إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

هل يشكل فخ ميانمار مأزقاً للصين...؟

سومر صالح - البناء

نسخة للطباعة 2017-09-23

إقرأ ايضاً


إذا كان بعض منظري السياسة الأميركيين قد وسموا العقد الأول من القرن الواحد والعشرين بمشروعهم المسمّى «القرن الأميركي الجديد» وبعضهم تقلّد مناصب إدارية وأمنية رفيعة في إدارة بوش الابن ودعموا سياسة «ريغانية» قائمة على التدخل العسكري المباشر لإدارة العالم من أفغانستان إلى العراق وتبنوا «الفوضى/ العماه» استراتيجية لهم لتحقيق أهدافهم، فإنّ العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين بدأ ينحو اتجاهاً معاكساً في سقوط الأحادية القطبية وبزوغ تعدّدية قطبية نشهد إرهاصاتها اليوم بما يسِم هذا العقد الحالي بعقد «الموانئ الدافئة»، هذا وتعتبر الحرب الروسية الجورجية 2008 نقطة البدء في هذا التحوّل واستكمل ذلك في أزمة القرم 2014 حين طلب الرئيس بوتين بموجب المادة 102 من مجلس الاتحاد الروسي السماح له باستخدام القوة العسكرية لاستعادة الاستقرار للقرم… حيث أبدت روسيا خشية من إقدام السلطات الجديدة في أوكرانيا المدعومة أوروبياً – على إلغاء معاهدة أسطول البحر الأسود أو المساس ببنودها التي تضمن بقاء الأسطول الحربي الروسي في ميناء سيفاستبول للعام 2042 مع بقاء ما يقارب 25 ألف جندي روسي في هذا الميناء… أمرٌ يُشكل ضربة قوية لطموحات بوتين الدولية لا سيما البحرية منها باعتبارها شرطاً لازماً لعودة مكانة روسيا الدولية، وهو ما رأيناه بوضوح في أزمتي جورجيا وسورية حيث لعب الأسطول البحري الروسي في البحر الأسود أدوارا بالغة الأهمية… ضمنت لروسيا عودة مظفرة إلى مسرح الكبار…

لكن روسيا غير قادرة بمفردها على إسقاط الأحادية الأميركية بل هي بحاجة ماسة إلى القوة الاقتصادية الصينية، فالصين كثاني أكبر اقتصاد عالمي عادة ما صنّفت بأنها قوة قادرة على تغيير النظام الدولي ولكنها قانعة بنسقه الراهن، ولكن قناعتها تلك لم تجنّبها ويلات الصراع مع الخصم الأميركي، ولم يجنّبها نهائياً الوقوع في «فخ ثوسيديس» الذي يفترض بأن خوف قوة قائمة الولايات المتحدة من صعود قوة منافسة الصين وعدم الرغبة في التعاون بينهما سيؤدّي حتماً إلى الوصول إلى فخ الحرب، فمنذ العام 2009 والعلاقة بدت متوترة مع الولايات المتحدة وعمدت الأخيرة إلى فرض شبه حصار بحري عليها عبر نشر أساطيلها في المحيطات الدولية لعرقلة التجارة الصينة، ومع العام 2013 بدأت الصين بالتحرك نحو القطبية الكاملة سياسياً وعسكرياً وثقافياً واقتصادياً من خلال مبادرة «حزام واحد – طريق واحد» التي أطلقها الرئيس الصيني شي جين بينغ، وتهدف لتطوير وإنشاء طرق تجارية وممرات اقتصادية تربط أكثر من 60 بلداً، وعلى غرار أهمية ميناء سيفاستبول في القرم لروسيا ظهرت أهمية ميناء أراكان في ميانمار على خليج البنغال بالنسبة إلى استراتيجية الصين الجديدة، فالميناء يمنح الصين الوجود الاستراتيجي في المياه العميقة للمحيط الهندي، بعد أن كانت دولة حبيسة على المحيط الهادئ كما يوفر هذا الممرّ منفذاً بحرياً للمقاطعات النائية في الجنوب الأوسط للصين على المحيط الهندي، انطلاقاً من ذلك، قامت الصين بتوسيع الشراكة الاقتصادية مع بورما للاستفادة من منافذها البحرية لتأمين التدفقات النفطية للصين عبر خليج البنغال في حال فرض حصار اقتصادي على منطقة بحر الصين الجنوبي الذي يشهد توترات عسكرية مع الولايات المتحدة، هنا يظهر التشابه بين الميناءين سيفاستبول وأراكان بالنسبة لروسيا والصين باستراتيجيتهما باتجاه تحوّلهما نحو القطبية الدولية، هذه الأهمية الحيوية للإقليم الذي تسكنه عرقية الروهينغا ذات الأغلبية المسلمة، حوّلته إلى نقطة اصطدام جيبوليتيكي مع واشنطن، ولكن في الحالة الروسية كانت القوة العسكرية الروسية حاسمة باتجاه استعادة القرم مع وجود أغلبية سكانية تؤمّن البيئة اللازمة للعودة، بخلاف وعكس الحالة في إقليم راخين حيث تتواجد القوة الصينية العسكرية القادرة على الحسم ولكن لا تتوفر البيئة الحاضنة لها حيث تقطن الإقليم أقلية الروهينغا المسلمة، وما يجري اليوم من أحداث هي مؤسفةٌ بطبيعة الحال تفتح الباب واسعاً لخطط واشنطن المجربة سابقاً وهي حروب الجيل الرابع عبر استخدام ما يسمّى «الجهاديين الإرهابيين» لزعزعة الاستقرار في بورما ولاحقاً الانقلاب عليهم والتدخل المباشر ضدّهم بذريعة «محاربة الإرهاب»، كما حدث في أفغانستان مثلاً – وبطبيعة الحال فلديها الكثير من الأدوات المهزومة التي سحبتهم من سورية للزجّ بهم في أتون الأحداث الجارية في ميانمار…

هذه الوضعية المأزومة في الإقليم الذي يشكل بديلاً استراتيجياً عن قناة «ملقا البحرية» التي تهيمن عليها القوات العسكرية الأميركية تضع الصين أمام تحديات اقتصادية وأمنية جدية وتعرقل طموحاتها التجارية الدولية في ظلّ بزوغ إرهاصات حرب تجارية مع واشنطن قد تنقلب حرب عملات دولية، وتنحصر خياراتها في ثلاث أنماط من السلوك السياسي والعسكري أحلاها «مرّ»، النمط الأول هو نمط استخدام القوة العسكرية الصينية المباشرة في مواجهة هذه التنظيمات المتطرفة التي بدأت بالوفود إلى الإقليم بتواطؤ تركي أميركي، وهو أمر صعب ومستبعد نتيجة عاملين: الأول التوتر الحاصل بين الجيش الصيني وجيش ميانمار على خلفية أحداث 2016 وطلعات سلاح الجو التابع لميانمار فوق الحدود الصينية، والعامل الثاني هو الأثر العكسي للتدخل فقد يكون هذا التدخل هو أقصى طموح تبتغيه واشنطن لأنه يسمح لها بتحويل الصراع الصيني مع «الجهاديين الإرهابيين» إلى حرب دينية تستخدم فيها الإيغور المهزومين والعائدين من سورية لتقويض استقرار إقليم تركستان الشرقية شينجيانغ ونقل الحرب إلى الداخل الصيني، واستعداء أقاليم تركستان الغربية للصين بما يقوّض المساعي الصينية في استراتيجية حزام وطريق، وذلك في سيناريو مشابه لاستخدام وتوظيف تنظيم القاعدة الإرهابي في مواجهة الاتحاد السوفياتي إبان الحرب الأفغانية 1979-1989 ، أما النمط الثاني من السلوك فهو النمط الأمني من خلال دعم صيني لحملة أمنية لقوات الجيش في ميانمار على متمرّدي الروهينغا وهم جيش تحرير روهينغا أراكان «أرسا» دون التدخل العسكري المباشر، وهو نمطٌ لن يفي بالغرض لأنّ حجم الاستقطاب والشحن الإعلامي خصوصاً الإعلام الخليجي الحاصل على خلفية تلك الأحداث ستزيد مشاعر الكراهية ضدّ الصين وتخلق البيئة الملائمة أيضاً لنشاط الحزب الإسلامي التركستاني الأويغوري لا سيما بعد عودة فرعه الإرهابي من سورية في الداخل الصيني، فالإعلام الصيني العربي منخفض التأثير ولن يجاري الحملات التحريضية ضدّ البوذيين الحاصلة اليوم…

وبالانتقال إلى النمط الثالث من السلوك فهو نوع من «العقلنة السياسية» متعددة المستويات في الأحداث بدءاً من التعامل الإنساني مع تداعيات الصراع كمستوى أول عبر استقبال عشرات الآلاف من اللاجئين المسلمين وتقديم الدعم الإنساني الأمر الذي يسمح للصين بتقويض فرضية الحرب الدينية والتطهير العرقي، والمستوى الثاني دبلوماسي عبر دعوة الأطراف المعنية إلى وقف إطلاق النار فوراً لمنع تصاعد الاشتباكات، وإعادة الوضع إلى طبيعته في منطقة الحدود في أقرب وقت ممكن والسعي لبلوغ اتفاقية سلام شاملة كانت قد انطلقت في العام 2015 ، إلا أنّ هذا النمط وهو الحاصل حالياً قد يشجع منظمة «أرسا/ جيش تحرير روهينغا» على طلب مزيد من الصلاحيات ومكتسبات الحكم الذاتي بما يمهّد للانفصال مستقبلاً، وبالتالي تأتي النتائج بعكس المصالح الصينية…

شاءت الظروف الدولية أن يلعب الموقع الجيو سياسي المهمّ لـ ميانمار في القارة الصفراء دوراً رئيساً في الاستراتيجية الصينية سواء من خلال ممرّ بري من الصين إلى الخليج العربي والبحر المتوسط، أو من خلال ممرّ بحري يسمح لواردات الصين أن تأتي بعيداً عن الأساطيل الأميركية، ولكن الظروف التاريخية والسياسية لن تسمح للصين بنمذجة سيناريو القرم الروسي المتشابه في الأهمية الجيبوليتيكية مع إقليم أراكان ومينائه الحيوي، وما يعقد الحسابات الصينية أنّ هذا التحدي الجيبوليتيكي والتحدّي الاستراتيجي الكوري سيكونان حاسمين في رسم شكل القوة الصينية حاضراً ومستقبلاً، فنجاحها في ضبط الوضع في الإقليم سلمياً وحلّ الأزمة الكورية سيؤهّلها للعب أدوار إقليمية ودولية حاسمة في الصراعات الدولية ويسقط الانتقادات الدولية في عدم امتلاكها ثقافة القطبية الدولية وأدواتها وعجزها عن إدارة الأزمات الدولية، ولكن فشلها في حلّ أزمة الروهينغا لا سيما إن اقترن مع فشل دبلوماسي لأزمة الجزيرة الكورية سيأتي بنتائج عكسية على الصين ليس من الناحية الجيبوليتيكية فقط، بل سيحول دون بلوغها مرحلة القطب الفاعل دولياً، فالاقتصاد هنا لن يكفي، لأنها ستفقد الثقة الدولية بإمكانياتها السياسية فلا أحد يرغب بحصول كوارث نووية جراء قلة الخبرة الدولية في التعامل مع الأزمات العسكرية، فكيف لفاقد الشيء أن يعطيه انطلاقاً من فشلها في حلّ أزمة تعني أمنها القومي مباشرة؟

 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024