إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

أي"سايكس ــ بيكو" جديد للقرن الحادي والعشرين؟

أحمد أصفهاني

نسخة للطباعة 2017-01-25

إقرأ ايضاً


كان من المفترض أن يلقى هذا البحث في مؤتمر أعدت له "مؤسسة سعاده للثقافة" في أيار 2016. لكن المؤتمر ألغي، فتم نشر بعض الأبحاث في عدد خاص من مجلة "اتجاه".

نحن ننطلق من مسلمتين متلازمتين، ما كان للأولى منهما أن تتحقق في بلادنا لولا ترسخ الثانية على مدى قرنين تقريباً. المسلمة الأولى أن القوى الدولية الكبرى، ومعها دول إقليمية فاعلة، لا تزال قادرة على تقرير مصيرنا القومي بمعزل عن إرادتنا، بل بالتناقض مع مصالحنا العليا في معظم الأحيان. والمسلمة الثانية أن وعينا القومي لم يتبلور بشكل جليّ وجذري على الرغم من أن غالبية كياناتنا السياسية حصلت على "استقلالها" منذ منتصف القرن الماضي. والمسلمتان معاً تفسران أسباب بقاء الأمة عرضة للصراعات الأهلية من جهة، وساحة للتدخلات الخارجية من جهة أخرى. وهما اللتان وقفتا عائقاً يحول دون نشوء أية تجارب وحدوية ناجحة، ليس في الأمة السورية فحسب وإنما على مستوى العالم العربي برمته.

عندما طرح أنطون سعاده، مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي وزعيمه، في وقت مبكر من حياته سؤاله الوجودي "ما الذي جلب على شعبي هذا الويل؟"، وكان يقصد بذلك مآسي الحرب العالمية الأولى في سوريا، وصل إلى جواب مفاده "أن فقدان السيادة القومية هو السبب الأول في ما حل بأمتي وفي ما يحل بها". إن ذلك السؤال المصيري والجواب الأولي اللاحق له أدخلا سعاده في حقل الدروس الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، ليصل في ثلاثينات القرن الماضي إلى أن "تعيين أمتي تعييناً مضبوطاً بالعلوم المتقدمة وغيرها، وهو حجر الزاوية للبناء القومي، وإلى تعيين مصلحة أمتي الاجتماعية والسياسية من حيث حالاتها الداخلية ومشاكلها الداخلية والخارجية". (رسالة إلى حميد فرنجيه، 10 كانون الأول 1935).

هناك ترابط جدلي وثيق بين غياب "تعيين الأمة تعييناً مضبوطاً" من ناحية و"فقدان السيادة القومية" من ناحية أخرى. ذلك أن عدم "التعيين" في مسألة الهوية القومية الاجتماعية يؤدي حكماً إلى التضارب في الانتماءات، والفوضى في وعي الشعب لشخصيته. وبالتالي تستطيع القوى الدولية والإقليمية التي نجحت في تعيين هويتها وتحديد مصالحها أن تتغلغل إلى صميم المجتمع السوري المنقسم على نفسه دينياً ومذهبياً وعرقياً، وتسعى إلى تثبيت تلك التشرذمات وفق ما يتناسب مع مصالحها القومية وبطريقة تمنع بروز الوعي القومي المطلوب. فتصبح المواجهات الداخلية بين أبناء الشعب الواحد سبيلاً إلى فقدان السيادة القومية. وسنتابع في الفقرات التالية تطور هذا الترابط الجدلي منذ أن برزت "المسألة السورية" على الساحة الدولية في منتصف القرن التاسع عشر. وتجدر الإشارة هنا إلى أن مفهوم "المسألة الشرقية" في الأدبيات السياسية الأوروبية خلال القرن الثامن عشر كان يعني كل مناطق السلطنة العثمانية، ومنها سوريا بالطبع. لكن سرعان ما برز تعبير "المسألة السورية" ليميّز سوريا في سياق المخططات الأوروبية الاستعمارية.

يرى بعض المؤرخين أن الحملة الفرنسية بقيادة نابليون بونابرت على مصر بين 1798 و1801، ومن ضمنها المحاولة الفاشلة للسيطرة على سوريا سنة 1799، تشكل إرهاصات التدخل الأوروبي في العالم العربي على المستويين السياسي والثقافي. وإذا كانت الآثار الفكرية والاجتماعية للحملة الفرنسية موثقة بشكل واسع في الكتابات والأبحاث التي تتناول عصر فجر النهضة في بلادنا، إلا أننا نقترح اعتبار الاحتلال المصري لسوريا سنة 1831 البداية الفعلية للترابط العضوي والتنافس المصيري بين المصالح الإقليمية والمصالح الدولية في ما يتعلق بالأوضاع الداخلية في سوريا. صحيح أن التدخلات الأوروبية في شؤون السلطنة العثمانية بوصفها "رجل أوروبا المريض" تسبق بكثير حملة إبراهيم باشا المصري، إلا أننا نعتقد بأن تعاطي القوى العالمية مع فترة الوجود المصري في سوريا بين 1931 و1840 هو الذي أسّس للمخططات الأوروبية العملية سواء بعد الحرب الأهلية في لبنان والشام سنة 1860، أو بعد الاحتلال الأوروبي المباشر في أعقاب نهاية الحرب العالمية الأولى التي توّجها تطبيق بنود إتفاق "سايكس ــ بيكو" الإنكليزي ــ الفرنسي.

في سنة 1833 وصلت القوات المصرية بقيادة إبراهيم باشا إلى تخوم استنبول، عاصمة السلطنة العثمانية، وباتت على أعتاب تحقيق النصر الشامل. لكن القوى العالمية آنذاك، وعلى رأسها بريطانيا، تدخلت بقوة لوقف تقدم الجيوش المصرية. وانتهت المواجهة بتوقيع معاهدة كوتاهية (1833) التي شرّعت الوجود المصري في سوريا. يومها تكرس التوازن بين قوتين إقليميتين: مصر الصاعدة في ظل أسرة محمد علي باشا، والدولة العثمانية المنهكة داخلياً وخارجياً والمتراجعة أمام التدخلات الدولية من قبل كل من فرنسا وبريطانيا وروسيا والنمسا وبروسيا. فكانت تلك هي المعادلة التي حكمت آليات التعاطي مع "المسألة السورية" التي عُرفت أيضاً باسم "المسألة الشرقية".

منذ الفتح الإسلامي لمنطقة الهلال الخصيب، ظل المجتمع السوري (وكذلك باقي المجتمعات التي خضعت لسلطة الخلافة) محكوماً باعتبارات دينية مذهبية على أساس منظومة أصطلح على تسميتها بـ "الملل والنحل". وهي ترتيب يقوم على الانتماء الديني أو المذهبي أو العرقي وليس على مبدأ الانتماء إلى مجتمع أو وطن. وغالباً ما كان المذهبي يختلط بالعرقي، فيتفكك المجتمع إلى جماعات تتناحر وفق مساحات فسيفسائية غير متجانسة. ولم تكن السلطنة العثمانية، وإن تغطت بقناع الخلافة، إلا امتداداً طبيعياً لتلك المنظومة من حيث توظيف المذهبية الإسلامية السنية من أجل إحكام الهيمنة الطورانية العرقية، ما يعني تهميش كل الجماعات الدينية والمذهبية والعرقية الأخرى.

هذه كانت أحوال المجتمع السوري في منتصف القرن التاسع عشر، عندما انتقلت أوروبا إلى مرحلة التدخل السياسي والعسكري المؤدي لاحقاً إلى الاستعمار المباشر. إن شرذمة السوريين وتوزعهم أدياناً ومذاهب وأعراقاً وتناحرهم في ما بينهم لم تكن في الأساس نتاج التدخل الخارجي، وإنما هي حصيلة متوقعة لضياع الهوية على مدى قرون طويلة. كما أن القوى الأوروبية الصاعدة في القرن الثامن عشر لم تكن السبب الأولي في الانقسامات الدينية والمذهبية والعرقية في سوريا والعالم العربي، بل هي وجدت مجتمعات أنهكها التمزق والتناحر فاستغلتها إلى أبعد حدود الاستغلال وحرصت في الوقت نفسه على تأجيج الفتن الأهلية مانعة بذلك نشوء أي وعي وطني أو قومي يمكن ان يلغي الفوارق الداخلية ويضع بالتالي حداً للمؤثرات الخارجية. وقد وجدت القوى الدولية في مثل هذا المجتمع المنقسم على ذاته بيئة خصبة للتدخل بما يخدم مصالحها الاستعمارية في تلك الفترة. كما أنها وظفت طاقاتها السياسية والعسكرية والثقافية لتعميق التفكك الاجتماعي السوري وخلق هويات فئوية بديلة تناقض وحدة المجتمع القومي، وفي الوقت نفسه تتناحر مع "الهويات" المذهبية والعرقية الأخرى. فكان لكل طائفة أو جماعة عرقية رعاتها الخارجيون وداعموها الذين يحركونها ويرسمون لها الأدوار المحددة في معمعة الصراعات الداخلية.

لذلك كان السوريون مهيئين للتورط في الفتنة الدينية التي حصدت الألوف بين 1840 و1860. ولا بد من التوضيح هنا أن التركيز على "المذابح" بين الدروز والموارنة في جبل لبنان يتناسى في أحيان كثيرة حوادث دينية وطائفية أخرى مماثلة وقعت في دمشق وحلب ونابلس وحمص وصيدا وغيرها من البلدات والمدن السورية، ما يعني أن الفتن الطائفية لم تكن "ميزة لبنانية" ذات جذور محلية كما يحاول بعضهم أن يصور أحداث سنة 1860. فالجماعات السورية في منتصف القرن التاسع عشر كانت قد بلغت حداً خطيراً من الاستقطاب الديني والعرقي بحيث باتت على أتم الاستعداد لوضع يدها في يد داعميها الخارجيين من أجل محاربة أبناء الوطن من الجماعات الأخرى. ولذلك جاءت التسويات "السياسية" الأولى على مقاس الطوائف أولاً، وبما يتناسب مع تنافس القوى الأوروبية الكبرى على النفوذ والمصالح ثانياً.

أسفرت الفتن الطائفية في منتصف القرن التاسع عشر عن أربع نتائج أساسية سيكون لها دور حاسم في تحديد مصير سوريا لاحقاً:

أولاً، تم القضاء على الدور المصري الإقليمي بعد انسحاب قوات إبراهيم باشا من سوريا. (لم تستعد مصر تأثيرها الإقليمي إلا في منتصف القرن العشرين مع الرئيس جمال عبد الناصر).

ثانياً، تحولت السلطنة العثمانية إلى مجرد قوة إقليمية أساسية لكن غير قادرة على التحكم بمسار الأحداث في المناطق الخاضعة لسيطرتها، فراحت تفقد ولاياتها الأوروبية الواحدة بعد الأخرى. قبل أن يأتي بعد ذلك دور ولاياتها في شمال أفريقيا والجزيرة العربية وسوريا.

ثالثاً، باتت القوى الأوروبية الكبرى (بريطانيا وفرنسا وروسيا والنمسا وبروسيا) صاحبة الحول والطول في ما يتعلق بشؤون "السلطنة المريضة" وشجونها. وترافق ذلك مع تنافس أوروبي حاد للسيطرة على مزيد من "المستعمرات" في أفريقيا وآسيا. وما أن أطل القرن العشرون إلا وكانت بريطانيا وفرنسا وألمانيا قد حسمت الصراع الأوروبي لتحتل قمة التنافس الاستعماري على مستوى العالم، خصوصاً مع انهماك روسيا في أوضاعها الداخلية عبر ثورة سنة 1905، ثم الثورة الشيوعية سنة 1917.

رابعاً، ساهمت المواجهات الإقليمية والدولية في تقوية النزاعات الأهلية في سوريا، ووجدت الجماعات الطائفية والعرقية في "تحالفاتها" الخارجية ما يعينها على محاربة الآخرين من أبناء الوطن. وهذا ما أدى بالتالي إلى طغيان الفكر الفئوي التقسيمي على حساب بدايات الفكر الوطني التوحيدي كما عبّر عنه المعلم بطرس البستاني في مطبوعته الشهيرة "نفير سوريا" التي أصدرها بعد "فتنة الستين" في الجبل اللبناني.

ونحن نقترح أن نقرأ تطورات الأحداث في سوريا بين 1860 و1914 (وكذلك في ما تبقى من أراضي السلطنة العثمانية) على ضوء النقاط الأربع التي أشرنا إليها أعلاه. فقد كانت تلك فترة تجارب سياسية وأمنية واجتماعية أنجبت لاحقاً اتفاق "سايكس ــ بيكو" الذي رسم خارطة الوطن السوري لأكثر من قرن. بعد "فتنة الستين" تدخلت القوات الفرنسية مباشرة بحجة حماية المسيحيين في جبل لبنان، فقابلتها بريطانيا بخطوات مماثلة لحماية الدروز، فكانت تلك بداية صراع ثنائية النفوذ البريطاني ــ الفرنسي في الهلال الخصيب. وتقرر إنشاء نظام خاص للجبل عُرف بنظام المتصرفية، وعُيّن له متصرف عثماني مسيحي المذهب، فكان هذا خطوة أساسية في تثبيت الترتيب الطائفي للحكم سواء في قيام "الدولة" أو في دين رئيس الدولة. ولم تسكت أستنبول أمام صفاقة التدخل الأوروبي فعمدت إلى استقدام عشائر كردية وأخرى بلقانية وشركسية ووطنتها على تخوم المدن السورية الكبرى من أجل قمع أي تحرك سوري أهلي ضد السلطنة، ما عزز التناقضات العرقية في مجتمع منقسم أصلاً وفق خطوط تصادم دينية ومذهبية محتقنة.

جاء اتفاق "سايكس ــ بيكو" تتويجاً لعقود من التدخل الأوروبي في شؤون السلطنة العثمانية، ما أسفر عن توافق سريّ على تناهش ولايات السلطنة المحتضرة. ولا بد من التذكير هنا أن هذا الاتفاق، عند توقيعه، كان يُعرف بـ "اتفاق سايكس ــ بيكوــ سازونوف". وهذا الأخير هو سيرجي سازونوف وزير خارجية روسيا القيصرية التي كانت ستحصل بموجب الاتفاق الأولي على استنبول ومناطق كردستان وقسم من تركيا نفسها، إضافة إلى دور ديني خاص في القدس. غير أن انتصار الثورة الشيوعية في روسيا وتلاشي النظام القيصري أسقطا أيضاً الحصة الروسية في التركة العثمانية فانفردت بريطانيا وفرنسا، بعد هزيمة ألمانيا، في ابتلاع الولايات السورية في ظل غياب أية قوى إقليمية أو دولية يمكن أن تعرقل الاستعمار البريطاني والفرنسي المباشر في أنحاء العالم العربي. وقد استكملت بريطانيا مخططها التقسيمي الخاص بها بإعطاء "وعد بلفور" لليهود، والذي جاء بعد أقل من سنة على اتفاق "سايكس ــ بيكو". هذا الوعد، إضافة إلى مراميه الإستراتيجية المتعددة، يدخل أيضاً في سياق نظرة أوروبا إلى منطقتنا بوصفها جماعات دينية ومذهبية وعرقية متناحرة.

تفتّحَ الوعي الوطني عند سعاده في تلك المرحلة المصيرية بالذات. يقول في رسالته إلى حميد فرنجيه بتاريخ 10 كانون الأول سنة 1935: "كنت حدثاً عندما نشبت الحرب الكبرى سنة 1914، ولكن كنت قد بدأت أشعر وأدرك". وهو عبّر عمّا شعر به وأدركه في خطابه المنهاجي الأول بتاريخ أول حزيران سنة 1935: "لم يكن للشعب السوري، قبل تكوين الحزب السوري القومي، قضية قومية بالمعنى الصحيح. كل ما كان هنالك تململ من حالات غير طبيعية". هذا الفراغ القومي الشامل، إضافة إلى غياب أية قوى إقليمية أو دولية غير بريطانيا وفرنسا (الولايات المتحدة الأميركية لم تكن قد انخرطت بعد في القضايا السورية والعربية)، أطلقا أيدي لندن وباريس لتفصيل مستقبل سوريا تحديداً والعالم العربي عموماً وفق مصالحهما الاستعمارية... بغض النظر عمّا كانت تدعو إليه الاتفاقات الدولية المعقودة تحت رعاية "عصبة الأمم".


يصف سعاده في خطابه الشامل بتاريخ الأول من آذار سنة 1938 واقع الأمة عندما احتلتها الجيوش البريطانية والفرنسية سنة 1917: "كان التضعضع القومي عاماً وكاد يقضي على شخصية الأمة قضاءً مبرماً فلم يبق لها سوى بعض المؤسسات كالمراجع الدينية والمعابد والسلطة الإقطاعية ونظام العشيرة أو رابطة العائلة الدموية. ثم آذنت السلطنة العثمانية بالتفكك والانحلال وأخذت عوامل الشخصية السورية تختلج اختلاجات الحياة وتتململ (...) ولكن المعنويات كانت لا تزال صرعى، وظلمة الخمول مخيمة على الشعب. فعاد الأمر إلى المؤسسات القديمة وبعض الأفراد الذين بنوا نظرياتهم على تلك المؤسسات واستمدوا فلسفتهم منها. فكانت النتيجة تخبطاً اختلطت فيه السياسة بالدين والاجتماع بالسياسة. أما الاقتصاد فلم يكن له أثر".


تلك كانت أحوال الأمة السورية وهي تعبر المرحلة الانتقالية الصعبة من تسلط عثماني متخلف إلى تسلط أوروبي متقدم. مجتمع مشتت دينياً ومذهبياً، وخواء روحي مناقبي مرعب، وجماعات منعدمة الوعي القومي، ومؤسسات أهلية بدائية، ومجتمع فقد سيادته القومية منذ قرون. فكانت صدمة حضارية قاسية لم يكن الشعب السوري مؤهلاً للتعامل معها بطريقة تضمن تحقيق مصالحه الأساسية، كما افتقدت الأمة القاعدة السياسية الاجتماعية التي تؤهلها لمواجهة المستجدات الدولية العاصفة بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى. بل رأينا "النخب السورية" السياسية والدينية والاجتماعية تتواطأ مع الأجنبي المحتل وتعاونه في تثبيت عناصر التقسيم والتفتيت التي احتواها اتفاق "سايكس ــ بيكو". وبقدر ما استفادت القوتان الاستعماريتان فرنسا وبريطانيا من التشرذم السوري لتنفيذ عناصر اتفاق "سايكس ــ بيكو"، فإن قبول غالبية الجماعات السورية بالحدود التي رسمها الاتفاق أدى مع الزمن إلى تثبيت تلك الحدود، وبالتالي إلى خلق عقليات فئوية استماتت بالدفاع عن الحدود الاصطناعية الداخلية مع كل ما يعنيه ذلك من خنق لحيوية الأمة.

ولكي نقف على عمق حالة الانحطاط التي كانت قد بلغتها سوريا في ظل الحكم العثماني، يكفي أن نجري مقارنة بسيطة بين ردة فعل النخب التركية وردة فعل النخب السورية بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى. فبينما كانت القيادات السورية السياسية والدينية التقليدية تتنافس للإرتماء في أحضان القوتين الاستعماريتين الجديدتين، نجد قيادات "تركيا الفتاة" تعمد إلى ترسيخ هويتها القومية الطورانية خارج عباءة سلطة الخلافة التي سرعان ما ألغاها مصطفى كمال أتاتورك سنة 1924، معلناً قيام الجمهورية التركية الحديثة، وفاتحاً الطريق أمام تنافس مصري ــ حجازي ــ سوري لملء فراغ منصب الخلافة في العالمين العربي والإسلامي. وهكذا نشأت بوادر ظهور أطراف إقليمية محلية في مصر والجزيرة العربية وتركيا، قـُدِّر لها لاحقاً أن تلعب أدواراً مهمة في أوضاع سوريا خلال النصف الثاني من القرن العشرين.

في ظل غياب أية بنى سورية محلية فاعلة، وبعد تضعضع منظومة القوى الإقليمية المنهزمة في الحرب، إنفردت القوتان المنتصرتان بريطانيا وفرنسا في فرض إرادتهما على الشعب السوري معتمدتين على تراجع الولايات المتحدة الأميركية عن طرح أي مسعى إيجابي لصالح الشعوب المحررة. وعكفتا على التجريب في تطبيق بنود اتفاق "سايكس ــ بيكو" بما يخدم مصالحهما الإستراتيجية... من دون أن ننسى طبعاً جذور التنافس بينهما. ولعل هذه المماحكات البريطانية ــ الفرنسية هي التي سمحت لتركيا بأن تستعيد جزءاً من قدرتها السياسية في ظل سيطرة جماعة "تركيا الفتاة". فمع أن السلطنة العثمانية هُزمت في الحرب وخسرت معظم ولاياتها الأوروبية والآسيوية والأفريقية، إلا أن القيادة السياسية

والعسكرية التي ورثتها استطاعت أن تحافظ على بنيتها القومية الطورانية المتمركزة في الأناضول.

وجدت فرنسا وبريطانيا تربة اجتماعية وسياسية خصبة في سوريا، ليس فقط لتطبيق بنود "سايكس ــ بيكو" وإنما للقيام بعدد من الخطوات التجريبية الغاية الأساسية منها زيادة المفتت تفتيتاً. وقد طرحت باريس ترتيباً خاصاً لـ "متصرفية جبل لبنان" يلحظ إيجاد ثلاث قائمقاميات درزية ومارونية وأرثوذكسية (في الكورة). كما روّجت لفكرة الفيدرالية في سوريا الشام تضم عدداً من الأقاليم ذات الحكم الذاتي، قبل أن تعود إلى مشروع الدويلات المذهبية في اللاذقية (للعلويين) وفي جبل العرب (للدروز) وفي دمشق وحلب (للسنة). أما لندن، فقد دمجت بين مخططاتها الاستعمارية في بلادنا وبين خطة تنفيذ وعد بلفور بمنح "وطن قومي" لليهود في فلسطين. ولا شك في أن مقاومة السوريين العفوية وغير المنظمة لمشاريع الدويلات الطائفية قضت على غالبية المخططات التفتيتية، ولكنها لم تستطع منع مسألتين حيويتين: تثبيت تقسيمات "سايكس ــ بيكو" الأصلية، ونجاح خطة "الوطن القومي" لليهود في جنوب سوريا. وكانت معركة ميسلون في 24 تموز 1920 آخر محاولة وطنية لمنع سيطرة المستعمرين الفرنسيين على دمشق مقر "الحكومة الاستقلالية". ومع أن السوريين تعرضوا لهزيمة قاسية في ميسلون، إلا أن تتابع الانتفاضات الشعبية في جبل العرب وجبال اللاذقية وحلب وغوطة دمشق وجبل عامل أجبر فرنسا على التخلي عن مشاريعها التقسيمية الأخرى لصالح ترسيخ النفوذ الاستعماري وفق ترتيبات "سايكس ــ بيكو".

ظلت حكومتا باريس ولندن طيلة العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي تأخذان في الاعتبار المصالح التركية في المنطقة. ذلك أن فرنسا وبريطانيا كانتا تحكمان مناطق شاسعة يقطنها ملايين المسلمين من شمال إفريقيا إلى شبه القارة الهندية، فكان من الضروري بالنسبة إليهما منع "دولة الخلافة" من التأثير السلبي على الرعايا المسلمين المرتبطين بها روحياً. أما من ناحية تركيا، فهي وظفت (في مرحلة ما قبل قرار إلغاء الخلافة)، العامل الديني لتحقيق مكاسب مهمة لصالح "الدولة التركية" الناهضة، فشاركت في عدد من المؤتمرات الدولية المنعقدة بعد نهاية الحرب لترتيب الأوضاع العالمية، وحصلت على الكثير من التنازلات في ما يتعلق بحدودها الشرقية والجنوبية. وفي الثلاثينات، مع عودة ألمانيا بقوة إلى الساحة الدولية، لعبت أنقرة بذكاء على ورقة الخوف الفرنسي من الطموحات النازية فكافأتها باريس بتسهيل سيطرتها على لواء الإسكندرون السوري مع كامل المناطق الخصيبة الواقعة جنوب سلسلة جبال طوروس، والتي كانت قد حصلت عليها بموجب معاهدة لوزان سنة 1923.

استقرت الأوضاع نسبياً في سوريا طيلة مرحلة ما قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية التي جاءت نتائجها لتغيّر ديناميكية العلاقات السياسية الدولية. وحتى في ظل حكومة فيشي الفرنسية، الموالية لألمانيا النازية بعد احتلال الألمان فرنسا، فإن التنافس الفرنسي ــ الإنكليزي لم يُسفر عن خلاف جذري بين البلدين، بل ظلت العلاقات محكومة بالحرص المتبادل على المصالح الاستعمارية المشتركة. أما على مستوى القوى الوطنية، فباستثناء الحزب السوري القومي الاجتماعي، لم تقم في سوريا خلال تلك المرحلة هيئات جذرية تضع نصب أعينها الهدف الأول ألا وهو إلغاء مفاعيل "سايكس ــ بيكو" على الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية. فقد تعاملت "الحكومات الوطنية" مع السلطات الاستعمارية الفرنسية والبريطانية من موقع القبول بالأمر الواقع، ولذلك ترسخت مفاهيم التجزئة الدينية والمذهبية والعرقية على حساب الهوية القومية الواحدة والمصالح القومية المشتركة. ونشأ على هامش هذا الوضع، صراع داخلي بين القوى النهضوية من جهة والأدوات المحلية العاملة في كنف الانتداب من جهة أخرى.

ومع أن الدولتين الأوروبيتين الاستعماريتين الكبريين بريطانيا وفرنسا خرجتا منتصرتين من الحرب العالمية الثانية، إلا أن واقعاً دولياً جديداً هو الذي فرض ذاته على الساحة الدولية: ألمانيا وإيطاليا واليابان مهزومة، بريطانيا وفرنسا منتصرتان لكنهما منهكتان اقتصادياً وعسكرياً واجتماعياً. الولايات المتحدة الأميركية منتصرة وقوية اقتصادياً وذات مطامع استعمارية كامنة. الاتحاد السوفياتي منتصر عسكرياً لكنه منهك اقتصادياً وقلق من الغرب الرأسمالي على نظامه الشيوعي الهش، وله مصالح إستراتيجية في شرقي أوروبا من جهة وعلى حدوده المتوترة في آسيا الوسطى من جهة أخرى. ولذلك كان لا بد من توافق عالمي مختلف يرسم خرائط النفوذ على مستوى العالم. وهكذا عُقدت قمة يالطا في شباط سنة 1945 بين الرئيس الروسي جوزيف ستالين ورئيس وزراء بريطانيا ونستون تشيرشل والرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت، لينشأ بذلك نظام عالمي تتولى رعايته منظمة الأمم المتحدة التي تأسست في مدينة سان فرانسيسكو الأميركية بتاريخ تشرين الأول سنة 1945، لتحل مكان "عصبة الأمم" التي قامت بعد الحرب العالمية الأولى. غير أن التوافق الذي توصل إليه الثلاثي العالمي في يالطا لم يستمر طويلاً، إذ سرعان ما اندلعت الحرب الباردة بين المعسكرين الرأسمالي بقيادة واشنطن والاشتراكي بقيادة موسكو.

ما يهمنا من موضوع الحرب الباردة هو ما تعرضت له بلادنا مع انتهاء الحرب العالمية الثانية. فمع أن لندن وباريس عادتا إلى ممارسة نفس السياسات الاستعمارية في سوريا، غير أنهما لم تعودا مطلقتي الحرية في التصرف على هواهما. إذ بات هناك لاعبون فاعلون آخرون تجذبهم إلى المنطقة عوامل إقتصادية (النفط في طليعتها) وأخرى إستراتيجية (التنافس بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي). ولا نكاد نصل إلى منتصف خمسينات القرن الماضي إلا ونجد أن الولايات المتحدة حلت مكان بريطانيا وفرنسا من حيث النفوذ المؤثر في العالم العربي. ولعل المبدأ الذي أعلنه الرئيس الأميركي دوايت أيزنهاور في "رسالة خاصة إلى الكونغرس حول الوضع في الشرق الأوسط" بتاريخ 5 كانون الثاني سنة 1957 يشكل تتويجاً لعملية انتقال قيادة التدخل الاستعماري من أوروبا إلى أميركا، وفي الوقت نفسه يُعتبر تثبيتاً لخطوط الحرب الباردة في منطقة الشرق الأوسط برمتها. وعلى الرغم من حدة الصراع السياسي والعسكري في إطار الحرب الباردة، إلا أنه من الملفت للنظر أن كل الأطراف الدولية الأساسية ظلت حريصة على أن لا تتعرض حدود "سايكس ــ بيكو" لأي خرق... يتساوى في ذلك ــ نسبياً ــ النظامان الرأسمالي والاشتراكي!

كان العدوان الثلاثي البريطاني ــ الفرنسي ــ الإسرائيلي على مصر بتاريخ 29 تشرين الأول سنة 1956 أبرز محاولة وأخطرها لتغيير خرائط "سايكس ــ بيكو". غير أن الحسابات الخاصة لكل من لندن وباريس وتل أبيب اصطدمت بنظرة كل من واشنطن وموسكو إلى المتطلبات الإستراتيجية للحرب الباردة. فصدر تهديد روسي بالتدخل العسكري المباشر إذا لم يتوقف العدوان فوراً. في حين طالبت الإدارة الأميركية بعبارات صارمة لا تحتمل التأويل الانسحاب الفوري للقوات المعتدية. طبعاً تركت تلك الحرب تأثيرات مهمة جداً من حيث تلاشي النفوذ الاستعماري الأوروبي أمام النفوذ الأميركي، ومن حيث ثنائية التنافس الأميركي ــ السوفياتي، وكذلك من حيث بروز مصر كلاعب إقليمي مهم في العالم العربي. وإذا أضفنا إلى ذلك أن تركيا كانت قد أصبحت منذ شباط سنة 1952 عضواً فاعلاً في حلف شمال الأطلسي (ناتو)، سنجد أن سوريا باتت أمام ثلاثة لاعبين إقليميين في الخمسينات هم: مصر وإسرائيل وتركيا (إيران الشاه ستلعب دوراً إقليمياً على مستوى الخليج العربي في الستينات والسبعينات)، وأمام لاعبين دوليين هما: الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأميركية.

لم تتعرض حدود "سايكس ــ بيكو" في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية إلى أية خروقات جذرية. إلا أن هذا لا يعني أن المنطقة لم تعرف محاولات جادة لتغيير مفاعيل تلك الترتيبات الاستعمارية أو إلغائها. فمع احتدام الحرب الباردة في العالم العربي، خصوصاً في الهلال السوري الخصيب، ظهرت مجموعة من المشاريع التي كان ظاهرها خرق الحدود الاصطناعية، لكن باطنها أخفى مضامين الصراع على النفوذ ضمن مستويين: بين المعسكرين الرأسمالي والشيوعي على المستوى الأول، وبين أوروبا والولايات المتحدة على المستوى الثاني. وفي ضوء هذا الصارع المستتر أحياناً والعلني أحياناً أخرى، يجب أن نضع مشروع "سوريا الكبرى" الذي روّج له العاهل الأردني الملك عبدالله ومشروع "الهلال الخصيب" لرئيس الوزراء العراقي نوري السعيد. وليس من قبيل المصادفة أن يكون هذان المشروعان، وقد فشلا فشلاً ذريعاً، من بنات أفكار نظامين ملكيين خاضعين للوصاية البريطانية المباشرة.

كان هناك إدراك سياسي عام بأن شعوب العالم العربي (وبالتحديد في المشرق) تتوق إلى خطوات وحدوية لمواجهة المخططات الاستعمارية في المنطقة، خصوصاً بعد العدوان الثلاثي على مصر الذي أثبت للجميع أن الدولة الصهيونية هي قاعدة متقدمة لتنفيذ المشاريع الأوروبية. ومن ناحية أخرى، تأكد للرئيس المصري جمال عبد الناصر أن حماية "نظام الثورة" تتطلب التعاون الوثيق مع دول الطوق الشرقي حول إسرائيل. فكانت الوحدة بين مصر والجمهورية السورية، التي أعلنت في 5 شباط سنة 1958، أول خطوة عملية ذات أبعاد سياسية واقتصادية واجتماعية لتجاوز حدود "سايكس ــ بيكو". ومن المناسب هنا، كي نتفهم الصورة السياسية الأوسع، التذكير بأنه بعد أيام على إعلان قيام "الجمهورية العربية المتحدة"، تنادى النظامان الملكيان الهاشميان في بغداد وعمّان إلى سلسلة اجتماعات عاجلة انتهت إلى إعلان العراق والأردن توصلهما في 18 شباط سنة 1958 إلى عقد اتفاق الاتحاد بين البلدين. ومن نافل القول إن هاتين التجربتين "الوحدويتين" واجهتا خاتمتين مأسويتين: الأولى بثورة 14 تموز 1958 التي قضت على الحكم الملكي في العراق، والثانية بانقلاب 28 أيلول 1961 الذي ألغى الجمهورية العربية المتحدة.

طبعاً كانت هناك محاولات أخرى خجولة لتغيير حدود "سايكس ــ بيكو"، منها على سبيل المثال تهديد الرئيس العراقي عبد الكريم قاسم بضم الكويت سنة 1960. وكذلك الحرب الأهلية في لبنان سنة 1958. لكن من الملفت للنظر في هذه الحالات بروز توافق إقليمي دولي لإبقاء الأوضاع على ما هي عليه. فقد اتخذت موسكو موقفاً متحفظاً من الوحدة المصرية ــ السورية، وعملت فعلياً لمنع العراق من الانضمام إلى الوحدة بعد ثورة 14 تموز. كما أن عبد الناصر نفسه وقف ضد المطالبة العراقية بضم الكويت، وهو موقف تلاقى مع السياسة البريطانية آنذاك. أما "ثورة سنة 1958" في لبنان، فانتهت بصفقة مصرية ــ أميركية أعادت إنتاج النظام الطائفي اللبناني بعباءة عسكرية هذه المرة يمثلها قائد الجيش فؤاد شهاب. ولا ننسى التذكير بأن الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا كانت دائماً ضد كل المساعي الوحدوية في سوريا الطبيعية. ويمكننا الآن تلخيص سنوات الحرب الباردة (1945 ــ 1991) بالقول إن المواجهات بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي دارت في دول ما يُعرف بالعالم الثالث (وبلادنا من ضمنه) لكنها لم تحدث أي تغيير في الخرائط السياسية... أللهم إلا إقدام الدولة الصهيونية على احتلال المزيد من الأراضي في حرب حزيران سنة 1967 وحرب تشرين الأول سنة 1973 وغزو لبنان المتكرر سنة 1978 وسنة 1982. غير أن لهذا الموضوع حديثاً آخر!

من غير المنطقي أن نكتفي بتصوير الغرب الأوروبي ــ الأميركي على أنه سبب كل مآسينا، فنحوّله إلى شماعة نعلـّق عليها معظم كوارثنا القومية خلال المائة سنة الماضية. ولا يمكننا اختتام هذا الجزء من البحث من دون التطرق إلى الفشل الذريع الذي مُنيت به القوى الوحدوية في العالم العربي، وغالبيتها من دعاة "القومية العربية"، والكشف الصريح عن دورها في وصول أمتنا وعالمنا العربي إلى المرحلة التي أطلقنا عليها لقب "سايكس ــ بيكو الجديد". لقد هيمنت القوى الوحدوية العربية، الناصرية والبعثية والقومية والاشتراكية، على مقاليد السلطة في عدد من الدول السورية والعربية. فلم يقتصر الأمر على ظهور عجزها التام عن تحقيق أي إنجاز على صعيد إلغاء مفاعيل "سايكس ــ بيكو"، بل نرى أن ممارساتها الفئوية في الحكم عززت النزعات الدينية والطائفية والعرقية، وأجّجت الحروب الأهلية التي نراها مستعرة في عالمنا العربي من ليبيا إلى اليمن ومن سوريا إلى العراق. وهي حروب ستؤسس لقيام أوضاع سياسية مختلفة بعد أن بلغت ترتيبات "سايكس ــ بيكو" أجلها المحتوم.

نعود الآن إلى فترة ما بعد انتهاء "الحرب الباردة" وتفكك الاتحاد السوفياتي وانهيار المنظومة الاشتراكية، ومن ثم دخول العالم عصراً جديداً أطلق عليه المحافظون الجدد في الولايات المتحدة اسم "القرن الأميركي". إن إنتصار المعسكر الرأسمالي في "الحرب الباردة" كان يعني، مثل أي انتصار آخر، أن المنتصر يقرر مصير العالم. وهذا ما حدث بالفعل في أوروبا الشرقية من حيث تفكك بعض الدول (يوغوسلافيا حرباً وتشيكوسلوفاكيا سلماً)، ولجوء بعضها الآخر إلى حمى الحلف الأطلسي أو الاتحاد الأوروبي (دول البلطيق ووسط أوروبا). أما العالمان العربي والإسلامي فكانا على موعد مع الغزوات العسكرية الغربية المباشرة التي بدأت في أفغانستان لتنتقل إلى العراق ومن ثم إلى ليبيا وأخيراً سوريا. وكانت لائحة الدول المستهدفة مرشحة لإضافات أخرى لولا بروز عاملين: أولاً، وصول المغامرة العسكرية في أفغانستان والعراق إلى طريق مسدود. وثانياً، أن القيادة الروسية أدركت متأخرة أنها باتت شبه محاصرة من الشمال والغرب والجنوب، وأنها على وشك خسارة كل مصالحها الإستراتيجية العالمية. وهكذا جاءت "إنتفاضة" الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لتكبح جماح الهجمة الأميركية ــ الأوروبية الشرسة، المدعومة إقليمياً، خصوصاً في الساحة السورية.

نحن الآن على أعتاب مرحلة البحث عن صيغة للتعايش الدولي قادرة على ضمان مصالح القوى العالمية والإقليمية. ويبدو لنا أن القوتين الأساسيتين المتواجهتين في أكثر من ميدان، الولايات المتحدة وروسيا، مقتنعتان بأن ترتيبات "سايكس ــ بيكو" المفروضة من الخارج على شعوب المنطقة لم تعد مشروعاً قابلاً للبقاء بعد أن ألغت الأحداث السياسية والحروب الأهلية والظروف الحربية في العراق وسوريا ولبنان (وفي أنحاء أخرى من عالمنا العربي) الحدود الاصطناعية التي صمدت لأكثر من قرن كامل. لكن واشنطن وموسكو لم تصلا بعد إلى تصور مشترك يعيد صياغة البنى السياسية لمنطقة الهلال الخصيب. كل ما يمكننا تأكيده في خضم هذه الفوضى العارمة أن مستقبلنا أصبح خاضعاً لفترة من التجريب على غرار ما عرفته بلادنا في أعقاب الحرب العالمية الأولى. لكن إذا كان "سايكس ــ بيكو" القديم قد فـُرض على شعبنا بإرادة فوقية بريطانية ــ فرنسية، فإن التحدي الأكبر أمام مجموعنا القومي هو أن يكون أي توافق جديد نابعاً من إرادتنا القومية المستقلة كما تعبّر عنها قوانا الاجتماعية والسياسية الحيّة... كي لا يعود أحفادنا بعد مائة سنة إلى الاجتماع في مثل هذه الندوة لمناقشة تداعيات "سايكس ــ بيكو" الأميركي ــ الروسي؟

 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024