إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

"حزب سعاده"... و"المعارضة"! (1 من 2)

أحمد أصفهاني

نسخة للطباعة 2016-08-13

إقرأ ايضاً


كتب الرفيق يوسف المسمار، المقيم في البرازيل، مقالاً وزعه عبر الإنترنت قبل فترة قصيرة حمل عنوان "ليس في حزب سعاده معارضة". وقد وردت في البحث المطوّل جملة من النقاط التي تحفز العقل القومي الاجتماعي على إعمال النظر النقدي في أوضاع الحزب الراهنة، خصوصاً في ضوء ما آلت إليه الأمور بعد إشكالية التعديل الدستوري ومن ثم التراجع عنه... وصولاً إلى انتخاب رئيس جديد للحزب السوري القومي الاجتماعي. وليس الهدف من مقالي هذا مناقشة الرفيق المسمار في بعض النتائج التي توصل إليها، فأنا أتفق معه في معظمها، بل أريد تحويل الحوار إلى منحى آخر أعتقد أنه سيفيدنا كثيراً في فهم طبيعة الأزمات الحزبية التاريخية، ومنها أزمتنا الحالية التي لا أظن أن وجود الرئيس الجديد سيمنعها من التصعيد خلال المرحلة المقبلة.

سأبدأ من عبارة لحضرة الزعيم تؤكد على أن التعيين هو شرط الوضوح. وعلى هذا الأساس سأفكك عنوان مقال الرفيق المسمار إلى عنصريه الرئيسيين: حزب سعاده والمعارضة. ثم أنطلق في طرح الأسئلة التالية حول الشق الأول: ماذا نقصد بـ "حزب سعاده"؟ أي حزب نعني من بين المؤسسات الثلاث التي تحمل اليوم اسم الحزب السوري القومي الاجتماعي؟ وما هي المواصفات التي على أساسها يمكن أن نطلق لقب "حزب سعاده" على هذه المؤسسة أو تلك؟ وبالنسبة إلى الشق الثاني سأطرح الأسئلة التالية: هل توجد معارضة في الأحزاب العقائدية؟ وما هي الظروف التي تدفع إلى نشوء مثل هذه المعارضة؟ وما طبيعة تلك المعارضة في حال نشوئها بالفعل؟

من الناحية الزمنية المجردة، فإن صفة "حزب سعاده" تنطبق على الحزب السوري القومي الاجتماعي بين سنتي 1932 و1949. بل يمكننا نزع هذه الصفة عن "الحزب القومي" بين سنتي 1944 و1947 عندما أقدمت القيادة الحزبية على الترويج للإنحراف اللبناني في ظل غياب الزعيم القسري في الأرجنتين. وقد وصف سعاده تلك المرحلة بقوله: "تعرض الحزب في غياب الزعيم إلى إغفال شديد لحقيقته ولقضيته ولرسالته التي أنشأها وحددها الزعيم في تعاليمه الكثيرة الواسعة. فنشأت في دوائر الحزب العليا انحرافات كبيرة عن هذه الحقيقة الأساسية في السياسة والاتجاهات المختلفة الإذاعية والثقافية والإدارية المحض وفقدت الحركة القومية الاجتماعية تلك النظرة العالية وهبطت إلى حضيض نظرة تعتبرها مجرد عدد من الأفراد قد انتظموا صدفة في سلك نظامي يصلح تياراً لمختلف النزعات والأهداف مهما كانت متضاربة بعضها مع بعض ومع العقيدة القومية الاجتماعية". (العدد 10 من النشرة الرسمية، تاريخ 15 تشرين الثاني 1947). وهذا يعني أن كثيراً من الممارسات السياسية والمواقف الفكرية والترتيبات الإدارية آنذاك لا تلزم سعاده ولا القوميين الاجتماعيين، على الرغم من أن قطاعاً واسعاً من القوميين أذعن لذلك الانحراف بعامل النظام حسب تعبير الزعيم. لكن عودة سعاده إلى الوطن، واستعادته صلاحيات الزعامة المطلقة، ساهما في تصحيح المسار القومي بحيث انتهى "الحزب القومي" إلى غير رجعة، وعاد التطابق الشامل بين الحزب السوري القومي الاجتماعي و"حزب سعاده".

وقبل أن ننتقل إلى فترة ما بعد استشهاد سعاده، لا بد من التوقف قليلاً عند جذور صلاحيات الزعيم المطلقة كما مارسها على أرض الواقع في معركة تصحيح مسار الحزب والعقيدة بين سنتي 1947 و1949. وهي مسألة مهمة للغاية ستساعدنا لاحقاً على فهم بعض من الأزمات الحزبية المرتبطة بالصلاحيات التشريعية التي أعطيت للمجلس الأعلى والصلاحيات التنفيذية التي أنيطت بالرئاسة ومجلس العمد. في حين ظل دور الأمناء ضائعاً في سلسلة من التعديلات الدستورية التي أقرّ بعضها في الأشهر القليلة التي أعقبت استشهاد سعاده. والنص الأساسي الأول الذي نقترح العودة إليه هو قسم الزعامة لأنه في صميم كل فهم لطبيعة الصلاحيات، كائناً من يكون حاملها، وفي صميم كل تقييم للممارسة العملية في سدة القيادة الحزبية.

بعد أن يُقسم سعاده على أن يكون أميناً للمبادئ التي وضعها وأصبحت تكوّن قضية الحزب السوري القومي الاجتماعي، يقول بالنص: "وأن أتولى زعامة الحزب السوري القومي واستعمل سلطة الزعامة وقوتها وصلاحياتها في سبيل فلاح الحزب وتحقيق قضيته، وأن لا أستعمل سلطة الزعامة إلا من أجل القضية القومية ومصلحة الأمة". هذا هو الأساس القانوني للتعاقد بين صاحب الدعوة (سعاده) والمقبل على الدعوة القومية الاجتماعية (العضو في الحزب)، وأي إخلال في شروط التعاقد يعني بكل بساطة إمكان فسخ العقد من قبل أي من الطرفين. إن عبارة "وأن لا أستعمل سلطة الزعامة إلا من أجل القضية القومية ومصلحة الأمة" هي الشرط الملزم لصاحب الدعوة، أي أن صلاحياته المطلقة في منصب الزعامة موقوفة على "القضية القومية ومصلحة الأمة". ومن منطلق ما أسميته في أحد مقالاتي السابقة "التعاقد الرسولي"، امتلك سعاده كامل الأدوات الفكرية والنظامية والمناقبية لتطهير الحزب في الوطن وفي المغترب القسري عندما كان يتأكد من أن "القضية القومية" معرضة للميعان الفكري وأن "مصلحة الأمة" باتت مهددة. كان سعاده، بصلاحيات الزعامة المشروطة بقسم الزعامة، مقياس الحكم على أي انحراف فكري أو سياسي أو نظامي أو مناقبي. فلنبق هذه الفكرة في أذهاننا ونحن ننتقل إلى تاريخ الحزب بعد سعاده!

الحزب السوري القومي الاجتماعي صبيحة التاسع من تموز سنة 1949 لم يعد "حزب سعاده"، على الأقل من الجوانب التالية: غاب رجل الفكر الذي يغني العقيدة ويبلورها. غاب القائد الذي يقرر في شؤون الإدارة والسياسة وفق المنهج القومي الاجتماعي. وغاب الزعيم الذي تخوله صلاحياته تصويب أي خلل نظامي داخلي وكشف عوامل الانحراف الفكري أو السياسي واستئصال المنحرفين مهما علت مراتبهم. هذا الغياب المؤثر والملحوظ لا يعني أن القيادات الحزبية المتعاقبة لم تحاول القيام بالدور التاريخي المطلوب منها، بل هي فعلت فأصابت في أحيان وأخطأت في أحيان (من يعمل يخطئ!). لكن الشيء الأكيد أن الحزب السوري القومي الاجتماعي اتخذ لنفسه مساراً مستقلاً عن سعاده، وبالتحديد في التعديلات الدستورية والشؤون السياسية والممارسات الاجتماعية والتحالفات المرحلية وغيرها. والأخطر من ذلك كله أنه لم تنشأ في الحزب مؤسسة مستقلة عن السلطتين التشريعية والتنفيذية، بل وأعلى منهما، تناط بها مهمة النظر في أي خروق فكرية أو سياسية أو مناقبية. علماً بأن سعاده أعد في مطلع سنة 1949 مرسوماً بإنشاء "المحكمة المركزية للحزب القومي الاجتماعي"، غير أن الظروف لم تسمح بقيامها. كما أن القيادات المتعاقبة لم تقدم على توسيع بنود هذا المرسوم لتصبح المحكمة بمثابة "محكمة دستورية حزبية عليا" لا تكتفي فقط بالنظر في "الخلافات المدنية التي تنشأ بين القوميين"، بل تشمل كذلك أي انحرافات فكرية أو سياسية أو مسلكية. وقد يعترض كثيرون بأن المحكمة الحزبية أظهرت "استقلاليتها" في الأزمة الأخيرة. ولهؤلاء نقول إن حكم المحكمة على أهميته كان يخضع لموقف استنسابي من المجلس الأعلى رفضاً أو قبولاً. بل ووصل الأمر إلى حد إفلات ناصر قنديل على صفحات "البناء" لكي يوغل في سمعة المحكمة ويهوش على كرامات أعضائها. وللتذكير فقط، نشير إلى أن السلطتين التنفيذية والتشريعية في الحزب لم تأخذا بالعديد من قرارات المحكمة في السنوات الماضية.

إن المؤسسات الثلاث التي تحمل اسم الحزب السوري القومي الاجتماعي حالياً لا يصح أن تطلق على نفسها اسم "حزب سعاده" على رغم من قول كل منها إنها تتبع عقيدة سعاده القومية الاجتماعية. فالفكر في نهاية المطاف هو ممارسة على أرض الواقع المتحرك والمتغير مع كل تطور جديد، وسيكون من الظلم الجزم بأن مواقف هذه المؤسسات وسياساتها نابعة كلياً من سعاده. بل أراني أشدد على أنه من حق سعاده على المؤمنين بفكره، أينما كانت مواقعهم التنظيمية، أن يثبـّتوا خطوط فصل واضحة بين فكر الزعيم وسلطاته ومناقبه وبين تاريخنا الحزبي منذ التاسع من تموز سنة 1949 وحتى اليوم.

من طبيعة العمل الحزبي أن تنشأ أفكار مختلفة ترتبط بأساليب وآليات تحقيق الأهداف الحزبية. وهذا دليل صحة طالما أن المبادئ هي قواعد لإنطلاق الفكر، وطالما أن "القضية القومية" مصانة و"مصلحة الأمة" محفوظة كذلك. فالخلاف في مثل تلك الأحوال يُغني التجربة الحزبية ولا يضعفها. وفي حال الفشل الآني في تحقيق بعض الأهداف المرحلية، يصبح من الطبيعي (بل من الواجب) أن يُفسح الطريقُ أمام أصحاب الرأي المختلف لقيادة الدفة الحزبية بأساليب وآليات أخرى تلتزم بالمعايير التي أشرنا إليها، وهي "القضية القومية ومصلحة الأمة". إن من أهم خطوات سعاده ذات الدلالات المميزة سنة 1947 قراره بحلّ مجلس العمد المؤلف من "قيادات تاريخية" ظلت متربعة على رأس الهرم التنفيذي منذ التأسيس، ليعيّن مجلس وكلاء عمد غالبيتهم العظمى من جيل الشباب. لم تكن كل "القيادات التاريخية" فاشلة، لكن طبيعة التحدي المصيري الذي واجهه الحزب آنذاك كانت تتطلب مقاربة مغايرة. فأصبحت تلك الفترة، بقيادة سعاده، واحدة من أخصب المراحل الحزبية على الإطلاق. لكن ماذا لو أن "قيادة حزبية" ما، رغم فشلها، تصر على أن تبقي زمام الأمور في يدها مستخدمة كل الأساليب الملتوية والبدع الدستورية لقطع الطريق على الرأي الحزبي الآخر ذي التوجهات المغايرة؟ ألم يحدث هذا بين 1944 و1947، ثم بين 1971 و1975، ثم بين 1985 و1987... والحبل على الجرار؟

الجواب على هذه الأسئلة يكمن في واحد من الاحتمالات التالية: إما أن يخرج أصحاب الرأي الآخر من الحزب، وإما أن تخرجهم السلطتان التشريعية والتنفيذية بقرارات فصل وطرد، وإما أن يبقوا في الصف الحزبي فتتشكل منهم حالة اعتراضية تتمظهر على شكل أزمات حزبية متواصلة مع كل استحقاق دستوري أو سياسي جديد. إن تاريخنا الحزبي، بعد سعاده، مليء بالأمثلة المريرة.

في مقال لاحق سنتناول طبيعة "المعارضة" في الحزب السوري القومي الاجتماعي، ومآلها الراهن في ضوء التجارب الحزبية التاريخية.


 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024