شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية 2016-07-17
 

تركيا الأردوغانية هي المشكلة

أحمد أصفهاني

أظهرت المحاولة الإنقلابية الفاشلة في تركيا صوابية هواجس الرئيس رجب طيب أردوغان في ما يتعلق بولاء المؤسسة العسكرية لحكمه الإسلامي السلطوي القائم على أكتاف "حزب العدالة والتنمية" الذي يعتبر فصيلاً أساسياً في التنظيم العالمي لجماعة "الإخوان المسلمين". وهذه الهواجس تعود إلى عقود من التدخل العسكري في الشؤون السياسية الداخلية التركية، آخرها وأهمها كان سنة 1979 عندما أطاح الجيش في انقلاب أبيض بحكومة رئيس الوزراء نجم الدين أربكان ذي المنحى الإسلامي، والأب الروحي لتوجهات أردوغان الإسلامية.

منذ سنة 2004، وفور توليه منصب رئيس الوزراء، وضع أردوغان نصب عينيه هدفاً إستراتيجياً على صعيد إحكام سيطرته الداخلية وحمايتها يقوم على ثلاث قواعد:

1 - ضرب مراكز القوى السياسية داخل الجيش، والتخلص من قياداته العليا، وتسليط سيف المحاسبة القانونية بمفعول رجعي يغطي الإنقلابات السابقة على رؤوس مناوئيه في المؤسسة العسكرية، وتسريح كل من لا يثق بولائه، وأخيراً ترقية قيادات موالية له وتعيينها في أبرز المناصب الحساسة.

2 - تعزيز دور أجهزة المخابرات بشكل مستقل عن المؤسسة العسكرية، وزيادة عديد قوى الأمن الداخلي مع تزويدها بالأسلحة والتجهيزات الحديثة، كخطوة ضرورية لإقامة نوع من التوازن المسلح مع الجيش النظامي.

3 – تنظيم أعضاء ومناصري "حزب العدالة والتنمية" الإخواني وإعدادهم للعب دور حيوي في الشارع، سواء في مواجهة القوى الحزبية الأخرى ذات التوجهات المعارضة لسلطوية أردوغان، أو لإحباط أية محاولة إنقلابية عسكرية كما جرى في منتصف تموز الحالي.

يدرك أردوغان أن "تنظيف" الجيش، كما قال بعد الإعلان عن فشل المحاولة الإنقلابية، لن يضمن له السيطرة الكاملة على ثاني أكبر جيش في منظومة حلف شمال الأطلسي (الناتو). فضخامة عديد القوات المسلحة وتوزعها الجغرافي والشعبي من جهة، والعلاقات العملية الدائمة مع قيادات عسكرية أطلسية من جهة أخرى، ستترك ثغرات لا يضمن أردوغان وحزبه مجال سد ذرائعها. في حين أن هذا الأمر ممكن بسهولة نسبية مع أجهزة المخابرات المحلية وقوى الأمن الداخلي والمنظمات الحزبية، خصوصاً إذا نشأت بينها جميعها علاقات تنسيق وتعاون على غرار ما شهدته وسائل الإعلام العالمية فور تحرك بعض القطاعات العسكرية في محاولتها للسيطرة على مفاصل الدولة في أنقره واستنبول.

وكشفت التغطية الإعلامية الموسعة، وكذلك معلومات أدلى بها شهود عيان أتراك وأجانب، أن من الأسباب الرئيسية لفشل المحاولة الإنقلابية: تردد القيادات العسكرية العليا في حسم موقفها بانتظار توضح مسار العملية الإنقلابية، وعدم التنسيق مع الأحزاب والقوى السياسية المعارضة، وبقاء أجهزة المخابرات وقوى الأمن الداخلي على ولائها المطلق للحكم الأردوغاني وتصديها الحاسم للإنقلابيين، وخروج قطاعات واسعة من الأتراك إلى الشوارع لمواجهة الإنقلاب في تحركات أعطاها بعضهم وصف "الميليشيات المنظمة" المتعاونة مع قوى الأمن الداخلي. طبعاً هناك عوامل أخرى للفشل، لكن الأسباب الواردة أعلاه هي الأهم لأنها ستحدد طريقة تعامل أردوغان مع الوضع التركي في مرحلة ما بعد المحاولة الإنقلابية.

كان أمام أردوغان طريقان يمكن أن يسلكهما في مرحلة ما بعد نجاة حكمه من السقوط بانقلاب عسكري: الأول، تغيير توجهاته الداخلية نحو الانفتاح على القوى الحزبية الأخرى وتخفيف قبضته المطلقة على مفاصل الحكم السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية والإعلامية. والثاني، الإيغال أكثر فأكثر في التفرد السلطوي نحو دستور رئاسي جديد يعطي الرئيس (أي أردوغان) صلاحيات هي أقرب ما تكون إلى الحكم الديكتاتوري المطلق. ويبدو من متابعة الخطوات الأولى التي قام بها أو أعلن عنها خلال الأيام القليلة الماضية أنه اختار الطريق الثاني، مع كل ما يعنيه ذلك من تداعيات داخل تركيا وخارجها.

إن الأحزاب التركية المعارضة التي اتخذت موقفاً مبدئياً ضد الانقلاب ستجد نفسها، شيئاً فشيئاً، أمام ديكتاتورية حزبية لا تقل خطراً وشراسة عن أية ديكتاتورية عسكرية. وسيكون عليها أن تتصدى لكل التشريعات التي قد تنتقص من حقوقها العامة، تماماً كما حدث مع "حزب الشعوب الديموقراطية" الذي واجه في البرلمان تصويتاً على رفع الحصانة النيابية عن نوابه لأنهم أطلقوا الانتقادات العلنية ضد سياسة الحصار والتهجير والأرض المحروقة التي مارستها الحكومة في مناطق جنوب وجنوب شرق تركيا حيث تقيم غالبية كردية.

قد يرفل أردوغان في إطلالاته على مناصريه في شوارع استنبول وأنقره وغيرهما من المدن التركية بوصفه "البطل" المنتصر على "الإنقلابيين الخونة"، لكنه لن يستطيع تجاهل الشرخ الاجتماعي الكبير الذي عرّته المحاولة الإنقلابية على رغم فشلها. إن الاستقطاب الحاد السياسي والاجتماعي والأمني سيزداد تبلوراً داخل تركيا، وقد عبّرت إحدى الباحثات الأميركيات عن وضع تركيا الراهن في الجملة التالية: "كانت تركيا بالنسبة إلى العالم الغربي عبارة عن حاجز يعزل أوروبا عن مشاكل الشرق الأوسط، أما الآن فقد أصبحت تركيا جزءاً من مشاكل الشرق الأوسط"!

في 25 شباط الماضي كتبتُ مقالاً بعنوان "الحرب على سوريا هل تنتهي بتفكيك تركيا؟" أوردت فيه العبارة التالية:

"عندما يطرح أردوغان شكواه الطفولية على الولايات المتحدة الأميركية: "هل أنتم معنا أم مع الأكراد؟" وعندما لا يستثني أحداً، لا روسيا ولا أميركا ولا أوروبا، من هجماته السياسية العنيفة... يكون قد أعلن إفلاس سياسة "صفر مشكلات"، ليس مع دول الجوار فحسب وإنما أيضاً مع المكونات الاجتماعية في الداخل التركي. فهو في حالة حرب مع الأكراد، وسياساته الطائفية تثير مخاوف الجماعات الدينية والمذهبية الأخرى، ونزعاته الديكتاتورية المتمثلة في مساعيه لإقرار دستور جديد يعطيه صلاحيات رئاسية واسعة تقلق الأطراف السياسية المختلفة، وإقدامه على "تطهير" الجيش من القيادات التاريخية إستعدى عليه القوى التي لا تزال ترى في المؤسسة العسكرية ضمانة للنهج الأتاتوركي التاريخي، وتوجهاته الإسلامية الضيقة لا تلقى قبولاً لدى دول أوروبا العلمانية...


"نحن نعتقد بأن تركيا الأردوغانية وصلت إلى مفترق طرق مصيري، إذ أنها أصبحت عرضة لنفس العوامل السياسية والديموغرافية التي فجّرت العراق وسوريا. صحيح أن عضويتها في الحلف الأطلسي تعطيها نوعاً من الحصانة الدولية... غير أن ذلك لا يمنع عنها مخاطر الصراع الداخلي المتأجج حالياً مع الأكراد، والمتحفز مع الجماعات الدينية والمذهبية، والكامن تحت الرماد مع الأحزاب السياسية المتنوعة. يكفي أن تتوافر إرادة جادة ذات أبعاد إستراتيجية إقليمياً ودولياً مستعدة لتقليم أظافر أنقرة، حتى يتجرع أردوغان كأس التفتيت نفسها التي أراد لسوريا أن تتجرعها".

هذا هو الواقع التركي الذي فتحت المحاولة الانقلابية، وإن فاشلة، نوافذ مشرعة للإطلالة عليه أمام سمع العالم وبصره. وبعد التطورات الإقليمية والدولية الأخيرة، التي لم تكن إجمالاً لصالح أنقره، لا يستطيع أردوغان اللجوء إلى سياسات خارجية إشكالية بينما النيران كامنة تحت الرماد في بيته الداخلي.



 

جميع الحقوق محفوظة © 2024 -- شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه