إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

ظرفية سعاده وراهنيته

أحمد أصفهاني

نسخة للطباعة 2016-07-26

إقرأ ايضاً


المرة الوحيدة التي تمكن فيها أنطون سعاده، مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي وزعيمه، من الانكباب على إنجاز عمل فكري متكامل كانت عندما أنهى في فترات السجن المتلاحقة بعد الكشف عن أمر الحزب في تشرين الثاني سنة 1935 كتابه العلمي المرجعي "نشوء الأمم" الصادر في بيروت سنة 1938. وكان من المفترض أن يشكل "نشوء الأمم" الكتاب الأول من ثنائية ستستكمل بكتاب "نشوء الأمة السورية"، غير أن السلطات الاستعمارية الفرنسية صادرت مسوّدات ذلك الكتاب ومراجعه وأسانيده ولم ترجعها إلى سعاده... فظلت ضائعة حتى الآن على الرغم من المطالبات الرسمية المستمرة والتفتيش المضني الذي قام به باحثون قوميون في الدوائر الفرنسية المختلفة.

وباستثناء كتاب "قصتان: عيد سيدة صيدنايا وفاجعة حب" الصادر في بيروت سنة 1932، وهو يعود إلى فترة ما قبل تأسيس الحزب، فإن نتاج سعاده الفكري أتى كله في خضم عملية التأسيس النهضوية على شكل مقالات وخطب ومحاضرات ورسائل. حتى أن شرح مبادئ الحزب، الذي وُضع في السجن أيضاً، إنما كان تسجيلاً واستكمالاً للشروح الشفهية والدروس المطولة التي كان سعاده يلقيها على المقبلين على دعوته القومية الاجتماعية في فترة النشاط السري للحزب.

هذا يشير إلى أن نتاج سعاده الفكري كان ظرفياً في أحد جوانبه، بمعنى أنه تناول الظروف القومية والإقليمية والدولية المحيطة به وبحزبه وفق مهجية قومية واضحة. لكن ظرفيته تلك لا تلغي شموليته وراهنيته، إذ أنه من المفكرين النادرين على المستوى العالمي الذي تمكن من صياغة رؤية مستقبلية دقيقة للغاية حتى وإن كانت تنطلق من ظرف محدد في الثلاثينات أو الأربعينات من القرن الماضي. فهو يعتبر أن العقل هو الشرع الأعلى، ويؤمن بأن المبادئ هي قواعد لانطلاق الفكر، ويرى أن الجمود هو نقيض الحركة، ويعتقد بأن النهضة لا تعني العودة إلى "عصر ذهبي موهوم" بل هي البناء على الحقائق التي يصنعها أبناء الأمة من ضمن ظروفهم وأوضاعهم المستجدة.

ولمزيد من الإيضاح، نقترح أن نلقي نظرة عامة على كتابات سعاده في مراحل أربع متميزة من حياته: قبل التأسيس (1921 – 1932)، التأسيس والمواجهة مع السلطات الاستعمارية الفرنسية (1932 – 1938)، الاغتراب القسري (1938 – 1947)، وأخيراً في الوطن (1947 – 1949). الميزة الأولى التي نلاحظها هي وضوح المجال الشمولي لكتاباته في مختلف تلك المراحل: من السياسة المحلية إلى السياسة الإقليمية إلى السياسة الدولية، من الاقتصاد إلى الإستراتيجيا إلى الحروب، من الأدب إلى الموسيقى إلى الفن التشكيلي، من النزعة الفردية إلى التفتت الاجتماعي إلى أوضاع المرأة... وهكذا. فالنهضة التي يسعى إليها تعني أن تكون لنا نظرة مميزة جديدة إلى الحياة والكون والفن.

ومع أن هذه الميزة طبعت عطاء سعاده الفكري في مختلف فترات حياته، غير أننا نستطيع أيضاً تلمس ما نقترح أن نطلق عليه "التعامل الظرفي المكثف" مع ظواهر بارزة في زمان ومكان معينين. خلال مرحلة التأسيس والمواجهة مع السلطات الاستعمارية الفرنسية، نجد أن غالبية كتابات سعاده هدفت إلى تحقيق أمور ثلاثة متكاملة: أولاً - شد عصب أعضاء الحزب وترسيخ وعيهم القومي بمزيد من التثقيف الفكري والسياسي. ثانياً - مواجهة الانتداب والقوى المحلية المتحالفة معه أو الصامتة عن ارتكاباته بحق وحدة سوريا وطناً ومجتمعاً. ثالثاً - التشديد على نبذ النزعات الطائفية لصالح الإخاء القومي بعيداً عن تدخل رجال الدين في شؤون السياسة والقضاء.

أما في مرحلة الاغتراب القسري، فقد تطلبت ظروف المهاجرة السورية في الأرجنتين والبرازيل وغيرهما من دول أميركا اللاتينية، أن يقارب سعاده عمله النهضوي من زوايا أخرى: أولاً - حث المغتربين على إبقاء صلاتهم بوطنهم الأم. ثانياً - تنظيم أبناء الجالية في مؤسسات قادرة على إعلاء الشأن السوري في المغترب، وفي الوقت نفسه دعم العمل القومي في الوطن. ثالثاً - تعرية ومعالجة المفاسد الاجتماعية المستشرية في صفوف المغتربين، خصوصاً النزعة الفردية المدمرة. رابعاً - تحطيم الأصنام الرجعية التي أقامت عروشها الأدبية والسياسية على التحريض الديني والطائفي. خامساً - مواصلة التربية الإدارية في رسائل توجيهية إلى الرفقاء والمسؤولين الحزبيين في الوطن وعبر الحدود.

وعندما عاد سعاده إلى الوطن سنة 1947، استدعته الظروف الحزبية والقومية لأن ينتهج طريقاً خاصاً للتعامل مع المستجدات التالية: أولاً - خلل عميق في البنيان العقائدي والنظامي والسياسي على أعلى المستويات في قيادة الحزب. ثانياً - حكومات سورية "وطنية" ورثت أسوأ ما خلفه الاستعمار في بلادنا. ثالثاً - مشروع صهيوني متواطئ مع قوى إقليمية ودولية. رابعاً - أفكار ماركسية وعروبية وإشتراكية آخذة في الانتشار داخل النخب السورية المثقفة.

كل هذه المسائل والمستجدات واجهها سعاده بالمنهج القومي الاجتماعي الواضح، مع تطوير مستمر لوسائل الشرح والتفسير. ميزته الأساسية في هذا المجال أنه كان يحدد المسألة الأكثر إلحاحاً في ذلك الظرف المعين، ثم يستنبط من منهجه القومي الاجتماعي أساليب التعامل معها. وعلى سبيل المثال لا الحصر، فإن موقفه من المسألة الطائفية في لبنان سنة 1936 لا يختلف عن موقفه منها في الأرجنتين سنة 1942، لكن طريقة تعامله معها ومواجهته لها كانت مختلفة. ظرفية الحركة الغوغائية الطائفية في لبنان، وظرفية المحاضرة التحريضية للشاعر القروي في أميركا اللاتينية تلتقيان عند نقطة واحدة هي الفتنة الدينية التي ما زالت مستشرية في المجتمع السوري والمجتمعات العربية الأخرى حتى اليوم. وفي التعاطي مع هاتين الحالتين، أو مع أية حالة معاصرة تماثلهما، تبقى مبادئ الحزب السوري القومي الاجتماعي نقطة الانطلاق في العلاج.

وظف سعاده العمل السياسي والتحرك الشعبي لمواجهة فتنة سنة 1936، فأصدر بياناً توجيهياً إلى الشعب يحذره فيه من مخاطر التشاحن المذهبي. وعمد في الوقت نفسه إلى تكليف وفود قومية اجتماعية بالتوجه إلى منطقتي الأشرفية والبسطة للعمل على وأد الفتنة في مهدها. أما في الأرجنتين سنة 1942، فقد انقض كالصاعقة على المحرضين المذهبيين مستخدماً النقد الأدبي والبحث الفلسفي وعلم الأديان المقارن. وهكذا نجد أن أدواته المعرفية كانت تختلف حسب الظروف، لكن غايته القومية ظلت واحدة في جميع الأحوال. وإذا كانت مسألة لواء الإسكندرون قد طغت على مقالاته السياسية في الثلاثينات، ومسألة ضياع فلسطين على مجمل نشاطه في الأربعينات، فهذا لا يعني أن أياً منهما قد غابت عن اهتماماته القومية الشاملة. فالظروف القومية والسياسية هي التي تحدد طبيعة التوجهات المرحلية.

لقد توصل سعاده إلى منهجه القومي الاجتماعي بعد مخاض طويل من البحث والتجريب. ولعل أهم أدواته المعرفية طرح الأسئلة الوجودية من مثل "ما الذي جلب على شعبي هذا الويل؟" و"هل نحن أمة حية؟" و"هل نحن أمة لها مثل عليا في الحياة؟" وغيرها كثير. وكان التدقيق في السؤال يحيله إلى جواب، ثم يفتح له الجواب باباً جديداً على أسئلة لا تنتهي... إن أوضاعنا القومية العامة تتطلب أسئلة من النوع المصيري نفسه، ذلك أن الأمة التي لا تواصل طرح الأسئلة الوجودية هي أمة جفـّت في عروقها نبضات المعرفة. والحزب السوري القومي الاجتماعي، إنطلاقاً من منهجية سعاده، مدعو قبل غيره ليس فقط لمواصلة طرح الأسئلة بل لإبداع الأجوبة التي تجعل حياتنا حقاً وخيراً وجمالاً.

 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024