إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

الإصلاح والتجدّد بنظرة جديدة إلى الحياة والكون والفنّ

د. حيدر حاج اسماعيل - البناء

نسخة للطباعة 2017-07-08

في بيونس آيرس عام 1943، يظهر لأنطون سعاده كتاب بعنوان: «الصراع الفكري في الأدب السوري»، وفيه يعود إلى بحث قضية الأدب عموماً، ومسألة التجديد الأدبي خصوصاً، بحثاً فلسفياً دقيقاً. وقد كانت مناسبة هذا البحث، كما يقول في المقدّمة، ما لاحظه من احتكاك وتصادم فكريين في النظر إلى الشعر وأغراضه، عند اثنين من كبار أدباء ذلك الزمان، لمناسبة تعليقهم على ديوان «الاحلام»، للشاعر شفيق المعلوف. وقد نُشرت آراء هذين الأديبين الواردة في رسالتيهما إلى الشاعر، مع تعليق للشاعر في مجلة «العصبة» التي كانت تصدر في سان باولو، وذلك في عدد شباط 1935.

وكان أهم ما ورد في رأي الريحاني، وصفه الشاعر الحقيقي، بأنه «مرآة الجماعات، ومصباح في الظلمات، وعون في الملمّات وسيف في النكبات. الشاعر الحقيقي يشيد للأمم قصوراً في الحبّ، والحكمة، والجمال، والأمل».

أما عمّ الشاعر السيد يوسف نعمان معلوف فقد حرص في الدرجة الأولى، على تعليم ابن أخيه، وإرشاده في مثل قوله: «اعتنِ في مؤلفاتك المقبلة، أن تكون مبتكراً في ما تنزع إليه سواء كان بالفكر أو بالعمل، وأن تكون مقلَّداً لا مقلِّداً في سائر أعمالك، لأن على هذه القاعدة الأساسية، تتوقف شهرة المرء في الحياة، وقبل كل شيء، أترك الخيال الذي لا روح فيه ولا حقيقة».

في تعليقه على رسالة عمّه، يقول الشاعر شفيق المعلوف، محدّداً الشعر، ما يلي: «فهو في عرفي ذلك الشعور النابض يصوّر للناس نفوس الناس، ولا تتعدّى فائدته في أحايين كثيرة منفعة يصيبها المرء، لدى سماع قطعة موسيقية جميلة، مطربة كانت أم مشجية». ثم يضيف قائلاً: «وقد أكون على خطأ، من الوجه العملي النافع، ولكنني على حق، من وجهة الفنّ الخالد». ويختم كلامه بقوله: «وأنا من هواة الشعر الخالد، الذي لا يرتبط بالأزمنة».

لنتحوّل الآن إلى شرح نظرية سعاده نفسه، في الأدب وفي التجديد الأدبي. يعرّف سعاده الأدب قبل كلّ شيء فيقول: «إنّ الأدب، نثره ونظمه، هو صناعة يقصد منها إبراز الفكر والشعور، بأكثر ما يكون من الدقة، وأسمى ما يكون من الجمال». يفهم من ذلك أن الأدب، لا يمكنه ان يحدث تجديداً من تلقاء نفسه. ومعناه أن التجديد الأدبي، ليس قضية أدبية بحت. ومعنى ذلك أن التجديد في الأدب، يتبع التجديد في الفكر والشعور، كما تتبع النتيجة علّتها. ولكن التجديد في الفكر والشعور، غير ممكن من دون حصول نظرة جديدة إلى الحياة. أو كما يحبّ سعاده أن يقول: «الأدب هو حصول ثورة روحية مادية، اجتماعية سياسية، تغيّر حياة شعب بأسره، وأوضاع حياته، وتفتح آفاقاً جديدة للفكر وطرائفه، والشعور ومناحيه». وكما أن التجديد الأدبي، ليس قضية أدبية بحت، فهو ليس قضية مؤرّخي الأدب، فالأحداث يراها سعاده نتيجة لابتداء تغيّر النظرة إلى الحياة في شعب، أي نتيجة لحصول معتقدات جديدة ومثل عليا، روحية ـ مادية جديدة، لا سبباً في التجديد الأدبي.

وبكلمة أخرى نقول، إن الأدب والسياسة يتجدّدان بتجدّد الإنسان، فما دام الإنسان قديماً في عقليته، رجعياً في نظرته إلى الحياة، ظلّ الأدب والسياسة رجعيّين. وعندما يتكون إنسان جديد على مبادئ وتعاليم جديدة، تبدأ في الأدب والسياسة عهود جديدة، على طراز المجتمع الإنساني الجديد. على هذا الأساس الفلسفي العميق، لا يعود التجديد الأدبي، كلاماً في الجديد الأدبي، هو الهفت بعينه، بل يصبح القضية، دعوة إلى جميع الأدباء ناثريهم وناظميهم إلى نبذ عقلية العهود الرجعية الانحطاطية وبناء نفوسهم في مطلب حياة جديدة، ومثل عليا، تتفق مع متطلبات النهوض الحقيقي والتقدم الحقيقي.

إن القاعدة الفلسفية العميقة التي وضعها سعاده لحصول التجديد في الأدب، لم يبقها مجرّد قاعدة نظرية، بل انه أجاب على السؤال الخطير، الذي يحّول هذه القاعدة النظرية إلى واقع ملموس، أعني كيف يمكن تغيير الحياة السورية؟ وكان جوابه ماثلاً في إنشائه الحزب السوري القومي الاجتماعي، على قاعدة نظرة جديدة للحياة الإنسانية، تعتبر الامة مجتمعاً واحداً وتعتبر أساس التقدم والارتقاء أساساً مادياً ـ روحياً.

نحصّل ما تقدّم ان التجديد في الأدب نثراً وشعراً يكون بتجديد النظرة إلى الحياة والتغبير عنها. فإذا كانت النظرة أسطورية دنيوية أو دينية سماوية فإن الأدب يتبعها، فنقرأ أدباً أسطورياً أو دينياً. وقد يكون طائفياً كما في زماننا. وإذا كانت النظرة فردية نقرأ نثراً وشعراً يمجّد «الأنا» ويهجو «الأنت» كما ظهر في زمان الهجاء والمديح بين جرير والفرزدق. على سبيل المثال، أما إذا كانت النظرة قومية فسرعان ما ينهض الأدب القومي.

وقبل التركيز على أهمية النظرة القومية التجديدة في زماننا، أودّ أن أتوسّع وبمقدار للكلام على أهمية النظرة إلى الحياة عند سعاده وفي زماننا عند أشهر فلاسفة العلوم وتاريخها، فأذكر ما يلي:

في شرح سعاده غاية الحزب السوري القومي الاجتماعي، يصف فلسفة الحزب بأنها نظرة إلى الحياة كاملة، يقول: «إن غاية الحزب السوري القومي الاجتماعي هي قضية شاملة تتناول الحياة القومية من أساسها ومع جميع وجوهها. إنها غاية تشمل جميع قضايا المجتمع القومي، الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والروحية والمناقبية وأغراض الحياة الكبرى. فهي تحيط بالمثل العليا القومية وبالغرض من الاستقلال وبإنشاء مجتمع قومي صحيح. وينطوي تحت ذلك تأسيس عقلية أخلاقية جديدة ووضع أساس مناقبيّ جديد وهو ما تشمله مبادئ الحزب السوري القومي الاجتماعي الأساسية والإصلاحية، التي تكون قضية ونظرة إلى الحياة كاملة، اي فلسفة كاملة».

ويقول موجّهاً كلامه إلى فايز الصايغ الذي كان عميداً للإذاعة والثقافة، منتقداً إياه لإهمال درس نظرة الحزب إلى الحياة الممثلة في عقيدته: «إن اجتهادكم الشخصي في تعليم النظرة البرديايفية من مراكز الحزب العالية التي وصلتم اليها يدلّ على أنكم لم تهتموا بدرس العقيدة القومية الاجتماعية ونظرتها ولم تأخذوا بعين الاعتبار أن الحركة نشأت على عقيدة أي فلسفة اجتماعية كاملة موجودة في المبادئ وفي كتابات المعلّم وشروحه في كتبه وخطبه ومحاضراته وأحاديثه وفي قدوته. وأن الواجب الطبيعي لهذه الحركة تثبيت عقيدتها وانتصارها ككل حركة في العالم تقويم بتعاليم أساسية».

وفي مؤتمر المدرّسين القوميين الاجتماعيين الذي عُقد عام 1948 يعود سعاده ويؤكّد على ضرورة تدريس المدرّسين أبناء الجيل الجديد وبناته النظرة الجديدة إلى الحياة، ويعتبر هذه المهمة الخطوة الاولى التي يجب ألا تسبقها خطوة، معتبراً كل ما عدا هذه النظرة الجديدة من سياسة وتنظيم لا نفع منهما إذا كانا منفكين عنها، يقول: «إنّ الخطوة الأولى التي كان يجب على الحركة السورية القومية الاجتماعية القيام بها لتتقدّم، هي تعليم العقيدة السورية القومية الاجتماعية والغاية الرامية إليها، لأنها هي الحقيقة الأساسية التي بها نوجد شعباً وأمّة ولها نعمل. كل عمل آخر من سياسة وتنظيم لا فائدة منه بدونها ولا يجدي القيام به ان لم يكن متفرعاً عنها وعائداً إليها. إنها محور الحياة والفكر الأساس، فكل عمل يجب ان يدور عليها. ولذلك كان الغرض الأساس من الحركة السورية القومية الاجتماعية جعلها عامة ومنتصرة في الأمة السورية وحيثما أمكن تحقيق رسالتها الاجتماعية وفلسفتها المدرحية. ولقد ظنّ بعض المغرورين أنّ العمل العقدي الأساسي كالبحث في الأمة وقوميتها وحقيقتها وأهدافها، أمر يمكن الاستغناء عنه والاستعاضة عنه بالمساومات السياسية المطوّحة بالعقيدة القومية الاجتماعية وغاية هذه الحركة العظيمة، فكادت القضية المقدسة تسقط من أساسها وابتدأ الميعان والفوضى يهددان الحركة بالتفكك العام، فلما كان من وراء عودتي من غيبتي عودة الحركة إلى العقيدة والغاية فقضي على الميعان والفوضى وعادت الحيوية إلى الحركة وعاودتها روح البطولة والمثالية الأولى. فتعلمون الآن بالاختبار في أي مهوى سحيق تسقط الحركات والامم التي تفقد عقادئدها ومقاصدها».

وتتألف النظرة القومية الاجتماعية من مبادئ أساسية ثمانية تمثل صورة المجتمع المدني الجديد، أو صورة الأمة الناهضة، كما يحب سعاده أن يقول، وفي ما يلي وصف سريف لهذه المبادئ الأساسية الثماينة:

مبدأ «سورية للسوريين والسوريون أمة تامة» وجوهره تسمية ملكية الأمة.

«القضية السورية قضية قومية قائمة بنفسها مستقلة كل الاستقلال عن أي قضية أخرى». وجوهره تحديد الاستقلال الحقوقي للأمة.

«القضية السورية هي قضية الأمة السورية والوطن السوري». وجوهره تحديد نوع قضية الأمة.

«الأمة السورية هي وحدة الشعب السوري المتولّدة من تاريخ طويل يرجع إلى ما قبل الزمن التاريخي الجليّ». وجوهره تعريف الأمة ونشوئها الاجتماعي.

«الوطن السوري هو البيئة الطبيعية التي نشأت فيها الأمة السورية… ويعبّر عنها بلفظ عام: الهلال السوري الخصيب ونجمته جزيرة قبرص». وجوهر هذا المبدأ تحديد ملكية الأمة.

«الأمة السورية مجتمع واحد». وجوهره إعلان وحدة الأمة.

«تستمدّ النهضة السورية القومية الاجتماعية روحها من مواهب الأمة السورية وتاريخها الثقافي السياسي القومي». وجوهره تحديد الاستقلال الروحي للأمة.

«مصلحة سورية فوق كلّ مصلحة». وجوهره تحديد المقياس المناقبي للعاملين للأمّة.

والمصوّر التالي يوضح أنّ المبادئ الأساسية كلها تدور حول الأمة، او تتجه اليها، حيث كل مبدأ يتناول ناحية من نواحيها. فتكون الامة هي المبدأ المركزي للمبادئ الأساسية:

1 ـ من حيث تسمية ملكيتها.

2 ـ من حيث استقلالها الحقوقي.

3 ـ من حيث تحديد نوع قضيتها الحقوقية.

4 ـ من حيث تعريفها الأمّة .

5 ـ من حيث تحديد ملكيتها.

6 ـ من حيث وحدتها.

7 ـ من حيث استقلالها الروحي.

8 ـ من حيث مقياس العمل لها.

وتجدر الملاحظة أنه بالفلسفة القومية الاجتماعية يمكن توحيد الشعوب العربية في أقطارها وعندما ينهض كل شعب في كل قطر تنهض مع نهوض الشعوب رابطة العروبة الحقة التي هي رابطة شعوب العالم العربي، ممثلة بدولها، في الجبهة العربية الواحدة.

المصوّر التالي يوضح بطريقة هندسية اتجاه سعاده التوحيدي وخطّته لإثباته:

ـ مخطّط العروبة الواقعية

ـ الأفراد السوريون

ـ الأفراد المصريون

ـ الأفراد المغربيون

ـ أفراد شبه الجزيرة العربية

واضح من هذا المصوّر، أن وحدة سورية وحياتها ووحدة مصر وحياتها ووحدة شبه الجزيرة العربية وحياتها ووحدة المغرب العربي وحياته، كلّ هذه الوحدات المجتمعية لا تتناقض مع «التوحيد العربي الجبهوي». «الوحدة العربية الجبهوية» لا تكون ولا تقوم ولا تتعزّز بموت سورية وموت مصر وموت شبه الجزيرة العربية وموت المغرب العربي، بل بحياة سورية وحياة مصر وحياة شبه الجزيرة العربية وحياة المغرب العربي. فهل يفقه الواغلون على العلوم.

بكلمة أخرى، هناك مسؤؤليتان: مسؤولية الفرد تجاه أمته ومسؤولية أمته تجاه عالمهما. وقد عبّر سعاده عن ذلك بقوله: «أريد أن أفعل واجبي تجاه أمتي أوّلاً لتستطيع أمتي أن تفعل واجبها نحو عالمنا العربي». وقد جاءت أحداث التاريخ، بخاصة ما سمّي بـ«الصراع العربي ـ الإسرائيلي» لتؤيد ما ذهب إليه سعاده عندما نظر الفلسطينيون حولهم وبعدهم اللبنانيون والآن العراقيون ولم يجدوا «أمّتهم العربية الواحدة» التي رآها مؤسس حزب البعث في النظرة القديمة عندما قال في كتابه «في سبيل البعث»: «العروبة جسم روحه الاسلام»!

إن فكرة النظرة إلى الحياة والكون التي كان لسعاده الفضل في توظيفها، دون سواه في العالم العربي، على الاقل، دخلت ميدان العلم وفلسفته وتاريخه وكان دخولها قوياً ومثيراً، حقاً. فهذا طوماس كون Thomas Kuhnيعتمدها لشرح فلسفته العلمية التي أحدثت ضجة ما بعدها ضجة في عالم الفكر الفلسفي المعاصر، فبها يرى تاريخ العلوم تاريخ ثورات، ولكل ثورة منها نظرة جديدة إلى العالم الطبيعة لا يمكن مقارنتها بالنظرات القديمة. فالتجديد العلمي يكون بنظرة جديدة تتجسّد في نموذج يعتمده العلماء في ممارساتهم.

في كتابه: «بنية الثورات العلمية The Structure of Scientific Revolutions» ينتقد ويرفض طوماس كون النظرة الأحادية إلى العلم التي يسمّيها النظرة التراكمية الثابتة التي لا تتبدل. ويرى في تاريخ العلم شبيهاً لتاريخ السياسة وحتى للداروينية «Darwinism » والتغيير عنده، يكون بواسطة ما يسميه نماذج « paradigms» أصلها نظرات إلى الطبيعة أو الكون مختلفة، بل هي تجسيد لتلك النظرات. والنظرات المتباينة تتصف بعدم إمكان مقارنتها.

في ما يلي مقتطفات من ترجمتنا لما قال:

«فنظرية كنظرية حفظ الطاقة لم تتطور تاريخياً، من دون هدم لنموذج وهي النظرية التي تبدو، اليوم بمثابة بنية فوقية منطقية لا علاقة لها بالطبيعة الا عبر نظريات تأسست على نحو مستقل. فبدلاً من ذلك، نشأت تلك النظرية من أزمة كان أحد مكوناتها الجوهرية عدم الاتساق بين الديناميكا النيوتونية وبعض النتائج، الذي صيغ حديثاً لنظرية السّيال الحراري. ولم يمكن ان تبدو نظرية من طراز ذي مستوى منطقي أعلى غير متعارضة مع سابقاتها، الا بعد ان صارت جزءاً من العلم لبعض الوقت، وانه لمن الصعب رواية كيف يمكن لنظريات جديدة ان تظهر بدون هذه التغييرات الهادمة للمعتقدات المتعلقة بالطبيعة».

تطبيقات سعاده نظرته الجديدة إلى الحياة

بوحي من هذه النظرة الجديدة إلى الحياة، يقول سعاده موجّهاً كلامه إلى السوريين جميعاً في الهلال الخصيب ما يلي: «أيها السوريون، ليس من سوري إلا وهو مسلم لربّ العالمين. فاتقوا الله واتركوا تأويل الحزبيات الدينية العمياء. فقد جمعنا الإسلام: منّا من أسلم لله بالإنجيل ومنّا من أسلم لله بالقرآن ومنّا من أسلم لله بالحكمة…».

كما يحّذر من الفتن الطائفية قائلاً: «ما دمنا نقتتل على السماء فلن نربح الأرض». ويتابع موجّهاً وقائلاً: «إنّ قضايا السماء تُحلّ في السماء. إنها قضايا بين الفرد والله لا بين جماعة وجماعة…».

ويطلب سعاده من أعضاء حزبه أن يكافحوا النزعة الفردية مكافحتهم الاحتلال الأجنبي، عانياً تلك النزعة التي تجعل الفرد ضارباً المصلحة العامة عرض الحائط وتجعله مستهتراً بمصير شعبه ووطنه طلباً لثلاثين من الفضة، وما شابه.

ويقول سعاده: «إن علل الأمة ليست فقط اجتماعية بمعنى اقتصادي بحت أو سياسية محض، بل هنالك قضيتان أساسيتان من دون حلّهما تبقى العلل آخذة بعضها بعض، هما قضية المجتمع بكامله قضية وجوده وشخصيته الحقوقية والسياسية ـ وقضية نفسية المجتمع ومناقبيته».

ويتابع قائلاً: «إنّ الأمم التي تعالج اليوم مشاكل الاجتماع الاقتصادية على أنها هي كل مشاكلها، هي أمم قد حلّت من زمان القضيتين المذكورتين. والأمم التي لم تحّلهما قد يقيّدها تطبيق بعض الجزئيات ولكنها لا تخرج بواسطته إلى حياة جديدة وعهد جديد».

ويتابع فيقول: «لا تنهض الأمة إلا بقضية عظمى كاملة، ولا تنتقل من حياة إلى حياة إلا بحركة خلق تأسيسية، شاملة جميع نواحي الحياة ـ بحركة شعبية تنشأ من صميم الشعب والأمة وتصارع بأمانة كلّية لحقيقة الشعب وقضيته».

وفي موضع آخر، نعني في مقال بعنوان «الأمة تريد نهضة لا حلّة». ينتقد سعاده، لا بل يهاجم طفرة تأليف الأحزاب وتصوّر الإصلاح في أشكال وأشكال والحلم بالانقلابات الحكومية، والاهتمام بالانقلابات… لأنه رأى أن حاجة الأمة هي إلى عقيدة ومبادئ تنشئ جيلاً جديداً ونظاماً جديداً وجمالاً جديداً.

وبعد ذلك، يخاطب الشباب قائلاً ومؤكداً: «لا تغيير لحالة البلاد ومصير الأمة إلا بالنهضة القومية الاجتماعية التي وضعت أساس بناء نفسي ـ اجتماعي ـ سياسي جديد ونظرة مدرحية إلى الحياة والكون والفنّ».

ويصف سعاده حالة الشعب في بلاده بكلام واضح لا لبس فيه، يقول: «في سورية فساد الحكم هو من فساد الشعب… في سورية تعلّم الفرد ألّا يهتمّ لضرر الشعب بل لمنفعته الفردية فقط».

ويتابع شارحاً: «في سورية المناقب تحولّت إلى مثالب، والأخلاق انحطّت، فالفساد في الشعب والشعب الفاسد الروحية يحتاج إلى إصلاح». أما الإصلاح، فلا يراه سعاده مُحقّقاً بأن يتقمص حزب فئة رجعية من فئات الشعب الفاسد، طائفية أو طبقية أو عنصرية، أو مخلية، أو ما قارن، بل يؤكد أنّ «الإصلاح الذي لا يمكن إن يكون إلّا من الداخل، يجب أن يكون من فرد انشق على فساد المجموع وتغلّب على أهوائه».

وإذا لم يكن الحزب هو منظمة الإصلاح والتجديد والتغيير بنظرته الجديدة إلى الحياة، فإن سعاده أعلن، وفي أكثر من مناسبة استعداده لحلّه. هذا ما يقوله في هذا الخصوص: «إني أفضل أن تزول الحرّية وأن يزول الحزب كلّه على أن يقوم أحدهما أو كلاهما على أساس الفوضى أو الامتيازات الشخصية غير المستحقّة». ويتابع مباشرة قائلاً: «فأنا قد جئت لأنشئ شيئاً جديداً لا لأسير بحسب النظام أو الوضع القديم».

وفي خطابه في مدينة اللاذقية في 29 تشرين الثاني، 1948، يصف سعاده حالة الأمة بما يلي: «لقد كانت أمتنا قبل نشوء الحزب السوري القومي الاجتماعي في درك قطعان من البشر تسيّر بالإرادات الأجنبية تسييراً فيه كل الغباوة وكل العمى عن المصير المنحطّ الذي تسير إليه وتنحدر فيه بإذعان غريب».

وفي تعريفه للحزب، نجد أن سعاده يميّزه عن غيره من الأحزاب بفضل نظرته الجديدة إلى الحياة، يقول: «إننا نهضة قومية اجتماعية أكثر منها حزباً سياسياً، والنظرة القومية الاجتماعية هي التي تملي علينا سياستنا».

المجتمع المدني القومي الأساسي والدولة القومية الحديثة

كنا قد ذكرنا، ونحن نشرح المبادئ الأساسية أنها العقيدة أو مبادئ النظرة الجديدة إلى الحياة التي توحّد رجال الأمة ونساءها. والآن نقول، إنه لا معنى لدولة حقيقية وحديثة من غير أساس اجتماعي اسمه المجتمع المدني موحّد النظرة إلى الحياة.

وفي هذه المناسبة نذكر، وعلى سبيل المثال، حالة لبنان المنقسم. فقد كان من الممكن الاختلاف في أيّ شيء وحول كلّ شيء ما عدا النظرة الواحدة إلى الحياة، والتي يدعوها صحافيو هذا الزمان الرديء وإعلاميوه وسياسيوه «الوحدة الوطنية» ويظنّون أنها تكون بالحوار السياسي المخادع. ولي بالتربية المستديمة في الأسرة وفي المدرسة وفي الشارع وفي القدوات من الرجال والنساء، وفي مؤسّسات الدولة. النظرة إلى الحياة، وبخاصة إذا كانت جديدة، يجب أن يرضعها الأطفال قبل حليب الأمهات أو معه.

نتقدّم الآن إلى الكلام على مفهوم سعاده للدولة وإصلاحها وتجديدها. يقول سعاده: «إن الدولة الحديثة قامت على مبدأين هما: مبدأ القومية ومبدأ الديمقراطية»، وأكد أن المبدأين متجانسان فلا قومية حقيقية من دون ديمقراطية ولا ديمقراطية حقيقية من دون قومية. الدولة الحديثة إذن هي الدولة القومية الديمقراطية التي جوهرها: الشعب لم يوحّد للدولة بل الدولة للشعب.

واضح ممّا تقدم ان أساس الدولة الحديثة يتناقض تناقضاً قوياً مع الأساس الذي قامت عليه الدول السابقة كلها والذي كان القوة الاستبدادية وليس الارادة الشعبية الحرة. والانقلاب العظيم حصل بفضل ظهور الوجدان القومي. يقول سعاده: «تحت هذا العامل الجديد، عامل القومية الطاهر في تولّد روح الجماعة والرأي العام، تغيّر معنى الدولة من القوة الحاكمة المستبدّة إلى سيادة المتّحد وحكمه نفسه». ثم يضيف فيقول: «إن الوسيلة كانت التمثيل السياسي أي الانتخابات الشعبية في الدولة الحثيثة بلغت القوانين الحقوقية أوسع دوائرها وصار الحكم فيها للمبادئ الشعبية الحقوقية».

نظرة سعاده إلى الدولة نقع عليها في المبادئ الإصلاحية الخمسة التي وضعها والتي ترسم صورة للدولة التي على أعضاء الحزب تأسيسها، وهي ذات خمس خصائص، هي:

1 ـ الدينوية، أي أن تكون الدولة مختصة بشؤون هذه الدنيا أو هذا العالم وقائمة على مبدأ الأمة. لذلك نصّ المبدأ على «فصل الدين عن الدولة» بعد أن انتهى دور الدولة الدينية في عصر الأمم والقوميات.

2 ـ العلمية أو الاختصاصية، فلا يجوز لغير الاختصاصيين مثل رجال الدين ان يتدخلوا في شؤون الدولة من أيّ وجه، بخاصة الشؤون السياسية والقضائية.

3 ـ المساواتية التي تقضي بأن يكون نظام الدولة خالياً من الامتيازات لأيّ جهة أو فئة أو جماعة. أي أن يكون نظام المساواة في الحقوق والواجبات هو في أساس نظام الدولة.

4 ـ العدالة الاجتماعية ـ الاقتصادية، أي أن يكون النظام الاقتصادي للدولة نظاماً أساسه الانتاج، والانتاج للمنتجين غلالاً وصناعة وفكراً.

5 ـ الأمن والسلام يثّبت أركانهما ويوفّرهما الجيش القومي الدفاعي القوي ذو القيمة الفعلية في تقرير مصير الأمة والوطن.

تلك باختصار شديد صورة الدولة القومية الاجتماعية كما رسمها سعاده.

نخلص ممّا تقدّم كله، إلى النتيجة التالية وهي أنه: لا إصلاح ولا تجديد ولا تغيير في حالة أمتنا من غير تطبيق نظرة جديدة إلى الحياة والكون والفنّ. وهذه النظرة، لتكون بمستوى العصر، مثل سياراتنا عوضاً عن الدواب وهواتفنا بدلاً من الصراخ ومنازلنا الحجرية بدلاً من خيم الماضي ، يجب أن تكون قومية. ولما كانت المدارس القومية العنصرية والسياسية والدينية وما قارنها قد أخفقت أيّما إخفاق في ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية، والبلاد العربية حيث نودي بـ«الأمة الإسلامية» ودولة الحلفاء، فإنّ النظرة القومية الاجتماعية التي تعتبر الأمة مجتمعاً واحداً، هي النظرة الجديدة القادرة على تجديد حياتنا وإصلاح دولتنا، وإنهاضنا من قبر التاريخ إلى المكان اللائق بنا، كأمة، تحت الشمس.

ملحق

ننقل في ما يلي مقطعاً من الفصل التاسع من كتاب الفيلسوف توماس كون Thomas Kuhn الذي رأى أنّ فلسفة العلوم وتاريخها عبارة عن نظرات إلى الطبيعة مختلفة اختلافاً جذرياً كاملاً. وكلّ نظرة تحققت بثورة قضت على كل ما سبقها من فكر ومؤسّسات وتقاليد علمية تماماً مثل الثورات السياسية.

طبيعة الثورات العلمية وضرورتها

تسمح لنا تلك الملاحظات أخيراً بأن ننظر في المشكلات التي وفّرت لهذه المحاولة عنوانها. فما هي الثورات العلمية، وما هي وظيفتها في التطور العلمي؟ لقد حصل توقع لمعظم الجواب عن هذه الاسئلة في الفصول السابقة. وبصورة خاصة، دلت المناقشة السابقة على أنّ الثورات العلمية اعتبرت هنا بأنها تؤلف سلسلة الأحداث التطويرية اللاتراكمية التي يحلّ فيها، كلّياً أو جزئياً، براديغم نموذج جديد محل براديغم أقدم منها، ولا يكون متسقاً معه. غير ان هناك الكثير مما يجب أن يقال، وجزء منه يمكن تقديمه عن طريق طرح سؤال إضافي. ما الذي يوجب تسمية تغيير البراديغم ثورة؟ وفي وجه الفروقات الواسعة والجوهرية بين التطور السياسي والتطور العلمية، أي الموازاة تبرر الاستعارة التي تجد ثورات في كليهما.

إن إحدى نواحي الموازة لا بدّ أن تكون قد صارت ظاهرةً في ما سبق. فالثورات السياسية تبدأ بتزايد شعور الناس، الذي يكون غالباً محصوراً في قسم من المجتمع السياسي، بأن المؤسسات القائمة توقفت عن الحلّ الكافي لمشكلات بيئية كانت قد أوجدتها جزئياً. وبطريقة مماثلة تكون الثورات العلمية التي تبدأ بنشوء شعور متزايد، يكون وهو غالباً ما يكون مقتصراً على فئة ضيقة من المتحد العلمي، بأن مؤسّسات قائمة توقفت عن العمل بما في الكفاية في الكشف عن ناحية من نواحي الطبيعة سبق لذلك البراديغم ذاته ان أدّى إليها. وفي كلا التطوّرين السياسي والعلمي كان الشعور بتعطّل العلمي المؤدّي إلى أزمة شرطاً ضرورياً لظهور ثورة. وزيادة على ذلك، مع التسليم بأن هذا الاستعمال للتشبيه يمطّه إلى أقصى حدّ، فإن تلك الموازاة لا تنطبق على تغيرات البراديغم الكبرى وحدها مثل تلك المنسوبة إلى كوبرنيكوس ولافونزييه، ولكنها تنطبق أيضاً على تغيرات أقل مرتبطة بتمثل نوع جديد من الظواهر، مثل الأوكسجين أو الأشعة السينية. ان الثورات العلمية، وكما لاحظنا في نهاية الفصل الخامس، لا تبدو ثورية إلا عند أولئك الذي تأثرت براديغمات، فيمكن ان تبدو وكأنها مراحل عادية في العلمية التطويرية، مثل ثورات البلقان في أوائل القرن العشرين. فقد يقبل الفلكيون، على سبيل المثال، الأشعة السينية كمجرد إضافة إلى المعرفة، وذلك لأن براديغماتهم لم تتأثر بوحود الاشعاع الجديد. ولكن بالنسبة إلى علماء مثل كالفن، وكروكس، ورونتغن، الذين بحثوا في نظرية الاشعاع أو في أنابيب الأشعة المهبطية الكاثودية فإن ظهور الأشعة السينية قد كان بالضرورة خروجاً عن براديغم، وخلقاً لبراديغم آخر. وذلك هو السبب في أن تلك الأشعة لم تكتشف إلا عبر حدوث خطب ما في البحث العادي.


 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024