إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

عصر القومية الاجتماعية

أحمد أصفهاني

نسخة للطباعة 2016-12-07

إقرأ ايضاً


منذ منتصف ثمانينات القرن الماضي، بات واضحاً أن الاتحاد السوفياتي ومنظومة الدول الاشتراكية (ومعها الإيديولوجية الشيوعية الرسمية) دخلت طور الاحتضار السريري، خصوصاً وأن مغامرة التدخل الروسي العسكري في أفغانستان كانت قد وصلت إلى طريق مسدود. وزاد الطين بلة أن إقتصاديات المعسكر الاشتراكي ما عادت قادرة على مواكبة تطلعات المواطنين، وفي الوقت نفسه مجابهة الإنفاق الهائل المطلوب لمواجهة سباق التسلح ومشروع عسكرة الفضاء الخارجي الذي قادته الولايات المتحدة الأميركية على رأس المعسكر الرأسمالي الغربي المنتشي بغرق السوفيات في المستنقع الأفغاني.

وعندما اتخذت القيادة السوفياتية قرارها بالإنسحاب النهائي من أفغانستان مطلع العام 1989، عملت القيادات المتعاقبة في موسكو كل ما في وسعها لكبح جماح قطار الدولة المسرع نحو الهاوية من خلال تطبيق برامج عاجلة للإصلاح الاقتصادي. لكن سياسة الرئيس ميخائيل غورباتشيف المعروفة بـ"الغلاسنوست" (الشفافية) و"البيروسترايكا" (إعادة الإعمار) حققت مفعولاً معاكساً إنتهى سنة 1991، كما نعلم جميعاً، بانهيار الأنظمة الشيوعية في أوروبا الشرقية وتفكك الاتحاد السوفياتي وغياب "حلف وارسو" العسكري الموازي لـ"الحلف الأطلسي" (الناتو). فكان ذلك بمثابة إعلان صريح بأن "الحرب الباردة" بين النظامين الاشتراكي والرأسمالي إنتهت بفوز الثاني بالضربة الفنية القاضية.

كان من الطبيعي في مثل هذه الحالة أن يعمد "الجانب المنتصر" إلى وضع تصورات جديدة للنظام العالمي تتوافق مع الحقائق الموضوعية الطارئة، تماماً كما حدث بعد الحرب العالمية الثانية عندما تقاسمت الدول المنتصرة مناطق النفوذ حول العالم في مؤتمر يالطا (1945). ومع أن أزمات عدة خطيرة حدثت بين 1945 و1991، منها أزمة الصواريخ الكوبية والعدوان الثلاثي على مصر وحرب فييتنام وغيرها، إلا أن النظام العالمي ظل محكوماً بتفاهمات يالطا وتوازنات "الحرب الباردة". أما وقد غاب الاتحاد السوفياتي عن الوجود نهائياً، فقد أصبح من الواجب صياغة تصورات مختلفة لعالم ذي قطبية أحادية تقوده الولايات المتحدة مستخدمة أداة عسكرية فاعلة هي "الحلف الأطلسي".

أبرز من حاول وضع أساس نظري للوقائع الجديدة كان المفكر الأميركي فرانسيس فوكوياما الذي أصدر سنة 1992 كتاب "نهاية التاريخ والإنسان الأخير"، وفحواه أن إنتصار المعسكر الرأسمالي سيكون نهائياً في عالم تقوده الولايات المتحدة. لكن مفكراً أميركياً آخر هو صاموئيل هانتنغتون (أستاذ فوكوياما) رد على كتاب الأخير بدراسة مطولة نشرها سنة 1993، ثم أعاد توسيعها وتطويرها في كتاب بعنوان "صراع الحضارات وإعادة تشكيل النظام العالمي". وتقوم نظرية هانتنغتون على أساس أن المواجهات المقبلة لن تنشب بين الأمم والدول حول المصالح والسياسات، وإنما بين الحضارات الكبرى القائم معظمها على أسس دينية وثقافية.

خلال العقد الأخير من القرن الماضي والعقد الأول من القرن الحالي إنتشرت مقولات العولمة العابرة للهويات القومية، في السياسة والأمن كما في الاقتصاد والثقافة. وتفرّعت عنها مفاهيم متعددة مثل التنوع الثقافي والتعددية داخل المجتمعات الواحدة، وصدرت قوانين وتشريعات حكومية مختلفة بهذا الصدد. وتبارى كتاب وفكرون في نعي المفهوم القومي والمصالح القومية بصورة حاسمة. وكانت أوروبا ساحة أساسية للإختبارات، فشهدنا طلاقاً وطنياً ودياً كما في حالة تشيكوسلوفاكيا، وانفصالاً دموياً كما حدث في البوسنة والهرسك، وتدخلاً أطلسياً عسكرياً مباشراً ضد صربيا حول كوسوفو. لكن كل ذلك كان يجري برعاية وحماية مظلتين غربيتين مترابطتين: الإتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي المتمددين باستمرار نحو الحدود الإستراتيجية الروسية. وقد تم هذا في إطار ما أكده تيار "المحافظين الجدد" في أميركا من أن القرن الحادي والعشرين سيكون "القرن الأميركي"!

واليوم، بعد مرور حوالي 25 سنة على "الإنتصار المدوي" للمعسكر الرأسمالي، يجد العالم نفسه أمام معضلات سياسية واجتماعية خطيرة إعتقد المنظرون الغربيون انهم تجاوزوها منذ عقود. لقد برزت مجدداً النزعات الشعبوية المترافقة مع نمو التوجهات العنصرية، إضافة إلى التراجع في خطاب القبول والتسامح لصالح "شيطنة" الآخر المختلف لوناً وعرقاً وديناً وميولاً شخصية أو اجتماعية. وليست مجتمعات العالم العربي بمنأى عن هذه النزعات، بل لنقل إنها أكثر تجذراً فيها والأسرع إلى اللجوء للعنف الدموي في التعامل معها. وما كانت دول العالم المتقدم لتنجو من العنف المماثل لولا أنها تمتلك مانعين حيويين: سلطة مركزية قادرة وحاسمة، وآليات قانونية مستقلة عن السلطات التنفيذية يحتكم إليها بحرّية وتجرد الأفراد والجماعات.

بالنسبة إلى عالمنا العربي الآن، وفي ظل فقدان السلطة المركزية والآليات القانونية المستقلة في غالبية دوله، فقد إنتهى إلى غير رجعة المشروع "القومي" المبني على مفهوم يُزاوج بين الدين والأصل العرقي كأساس لقيام المجتمع. فالدين، من ناحية أولى، تشظى إلى أديان وطوائف متناحرة. في حين أن دعاة نقاوة الأصل العرقي لا يجدون قواسم مشتركة تربطهم مع الجماعات العرقية الأخرى. يضاف إلى ذلك أن أحزاب وجماعات الإسلام السياسي بمفاهيمه المتضاربة محكومة بالفشل على المدى البعيد حسب ما أثبتت تجارب السنوات القليلة الماضية. وهكذا نصبح أمام مجتمعات فسيفسائية تتشظى إلى مكوناتها البدائية بمجرد أن تتعرض لضغوطات فجائية من الداخل أو من الخارج: في المغرب العربي، تجربتا الجزائر وليبيا (وإلى حد أقل تونس). في وادي النيل، تجربة السودان (مغامرة الإخوان المسلمين في مصر لم تنتهِ فصولاً بعد). في الجزيرة العربية، تجربتا اليمن والبحرين. في سوريا الطبيعية، تجارب لبنان والعراق والجمهورية السورية (والأردن قبل عقود).

إن نزعات العزلة الشعبوية والعنصرية والطائفية تبدو، في هذه المرحلة، وكأنها الحل السحري الوحيد بعد عقود من هيمنة نظام العولمة الضخم الذي ناخ بكل أثقاله على الدول الوطنية والمجتمعات الصغيرة في عالمنا العربي وفي العالم أجمع. لكن هذه النزعات، في حقيقتها، تنطلق من رفض الآخر المختلف في مسعى إلى تأسيس متحدات "نظيفة" تقوم على نقاوة عرقية أو مذهبية او لغوية متخيلة. إن هذه التوجهات التفتيتية المنغلقة على نواتها الذاتية هي الوجه الآخر لـ"الفكر القومي" الوهمي المنفلش الذي أوصل عالمنا العربي إلى كوارثه الراهنة.

لقد أدرك أنطون سعاده، مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي وزعيمه، حجم المعضلة القومية في مرحلة مبكرة من حياته. واعتبر ان غياب الوعي القومي وعدم وضوح الهوية القومية وتضعضع الوجدان القومي عند السوريين (وبالتالي عند الشعوب العربية الأخرى) تكمن في صميم الويلات التي أصابت الأمة السورية وعالمها العربي على مدى قرون. وقد أيقن، في الوقت نفسه، أن أي "فكر قومي" يقوم على عوامل الدين أو اللغة أو العرق (مجتمعة هذه العوامل أو منفردة) سيؤدي حتماً إلى تشرذم المجتمع وتناحر مكوناته الدينية والعنصرية واللغوية. إن تاريخنا الدامي منذ حصول كياناتنا السياسية على "الاستقلال" حتى اليوم لهو خير دليل على صوابية تحليل سعاده ورؤيته.

لكن سعاده لم يتوقف عند حدود التشخيص، بل عمد إلى صياغة النظرية القومية الاجتماعية التي تقوم على مبدأ الإنسان – المجتمع وليس الإنسان الفرد أو العرق أو الدين. بالنسبة إليه المجتمع، المتحد، الحيز الجغرافي هو أساس نشوء الأمة القادرة على استيعاب الجماعات البشرية بعد أن يمضي عليها زمن من التفاعل مع الجماعات الأخرى. ولا يوجد في أي مجتمع حديث (إلا لدى بعض القبائل المنعزلة في أدغال أفريقيا وغابات الآمازون) نقاء عرقي حسبما تروّج القوى العنصرية. فمدلول الأمة عند سعاده "يشتمل على هذا المجتمع الموحّد في الحياة، الذي امتزجت أصوله وصارت شيئاً واحداً". والهوية القومية في هذه الحالة هي هوية المجتمع وليست هوية أي عنصر من عناصر مكوناته الأصلية.

هذا هو الأساس النظري لفكر سعاده القومي القائم على قاعدة وحدة الحياة في المجتمع (المتحد الإنساني). وقد عمد إلى تأسيس الحزب السوري القومي الاجتماعي كمختبر عملي لقياس نجاح العقيدة القومية الاجتماعية، على اعتبار أن الحزب هو نموذج الدولة المصغرة في الأمة، ونجاح قيام المتحد المتفاعل في الوحدات الحزبية سيكون خير دليل على إمكانات النجاح المماثل على مستوى المتحد الأشمل الذي هو الأمة. لكن النجاح في الأمة سيبقى نظرياً ما لم يتأمن له العنصران التاليان: أولاً، دولة المواطنة الصريحة التي تؤمن بأن الأمة مجتمع واحد وأن كل المواطنين هم شركاء في الوطن بغض النظر عن خلفياتهم العرقية والدينية واللغوية. وثانياً، إرادة واضحة لدى الجماعات المختلفة تظهر رغبتها الحقيقية في أن تشارك بفعالية في وحدة الحياة الاجتماعية تحت سقف المصلحة القومية العليا.

النظرية القومية الاجتماعية أفلحت فلاحاً باهراً في دولة الأمة المصغرة المتمثلة في الحزب. غير أن غياب دولة المواطنة في أمتنا والعالم العربي (بما في ذلك غياب حكم القانون)، بالتوازي مع عدم نشوء إرادة لدى الجماعات بالإنخراط في وحدة الحياة القومية، ومن دون أن ننسى طبعاً تأثير الأخطار المصيرية والتدخلات الخارجية... كل ذلك أوصل مجتمعاتنا إلى هاوية الهلاك القومي الشامل. الغرب الآن يبحث عن نظرية مشابهة لفكر سعاده القومي الاجتماعي، بينما نحن عُمي عنها حتى وهي فاعلة تسعى بين ظهرانينا.


 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024