي كانت تشكل حلقة الوصل بين العالمين القديم والجديد، لم يُتح لسعاده الوقوف على مدى انحراف القيادة الحزبية في لبنان وأبعاد ذلك الانحراف على المستوى السياسي.

والحقيقة أن علاقة زعيم الحزب بالمركز في بيروت منذ العام 1939 ظلت محكومة بالظروف الأمنية العالمية، وبالظروف السياسية والأمنية في سورية تحديداً. إن سقوط فرنسا بيد النازيين أدى إلى تبدل ولاءات سلطات الاحتلال الفرنسي في الكيانين اللبناني والشامي، ما أسفر عن حملة اعتقالات طالت القيادات الحزبية. وتتضمن رسائل سعاده خلال تلك الفترة إشارات عدة توضح وضع الحزب في الوطن حيث "المراقبة على الكتب وملاحقة رجال إدارة الحزب"(3). وفي رسالة أخرى يقول: "وبسبب الحرب انقطعت المواصلات المنتظمة بيني وبين المركز في الوطن".(4)

استمر الانقطاع بين سعاده والمركز طيلة فترة الحرب تقريباً. وجاءت الإشارة العلنية الأولى إلى الشك الذي خامره في ما يتعلق بانحراف القيادة الحزبية في الكيانين اللبناني والشامي في رسالته الأولى إلى غسان تويني بتاريخ 21 شباط سنة 1946. فقد كان هذا الأخير، الذي قصد الولايات المتحدة الأميركية لمتابعة دراسته الجامعية، مُكلفاً من قبل المجلس الأعلى في بيروت بالإتصال بالزعيم وتقديم مجموعة من التقارير تشرح ظروف الحزب وواقعه بعد انتهاء الحرب. وهذا ما أكده سعاده في رسالته عندما قال: "... إن المجلس الأعلى الموقر إنتدبك لمهمة شديدة الخطورة ودقيقة جداً هي مهمة الإتصال بي واعطائي صورة صادقة للأمور المفوض إليك نقلها إليّ وإيصال وثائق سرية إليّ".(5)

ولعل هذه "الصورة الصادقة" كما نقلها تويني هي التي كشفت لسعاده جانبين أساسيين من طبيعة انحراف القيادة الحزبية في لبنان. فبعد أن أوضح في الرسالة ذاتها "أن المعلومات التي عندي عن الحزب وحالته الحاضرة هي قليلة جداً تكاد توازي لا شئ"(6)، طلب من تويني تقريراً شاملاً يُغطي نقاطاً عدة أهمها ــ بالنسبة إلى موضوعنا هذا ــ البندان الأول والثالث اللذان سيشكلان محور معالجته لمظاهر الانحراف المتعددة بُعيد عودته إلى الوطن سنة 1947.

هذان البندان هما:

"1 ــ الفكرة السورية القومية الاجتماعية ومبلغ قبولها وتقدمها في أوساط الشعب في جميع مناطق سورية الطبيعية بعد سنة 1938.

"3 ــ "الحزب القومي" والأسباب الموجبة لظهوره في لبنان في هذا الشكل والضمانات لاستمرار عمله، وكيف قابلت جميع فروع الحزب هذا الحدث".(7)

يُظهر البند الأول إدراك سعاده الواضح أن سياسة "الواقع اللبناني" التي أطلقها نعمة ثابت تناقض الفكرة السورية القومية التي تقوم على أساسها العقيدة القومية الاجتماعية. ومع ذلك لم يرغب في أن يطلق حكماً مسبقاً ويتخذ إجراءات دستورية قبل معرفة "مبلغ قبولها (أي الفكرة السورية القومية) وتقدمها في أوساط الشعب في جميع مناطق سورية الطبيعية". أما البند الثاني فيطرح تساؤلاً كان يُقلق سعاده أكثر من أي أمر آخر، وهو "كيف قابلت جميع فروع الحزب هذا الحدث"؟ وعلينا أن نلاحظ هنا عبارة "جميع فروع الحزب" وعبارة "جميع مناطق سورية الطبيعية"، ذلك أن سعاده أراد معرفة موقف القوميين الاجتماعيين ليس فقط في الكيان اللبناني المعني بمشروع "الواقع اللبناني" بل في "جميع مناطق سورية الطبيعية" وفي أوساط "جميع فروع الحزب". وقد كانت هذه المعرفة ملحة وضرورية لأنها ستكون القاعدة التي سينطلق منها الزعيم في خطاب وصوله إلى الوطن في آذار سنة 1947، وفي قرارات التخلص من الانحراف والفساد التي اتخذها بعد ذلك.

لم يكن متاحاً للزعيم، وهو في مغتربه القسري، سوى إجراءات محدودة يمكنه القيام بها لمعالجة ما استشرفه من انحراف لدى قيادة الحزب في الكيان اللبناني. وأهم تلك الإجراءات لفت نظر المسؤولين المركزيين إلى مظاهر الانحراف الفكري والسياسي وخطورته، وفي الوقت نفسه التوجه إلى القوميين الاجتماعيين بالتثقيف الفكري والسياسي في محاولة لمنع امتداد مفاعيل الانحراف إلى الصفوف الحزبية. غير أن القيادة المركزية، المدركة حجم تورطها في صفقات سياسية محلية، عمدت في بعض الأحيان إلى حجب رسائل سعاده الموجهة من المغترب إلى القوميين الاجتماعيين. يقول الزعيم في المحاضرة الأولى: "لذلك عندما أرسلت منذ سنة رسالتي الثانية من الأرجنتين، التي دعوت فيها الحزب إلى البطولة وإلى مهمة تحقيق القضية القومية الاجتماعية، لم يشاءوا أن ينشروها ويمكن أن يكونوا عطلوها".(8)

لكن كيف واجه سعاده، بعد عودته إلى الوطن واستعادته صلاحيات منصب الزعامة، الانحرافات داخل الحزب، سواء كانت انحرافاً نظامياً (في الممارسة) أو انحرافاً فكرياً (في العقيدة) أو انحرافاً مسلكياً (في المناقب) أو انحرافاً سياسياً (في التحالفات)؟ علماً بأن هذه الأصناف كلها مترابطة، وبعضها يؤدي حكماً إلى بعضها الآخر.

أول شئ جال في فكر سعاده هو السؤال التالي: كيف تلقى القوميون الاجتماعيون انحراف القيادة المركزية المتضمن في سياسة "الواقع اللبناني"؟

لا بد من التأكيد في بادئ الأمر على أن بعض القوميين الاجتماعيين لاحظ هذا الانحراف وحاول مواجهته من ضمن القنوات الحزبية الرسمية. يقول الأمين الراحل عبدالله قبرصي: "بل إن الواقع اللبناني لم يلفت نظر إلا عميد الإذاعة آنذاك كريم عزقول وعميد المالية جبران جريج والمتصلبين كعجاج المهتار وجورج عبد المسيح وقلة أخرى. وقد كتب بعضهم إلى سعاده للأرجنتين يلفته إلى الانحراف العقائدي في ذلك الخطاب الذي ألقاه نعمة ثابت في مهرجان بعقلين".(9) ونحن نعرف، على سبيل المثال، أن الشهيد الصدر عساف كرم تعرض لعقوبات حزبية بعد رفضه الممارسات الانحرافية السياسية والنظامية. كما كتب عدد من القوميين، أبرزهم الأمين الراحل عجاج المهتار(10)، إلى الزعيم في مغتربه القسري لفضح الانحراف، والدعوة في الوقت نفسه إلى وضع حد لسياسة اللبننة. أما الغالبية العظمى من أعضاء الحزب فظلت قابلة بما هو قائم!

تبين لسعاده أن القوميين الاجتماعيين سكتوا عن الانحراف بسبب أحد العومل التالية:

1 ــ عامل النظام.

2 ــ عامل الجهل.

3 ــ عامل الإهمال.

العامل الأول هو الأقرب إلى الذهن، فالقوميون معروفون بنظاميتهم الصلبة وبالثقة العميقة التي يسلفونها للقيادات الحزبية. ولذلك وجد سعاده أن هذا العامل كان منتشراً على نطاق واسع في صفوف الحزب. يقول في المحاضرة الأولى: "والظاهر أن الحزب قبل انتشار "الواقع اللبناني" بحكم النظام فقط، لأنني وجدت أن مجموع القوميين الاجتماعيين لم يتقيدوا بفكر واحد من هذه الأفكار. ولكن قبول هذا الخروج العقدي، وإن يكن في الظاهر فقط، يكون مسألة من المسائل الخطيرة".(11)

أما العامل الثاني، عامل الجهل، فقد نشأ نتيجة تخلي المؤسسات الحزبية المعنية عن واجباتها في تثقيف الصف الحزبي بالعقيدة القومية الاجتماعية، وبتاريخ الحركة القومية. وهو أمر كان متعمداً في سياق حرف الحزب عن مساره القومي، وتوظيفه في السياسة الكيانية كما حددها مشروع "الواقع اللبناني". يقول سعاده في المحاضرة نفسها: "إن استغرابي بلغ حداً عالياً عندما وجدت أن أعضاء في الحزب السوري القومي الاجتماعي يدعون أنفسهم قوميين اجتماعيين، لأنهم مسجلون رسمياً في الحزب، يتقولون في قضايا الحزب والعقيدة والحركة كما لو كانوا جماعة غرباء عن الحركة القومية الاجتماعية بالكلية".(12)

لكن أخطر ما لاحظه سعاده أثناء تعاطيه مع تداعيات السياسات الانحرافية أن "النظامية الفكرية والروحية والمناقبية التي كانت العامل الأساسي الأول في نشوء النهضة القومية الاجتماعية وتولد هذه الحركة العظيمة الآخذة في تغيير نفسية هذه الأمة ومصيرها، كادت تنعدم في دوائر الحزب العليا بعامل الإهمال، وأصبحت الحركة مهددة بالميعان العقدي والنظامي".(13) ومن الطبيعي أن الإهمال هذا يعزز بالضرورة الجهل الذي هو ستارة يتلطى وراءها المنحرفون.

فما الذي فعله زعيم الحزب لمعالجة ظواهر قبول الانحراف: بعامل النظام، وبعامل الجهل، وبعامل الإهمال؟

أقدم سعاده، بعد تجاوز مؤامرة أزمة مذكرة التوقيف بحقه في آذار سنة 1947، على محاسبة المسؤولين عن ذلك الانحراف، من دون أن يلجأ هذه المرّة إلى حل الحزب نظراً إلى وجود نصوص دستورية راسخة ومعمول بها منذ سنوات. وأعاد، في الوقت نفسه، العمل الحزبي في الوطن إلى قنواته الدستورية والنظامية في أسرع وقت ممكن. وبادر، على خط موازٍ، إلى عملية توعية وتثقيف واسعة تمثلت في مجموعة من المحاضرات (أهمها "المحاضرات العشر") والخطب والمقالات والجولات الحزبية والاجتماعات الإدارية واللقاءات في الندوة الثقافية المركزية... كانت هي الأغنى والأعمق في كل تراثه الفكري.

لكن في خضم هذه المعركة النظامية الفكرية المناقبية الشاملة بمواجهة أخطبوط القوى الرجعية المحلية والعربية والعالمية، كان هناك عامل رابع أكثر خطورة من العوامل الثلاثة المذكورة أعلاه، إما أن سعاده لم ينتبه له أو أنه لم يجد من الضروري الكشف عنه علناً ومعالجته صراحة في محاضراته وفي إجراءاته الدستورية. وهذا العامل يتمثل في أن بعض القياديين القوميين الاجتماعيين قبلوا الانحراف أو سكتوا عنه بعامل القناعة الفكرية والسياسية. وهؤلاء "المنحرفون المقتنعون" كانوا مسؤولين، مباشرة أو مداورة، عن تطور الأحداث التي أوصلت الحزب في نهاية المطاف إلى إعلان الثورة القومية الاجتماعية الأولى، وبالتالي وقوع سعاده نفسه في براثن الرجعية السورية المدعومة بنظيرتها العربية والمتواطئة مع المخطط الصهيوني الاستعماري للقضاء على سعاده وعلى الحزب.

إن "عامل الجهل" و"عامل الإهمال" اللذين تحدث عنهما سعاده في محاضرته الأولى، ونقلنا نصهما في فقرات سابقة، لا يعطيانا تفسيراً منطقياً مقنعاً لسكوت معظم القيادات الحزبية التاريخية آنذاك عن سياسة "الواقع اللبناني" المنحرفة. ربما نقبل، تجاوزاً، تأثير "عامل النظام". لكن العاملين الآخرين لا ينطبقان على قيادات عاصرت سعاده وشاركته مرحلة التأسيس الصعبة بين 1932 و1938. هؤلاء لا يمكن إلا وأن يكونوا قد أدركوا أن نزعة اللبننة التي روّج لها نعمة ثابت ومأمون أياس مناقضة من حيث المبدأ للفكر السوري القومي. وهم لم يكتفوا بـ "السكوت" على الانحراف، بل تحملوا مسؤوليات مركزية على مدى سنوات... ما يجعلهم شركاء في الانحراف بـ "عامل القناعة"! وهذا ما يؤكده أسامة المهتار بقوله: "إذا سلمنا جدلاً بأن أعضاء المجلس الأعلى لم يعرفوا أن "الواقع اللبناني" خروج، وأنه كان عليهم الانتظار حتى يعود سعاده ليدركوا ذلك، فإن تاريخ الحزب يشير إلى أنهم إما لم يحفظوا الإمثولة أو تجاهلوها وعادوا إلى عادتهم القديمة بعد استشهاد سعاده".(14)

غالبية القيادات الحزبية المركزية بين 1944 و1947 "اقتنعت" بضرورة "المرونة" في العمل السياسي حتى لو اقتضى ذلك الانخراط في الانحراف الفكري والنظامي والمناقبي! ولعل ما نقله الأمين الراحل نواف حردان عن رئيس المجلس الأعلى آنذاك نعمة ثابت يعطينا صورة معبرة ودقيقة عن تفكير عدد من المسؤولين المركزيين يومها. قال ثابت: "القصد من الحصول على رخصة باسم الحزب القومي من الحكومة هو تسهيل العمل الحزبي. ولا بأس إذا استغنينا عن شعار الزوبعة مؤقتاً وأبدلناه بشعار آخر. وأعتقد أنه بعد الترخيص للحزب وإصدار الجريدة وعودة الأعمال الحزبية في المناطق إلى سابق نشاطها وتنظيم جهودها، لن تمضي مدة قليلة إلا ونستولي على الحكم في لبنان، إما بواسطة الانتخابات أو بوسائل أخرى. وأثناء ذلك يكون القوميون في الشام مساعدين لنا، ثم نمد يدنا إلى الشام لتحقيق ما يجب تحقيقه".(15)

هذا المنطق الظرفي الانتهازي، الذي عبّر عنه ومارسه نعمة ثابت وباقي أعضاء القيادة الحزبية في غياب سعاده القسري، سحب نفسه على مراحل تاريخية مختلفة بعد استشهاد الزعيم، وصولاً إلى يومنا الراهن. وغالباً ما كان المنحرفون بعامل القناعة يستغلون الثغرات الدستورية، أو يقدمون على تعديل الدستور كما تشاء رغائبهم، من أجل تحقيق غاياتهم الشخصية وإحكام سيطرتهم على مفاصل السلطة وتغطية طبيعتهم الانحرافية في الفكر والنظام والسياسة والمناقب. إن المسؤولية الكبرى والأساسية في تفشي وباء الانحراف المعدي بعامل القناعة وتمادي المنحرفين "المقتنعين"(!) تقع على عاتق القوميين الاجتماعيين القابلين الانحراف والساكتين عنه... بعوامل النظام أو الجهل أو الإهمال.

الهوامش

1 ــ الأعمال الكاملة، الجزء الثالث. صفحة 185.

2 ــ المرجع السابق، صفحة 185.

3 ــ المرجع السابق، الجزء العاشر. صفحة 50.

4 ــ المرجع السابق، صفحة 156.

5 ــ المرجع السابق، الجزء الحادي عشر. صفحة 25.

6 ــ المرجع السابق، صفحة 30.

7 ــ المرجع السابق، صفحة 31.

8 ــ المرجع السابق، الجزء الثامن. صفحة 10.

9 ــ "عبدالله قبرصي يتذكر ــ الجزء الثاني"، صفحة 138. مؤسسة فكر للأبحاث والنشر ــ بيروت 1982.

10 ــ أسامة عجاج المهتار، "إدارة الإستراتيجية في المنظمة العقائدية". صفحات 147 ــ 188. مؤسسة سعاده للثقافة ــ بيروت 2009.

11 ــ الأعمال الكاملة، الجزء الثامن. صفحة 5.

12 ــ المرجع السابق، صفحة 5.

13 ــ المرجع السابق، صفحة 5.

14 ــ أسامة عجاج المهتار، مرجع سابق. صفحة 171.

15 ــ نواف حردان، "على دروب النهضة". صفحة 93. بيروت 1997. توزيع بيسان للنشر والتوزيع والإعلام.


 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024