إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

المعلن... والمستور في معركة جرابلس!

أحمد أصفهاني

نسخة للطباعة 2016-08-25

إقرأ ايضاً


معركة "تحرير" مدينة جرابلس السورية لم تكن معركة، إنما هي استعراض عسكري ــ سياسي يهدف إلى إظهار رسالة معينة، في الوقت الذي يخفي وقائع محرجة. فخلال ساعات، تمكنت القوات التركية مدعومة بفصائل سورية مرتبطة بها من الوصول إلى قلب المدينة التي كان من المفترض أن يدافع عنها مقاتلو "داعش" حتى الموت، قياساً بما فعلوه في عين العرب ومنبج وتدمر والفلوجة وتكريت... وغيرها من المدن والبلدات السورية والعراقية. لكن شيئاً من هذا الدفاع المستميت لم يحصل، فبدا الأمر وكأن "التحرير" أمرٌ دُبّر في ليل!

ولكي تكتمل الحملة الإعلامية لتظهير الصورة، فقد أعلنت مصادر تركية عن مقتل أكثر من 40 عنصراً من داعش في حين سقط مقاتلان فقط من "الجيش السوري الحر" الذي يتألف من الفصائل التالية: فيلق الشام، حركة أحرار الشام، فرقة السلطان مراد، الجبهة الشامية، كتائب نور الدين الزنكي، الفرقة 13، لواء صقور الجبل، لواء الحمزة، جيش النصر، لواء المعتصم، أحرار تل الرفعت، لواء الفتح. ويبلغ عديدها جميعاً 1200 عنصر.

حتى لو صدقنا إدعاء مقتل 40 عنصراً من "داعش" في معركة جرابلس، يبقى أن نسأل إلى أين ذهب المئات الآخرون؟ عندما أشرفت "قوات سوريا الديموقراطية" (ذات الغالبية الكردية) على السيطرة الكاملة على مدينة منبج قبل أسابيع قليلة، كشفت الصور الملتقطة جواً عن قافلة ضخمة من آليات "داعش" وهي تغادر المدينة ومعها حوالي ألفين من المدنيين إتخذهم المسلحون المنهزمون دروعاً بشرية لضمان عدم استهدافهم سواء من طائرات "التحالف الدولي" الذي تقوده واشنطن أو من الطائرات الروسية والسورية. هذا التكتيك الداعشي استخدم بنجاح في مناطق عدة، غير أنه لسبب ما لم يحصل على الإطلاق في جرابلس!

أما وقد إنجلى غبار المعركة التركية المباشرة الأولى في الشمال السوري (ستكون هناك معارك لاحقة)، فنحن أمام واقع جديد تعمل أنقره على فرضه في المنطقة، أي إنشاء "الملاذات الآمنة" التي لطالما طالب بها المسؤولون الأتراك على مدى السنوات الخمس الماضية. هذا الواقع المستجد يصب في سياق المخطط التركي، وليست فصائل "الجيش السوري الحر" إلا من مستلزمات التغطية السياسية الإعلامية. لكن إذا كانت المطالبة التركية بالملاذات الآمنة لم تلق أذناً صاغية في الماضي، فما الذي تغير اليوم حتى يحظى التدخل التركي بالقبول أو بالصمت أو بالرفض الخجول؟

لنعد قليلاً إلى الوراء، إلى يوم أسقطت الطائرات التركية إحدى القاذفات الروسية العاملة في الأجواء السورية. آنذاك تدهورت العلاقات بين موسكو وأنقره إلى حد لم تعد القوات المسلحة التركية تجرؤ على خرق الحدود السورية لا براً ولا جواً ولا بحراً. وعندما صدرت قبل مدة تهديدات تركية بفرض "منطقة آمنة" من طرف واحد داخل الأراضي السورية، ردّت طهران ببيان قوي يرفض أية خطوة تمس بسيادة الدولة السورية على أراضيها. هذا كان في الماضي غير البعيد، لكن العلاقات الثنائية بين أنقره وموسكو وبين أنقره وطهران تحسنت إلى حد كبير خلال الأسابيع القليلة الماضية لاعتبارات مختلفة لا مجال للخوض التفصيلي فيها الآن.

لذلك نستطيع القول، بما يشبه اليقين، إن القوات التركية الجوية والبرية ما كانت لتخرق سيادة الأراضي السورية لولا أن أنقره حصلت مسبقاً من موسكو وطهران إما على ضوء أخضر صريح وإما على قبول صامت خجول. حتى دمشق نفسها ربما تكون قد ساهمت، مباشرة أو مداورة، في انطلاق التحرك التركي تحت شعار "درع الفرات". إذ عندما تدهورت الأوضاع مع الأكراد في مدينة الحسكة أخيراً، صدر بيان حكومي سوري يتهم ميليشيا "الأسايش" الكردية بأنها الجناح العسكري لـ "حزب العمال الكردستاني". ويبدو أن الملاحق السرية في "إتفاقية أضنة الأمنية" الموقعة بين دمشق وأنقره سنة 1998 "تجيز" للقوات التركية عبور الحدود لملاحقة مقاتلي "حزب العمال الكردستاني" في حال أنهم باتوا يشكلون تهديداً للأمن الوطني التركي. ومن هنا تشديد كل المسؤولين الأتراك، في تصريحات ترافقت مع بدء عملية جرابلس، على مبدأ حماية وحدة الأراضي السورية، وفي الوقت ذاته "محاربة الأرهاب" الذي يستهدف تركيا.

لقد كشفت معركة جرابلس، وما قد يلحقها من معارك، النقاب عن مسائل عدة ستكون حاسمة في صياغة الحل السياسي للأزمة السورية عندما يحين زمن قطف ثمار هذه المقتلة المستمرة بحق الشعب السوري. القوى العالمية والإقليمية تستعد الآن للشوط الأخير الذي سيحدد المغانم والمكاسب. والذئب التركي الأغبر الذي ظل متربصاً طيلة السنوات الخمس الماضية، لم يعد يخشى من لعب كل أوراقه العلنية منها أو السرية. ففي معركة جرابلس أحضر معه الورقة المفضوحة المتمثلة بعدد من الفصائل العاملة تحت لوائه، في حين أوعز لورقته السرية المتمثلة بـ "داعش" بالإنتقال إلى ساحات قتال أخرى بعد أن إنتفت الحاجة إليها في الشمال السوري الذي أصبح ـ بفعل الأمر الواقع ـ ملاذاً تركياً حتى إشعار آخر!

 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024