شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية 2006-04-30
 

تعقيب على << التعليق >> حول : ورقة بيروت – برنامج اصلاحي متوسط الأمد للبنان بدعم دولي

زهير فياض

من الصعب، الفصل بين المسار السياسي والمسار الاقتصادي – الاجتماعي في حياة الدول، وكذلك يستحيل فصل كل هذه السياسات في جوانبها الاقتصادية والاجتماعية والتربوية والثقافية عن القواعد الايديولوجية والخلفية الفلسفية التي يرتكز عليها أي مشروع سياسي أو اقتصادي كما داخل حدود الدولة،كذلك في العلاقات بين الدول.  


لذلك يصبح من الضروري وضع ما يسمى "ورقة بيروت للاصلاح المتوسط الأمد" في اطار المنظومة الفكرية الاقتصادية التي ولدتها لتسهيل فهم ما وراء هذه الورقة وما تتضمنها من تفاصيل وما تقترحه من اجراءات للخروج (بين هلالين) من الأزمة الاقتصادية – الاجتماعية التي يتخبط فيها لبنان والتي هي أصلاً جزء من أزمة النظام السياسي وما تطرحه هذه الأزمة من اشكاليات حول الهوية وحول الدور أو الوظيفة لهذا الكيان منذ قيامه الى يومنا هذا.  


في ما يخص القسم الأول من الورقة الاصلاحية أي المقدمة السياسية أوافق د. أبو مصلح "أن قراءة التاريخ اللبناني االحديث ورؤية الواقع الراهن كما المستقبل ينسجم مع فكر وتوجهات جماعة 14 أذار وتوجيهات" اجماع واشنطن" لا بل أكثر من ذلك أقول: أن "ورقة بيروت الاصلاحية" المطروحة هي النسخة الاقتصادية لمشروع الوصاية الدولية الجديد على لبنان، في حين النسخة السياسية لهذا المشروع باتت معروفة المضامين والأهداف وما لفت انتباهي قول وزير المالية جهاد أزعور في معرض رده على سؤال حول التأخير في توزيع الورقة على الهيئات الاقتصادية والاجتماعية ومؤسسات المجتمع الأهلي  في مقابلة تلفزيونية في اطار برنامج "الأسبوع في ساعة" على محطة "نيو. تي.في" قوله بالحرف "أن الورقة كانت في طور الترجمة" أي أنها لم تكتب النسخة الأصلية منها باللغة العربية،في حين يريدون اقناع الناس أن هذه الورقة هي "صنع في لبنان" وأنها تلبي حاجات الاصلاح الداخلية وليس طلبات المؤسسات الدولية من البنك الدولي وغيرها من المؤسسات القابضة على أرواح شعوب الأرض.

  

أما فيما يخص القسم الثاني منها أي الخلفية الاقتصادية والتطورات الحديثة، أوافق د. أبو مصلح رأيه، وأضيف حقيقة ثابتة مفادها: ان السياسة التي يتم التسويق لانتهاجها حالياً تحت عناوين الاصلاح والتغيير والخروج من نفق الأزمات المتراكمة هي استمرار للسياسة نفسها التي تم التسويق لها في بداية التسعينيات تحت عناوين اعادة الاعمار والبناء والتطوير. ان هذه السياسة هي أقرب ما تكون الى النموذج الاقتصادي الليبرالي الجديد بأهدافه الحقيقية الكامنة في جوهر الأزمة الاقتصادية –الاجتماعية التي وصل اليها لبنان.  


وما ذكره التعليق في ان دفع دول العالم الثالث الى فخ المديونية كان سياسة استعمارية قديمة وتم تعميمها حديثاً في السبعينات من القرن الماضي، وهو سياسة امبريالية منذ النصف الثاني من القرن العشرين " هو كلام دقيق جداً.  


وأنا أوافق د. ابو مصلح ان الأزمة الاقتصادية الحالية التي نحن بصددها اليوم هي نتاج لمسار تراكمي من اجراءات اقتصادية أدت الى ما أدت اليه.


في قراءة القسم الثاني من الورقة يشير د. ابو مصلح الى أرقام توردها الورقة وفيها مقارنة حسابية تظهر ارتفاع نسبة الدين العام الى 170% من الناتج المحلي القائم، وارتفاع نسبة عجز الموازنة الى 24 % من هذا الناتج، وخدمة الدين الى 17 % قبل باريس 2 وانخفاض خدمة الدين العام الى 11 % من الناتج المحلي القائم، وانخفاض أخر لعجز الموازنة الى 8.5 % بعد باريس 2 حسب الورقة طبعاً.  


هنا أؤكد الخلاصة التي توصل اليها د. ابو مصلح حول عدم دقة هذه الأرقام، وأضيف أن ثمة مؤشرات مضللة تطرحها الحكومة نتيجة اعتمادها طريقة غير صحيحة لقياس كل هذه المؤشرات وخاصةً مؤشرات العجز.  


فالحكومة من خلال الورقة التي تطرحها تقيس عجز الموازنة كنسبة مئوية الى مجموع الانفاق من الموازنة، وهذا احتساب غير دقيق، وانما أيضاً غير صحيح لا بل مضلل ولا يعطي فكرة حقيقية عن حجم الضغوط التي يتسبب فيها العجز. فالعجز الاقتصادي الحقيقي هو عجز الخزينة وليس عجز الموازنة، ونسبته يجب أن تكون الى الناتج المحلي القائم وليس الى نفقات الموازنة، حيث يمكن أن تنخفض نسبة "العجز" الأخيرة هذه في حين تزداد الضغوط التضخمية الناتجة عن العجز. فعلى سبيل المثال اذا افترضنا أن الواردات في العام 2005 كانت 60مليار ليرة لبنانية وكانت النفقات 100 مليار نكون أمام عجز يساوي 40 مليار ليرة لبنانية وتكون نسبته 40 %، واذا افترضنا أن الواردات في العام 2006 أصبحت 200 مليار ليرة لبنانية والنفقات 300 مليار يكون العجز 100 مليار ونسبته 33 % فنلاحظ أن نسبة العجز انخفضت من 40 % الى 33 % أي أقل بسبع نقاط مما كانت عليه في العام 2005 ولكن في المقابل الضغوط التضخمية ارتفعت بنسبة مرتين ونصف.


 

هذا نموذج لسياسة التضليل المتبعة من قبل السلطة في لبنان.


غير أن المدخل الحقيقي لمقاربة الأزمة الاقتصادية الاجتماعية التي يتخبط فيها لبنان يجب أن يرتكز على قاعدتين أساسيتين نستطيع اختصارهما على الشكل التالي:  


أولاً: ان لب المشكلة الاقتصادية (والاجتماعية أيضاً) يكمن في انخفاض الانتاج الى مستوى هو أقل من قدرة البلاد الانتاجية، وهذا أدى الى حالة من الانكماش الاقتصادية، والى انحسار الدورة الانتاجية، مع تداعيات هذا الانكماش على الوضع الاقتصادي والاجتماعي العام، والذي تمثل جموداً في القطاعات الانتاجية أدى الى ارتفاع معدلات البطالة، وتفاقم مشكلة الأجور وفقدان القدرة الشرائية لشرائح واسعة من الفئات المنتجة، وارتفاع معدلات الأسعار ومؤشراتها، وزيادة كلفة الانتاج وغيرها من النتائج السلبية على الاقتصاد برمته.  


ثانياً: ان زيادة الانتاج عبر تشغيل الطاقات غير العاملة هي مدخل الحل للمشكلة الاقتصادية، ومن ثم المشكلة الاجتماعية لأنها تخلق فرص عمل جديدة.  


الا أن المسألة الأساسية التي تمحورت حولها كل السياسات الاقتصادية منذ الطائف وحتى اليوم، تتلخص في كيفية مقاربة هاتين القاعدتين، وفي اختلاف الرؤية حول سبل المعالجة الجذرية لجوهر الأزمة الاقتصادية الاجتماعية التي تفاقمت والتي وصلت اليوم الى حد الكارثة الاقتصادية، وبلغت سقوفاً خطيرة باتت تنبئ بعواقب اقتصادية وخيمة، وما تطرحه ما يسمى "ورقة بيروت الاصلاحية" تندرج في سياق الرؤية الاقتصادية ذاتها التي ساهمت في انتاج الأزمة.

 

في ما خص القسم الثالث من الورقة والذي حدد الهدف الأساسي لبرنامج الحكومة الاصلاحي ب. " وضع الدين العام الكبير في مسيرة تنازلية، كنسبة من الناتج المحلي القائم"، فواضح من خلال الآليات المطروحة أن العبء الأساسي سيكون على عاتق الفئات الفقيرة والمسحوقة وأصحاب الدخل المحدود، وما الأعمدة الخمسة التي يقوم عليها البرنامج الا الأعمدة التي ستعلق عليها أرواح الفقراء والمعوزين، وهي أي الأعمدة المذكورة استمرار للسياسات المعتمدة والتي تقوم على القواعد التالية:   


أولاً: ان الوسيلة الأمثل لزيادة الانتاج هي بزيادة الاستثمارات، والخاصة منها تحديداً حسب السياسة المعتمدة طبعاً.  


ثانياًً: ان أفضل الوسائل لزيادة الاستثمارات الخاصة وأنفعها لتحقيق زيادة الانتاج تكون –حسب السياسة نفسها - بتخفيف العبء الضريبي على من بيده قرار الاستثمار من أصحاب الأموال ( اقامة جنة ضريبية لهم) واغراء رؤوس الأموال ( وان كانت قصير الأجل وساخنة للمضاربة فقط) وبكافة الوسائل وبغض النظر عن ارتفاع الكلفة، وما الحديث عن رفع الضريبة على فوائد الودائع من 5 % الى 7 % الا لذر الرماد في العيون، لأن هذا الاجراء لن يؤمن سيولة للخزينة بالنسبة التي تتحدث الورقة عنها أي 1.5 %، وهو الى ذلك يبقى المستوى الأدنى في العالم، اضافة الى ذلك فهو يستتبع باجراءات أكثر ايلاماً للشرائح الشعبية تتمثل في زيادة الضريبة على القيمة المضافة من 10 الى 12 ومن ثم 15 %، وهذه الضريبة متحركة وتنتقل لتصيب بشكل  أساسي السلع الأساسية الضرورية بنسبة 80 % من قيم الاستهلاك العام للفئات الفقيرة.   


ثالثاً: تثبيت سعر صرف الليرة تجاه الدولار الأميركي، مهما كانت لمؤشرات الاقتصادية الحقيقية Real سلبية ، وبغض النظر عن ارتفاع الكلفة المباشرة، وغير المباشرة، المالية وغير المالية، واختيار الدولار الأميركي، وليس سلة عملات تمثل مستوردات لبنان، وكل ذلك باعتبار واحد أن الدولار الأميركي هو عملة أصحاب المال من مستثمرين ومضاربين.  


رابعاً: في موضوع اعادة هيكلة القطاع العام وضبط الانفاق وتجميد الرواتب والأجور: 


 يطرح هذا الموضوع ليس بهدف الحفاظ على دور الدولة الأساسي في حماية المجتمع  والحفاظ على المكتسبات التي حققها المواطن مع تطور مفهوم الدولة منذ عقود من دولة الأمن الى دولة تقوم بدور متقدم يتمثل في تحقيق التنمية الشاملة للموارد البشرية والطبيعية وتعميق مفهوم الدولة الحاضنة للانسان المهتمة بقضايا حياته الانسانية والاجتماعية المختلفة أي "أنسنة الدولة" بل تترافق دعوات الاصلاح في هذا القطاع مع تدمير منهجي لكل منظومة  "المفهوم الرعائي" للدولة التي ناضل الانسان من أجلها طويلاً في كافة أنحاء المعمورة.  


اضافة الى ذلك، ان محاولات ما يسمى "ترشيق" القطاع العام يجب أن تترافق مع اصلاح اداري جذري لبنية الادارة اللبنانية برمتها، والاصلاح الاداري لن يكون قابلاً للتنفيذ الا مع اصلاح سياسي جذري لكل بنية النظام، ومع هذا كله فان نتائج ترشيد الانفاق على أهميتها فهي لن تكون ذات نتيجة محسوسة لأن مجموع الرواتب والأجور والمخصصات يمثل فقط حوالي 23% من مجموع نفقات الموازنة في حين أن الفوائد المدفوعة على الدين العام أي ما يسمى خدمة الدين العام تصل الى ما يزيد عن 60 – 65 % من مجموع نفقات الموازنة.

 

في موضوع الخصخصة اضافة الى ما قاله د. غالب ابو مصلح، أقول أن الخصخصة كما هي مطروحة هي جزء من المؤامرة على الدولة في لبنان، وما يسترعي الانتباه أن الخصخصة في لبنان لم تطرح بهدف مواكبة النمو الاقتصادي وزيادة الانتاج عبر تشغيل الطاقات غير العاملة،فقد ورد في تحديد مهام المجلس الأعلى للخصخصة ما يلي: " مهمة بيع أصول المشروعات المملوكة للقطاع العام الى القطاع الخاص" وتحديد الهدف بأنه "استخدام الأموال العائدة من هذه المبيعات لخفض ديون القطاع العام ومعالجة النقص المزمن في الأموال".  



هذا التحديد منقوص ولا يأخذ الا بعداً أحادياً يشوه قضية الخصخصة برمتها، ويقفز على مسائل متعلقة بضرورة تحديد المعوقات في كل قطاع انتاجي على حدة قبل اتخاذ القرار بالخصخصة. والخصخصة بهذا المعنى ليست نموذجاً واحداً يصلح تعميمه على كل القطاعات الانتاجية فما يصح في قطاع الاتصالات لا يصح في قطاع الكهرباء وما يصح في قطاع النفط قد لا يصح في قطاعات أخرى.



وقد كانت هنالك في السنوات الماضية محاولات لمعالجة موضوع المديونية العامة وتداعياتها ولكن هذه المحاولات لم تنجح لأنها لم تكن تندرج في اطار برنامج اقتصادي اجتماعي شامل يتناول كل المسائل ومن جملتها موضوع الدين العام، فتم التركيز في بعض المراحل على التقشف و زيادة الضرائب في الموازنات العامة وخاصةً في أواخر التسعينيات. وبديهي أن تخفيض النفقات بشكل مفاجئ وضمن مهلة قصيرة لا بدّ وأن يصيب بالأولوية النفقات الاستثمارية لأن غالبية النفقات الجارية لها طبيعة النفقات التعاقدية (كالأجور والمعاشات والفوائد على الدين العام) أو لأنها تفيد مرجعيات تشكل قوى ضغط سياسية يصعب عدم إرضائها. كذلك، فإن زيادة الضرائب في وقت تشهد فيه البلاد ركوداً اقتصادياً كان من شأنه أن يفاقم حدة الأزمة الاقتصادية والمعيشية.   



ان المعالجة الجذرية لكل الازمة الاقتصادية لا تكون الا من خلال وضع استراتيجيات اقتصادية اجتماعية واضحة تكون القاعدة الأساس لأي تصورات واقعية لحلول تعالج بعمق مشاكل الجمود والركود في الدورات الاقتصادية الانتاجية ومسألة خلق الحوافز لتفعيل وتحفيز الاستثمارات بعد ايجاد الضوابط التي تشكل صمام الأمان الذي يراعي مصالح المجتمع والدولة، وبعد اخراج المسائل الاقتصادية من دائرة النقاش السياسي الضيق وتجاذبات الصراعات الداخلية التي عادةً ما تؤثر سلباً وتؤدي الى تراجع النمو الاقتصادي الى الوراء.





 

جميع الحقوق محفوظة © 2024 -- شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه