إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

متغيّرات حاقّة

الأمين شوقي خير الله ( أبو علي)

نسخة للطباعة 2006-04-30

عالم الألف الثالثة يتغيّر. وقادة التغيير هم أهل العلوم الطليعية الجديدة, وليسوا يبالون بعدً بالليل ولا بالبيداء, بل هم سادة العلم والتكنولوجيا برّا بحرا جوّا وكذلك في الفضاء الخارجي والشمسي. هم يخترعون, وهم مقتحمو المجاهيل, وهم الروّاد ومنهم كل قيدوم. لقد جسدّوا علما و تنظيرا أكثر العبارات المستحيلة وقد طالما صَُنّفت, في ثقافة الأمس وفي قاموسها, من بيئة الشعر والاوهام والتصوّف ومن قطاع الأحلام والأيمان بالغيب.


 

خلال العقدين الاخيرين من القرن العشرين حقّق العلمُ تصنيعَ الكمبيوتر آلة ًمسجِّلة ناطقة حافظة منسِّقة, ومحاسبة بجميع قواعد الحساب واساليبه, ومحِّللة ومصحِّحة ومخزِّنة ومستنتجة ًحصيلة َجميع العمليات التي صًُبّت فيها. فبمجرّد ان تنُضّد فيها عمليات متتالية, مهما تعددت وتنوعت, فالحصيلة جاهزة كلمح البصر. تلكم حضارة ُدوْتْ كُومْْ. قل هي بدايات لأهرامات من العلوم السالفة المجتباة ومن الفكر الممحّص ومن ثقافة الذرّة, والتواصل برغم مطلق حاجز او عائق. الإنترنت اختصر في ذاته التلغراف والتلفون والراديو والتلفاز والليزر والخلْيوي وكلّ هذه السلالة. والإنترنت دخل الى جميع الآرشيف المسموح في العالم, مع امكانية الترجمة من مطلق لغة الى مطلق لغة اياً كان الموضوع المسموح به لدى مالكيه. فيمكن القول اذن انّ الثقافة العالمية جميعا قد توحّدت او انها اهل للتوحيد ما ان يتقرر ذلك ويُتَّفق عليه.

 


ثقافة الإنترنت اذن هي اهل, ام في السياق, لإلغاء الهرمية العلمية الفوقية بقدر ما ان امكانية التواصل حقيقية وواقعة وما ان سرعة العملية تقارب لمح البصر!!!


 

فاين جيل الأمس من كتابةٍ ام صورة تلفّان الكرة الأرضية باقل ّمن لمحة ؟ وما محاسبة معقّدة بعدُ وما دراسات موثّقة واسانيد ورسائل وجداول ومراجع وتواريخ وخرائط واسماء وامكنة يتلقّفها, بكبسة زرّ, جهاز دون حجم الكتّيب, وقد استوعبها وهضمها بثانية وادنى, وبعصمة لا تخطر على العقل العتيق!!


 

هذه الثقافة تسيطر الآن بالتدرّج, بفضل سبقها الكاسح, على عالم المستقبل ومجتمعاته ودوله, وعلى حقائقه اسراره, وعلى الطاقة, النفطية وسواها : تنقيباً واستخراجا وتكريرا ونقلا وحماية واستهلاكا وتجارة وتقنينا وهيمنة عالمية. وكما على النفط كذلك على الذرّة وما يدور في افلاكها من علوم نافعة وضارّة, لا يزال اكثرها خفيّا ام تحت التجربة العلمية ودراسات جدواها.


 

 العالم الأول, في زماننا الراهن, يسيطر على هذه الثقافة بقيادة اميركا الطاغية , وبقدر ما انها = وأمثالها ومزاحميها القلائل = يقتحمون حيث لا يزال الآخرون مقصّرين.الا انّ اميركا ,الأولى بين متساوين!! راحت منذ الحرب العالمية الأولى فالثانية =1914-1918 ثم =1939-1945= راحت تخطط وتتصرّف كالسباقة وكالاقوى والأعلم بين اندادها, ثم زاحمت الأمبراطوريات الأروبية والآسيوية وورثتها, فأصبحت بالتالي هي الأكثر استهدافا عدوانيا من قِبل الذين لا يزالون يعارضون, او ينافسون, مشاريعها ويدافعون عن وجودهم ومكتسباتهم.هؤلاء صنّفتهم اميركا, بفوقية واستكبار, دكتاتوريين ممستبدّين او كفرة اومحور الشرّ, فيما يصفونها هم بمقلع الضلال والأسعمار لأسباب متعددة: اولها انها حليفة لأسرائيل وضدّ للعرب وضّد للعروبة والأسلام. هذه التهمة لعلها هي الأصدق والأعمق والأخطر بين ما اقترفته اميركا, ضدّ الحق وضد الله, في تاريخها. ولسوف ينخرها هذا الداء غدا, اكثر جدّا مما سبق ان نخرها واضرّ بها حربُها في فيتنام, العدوانية والمفتعلة وغير العادلة =كما يؤكد اكثر احرار الوجدان الأميركي العظام= بقدر ما انها زعزعت المجتمع الأميركيّ وشرذمته وخلخلت قيمه كما ولا مرة.

 


السلاح الأمضى ما بين الدول, في الصراع العلمي, منذ نهايات القرن العشرين, كان الذرّة والألكترونيات, والكمبيوتر- الإنترنت بخاصة. بفضل الإنترنت تمهّد العالم= قل دُحِيَ دَحْواً = فكانه اصبح وحيد المدى والأفق: فالكرة الأرضية تسطّحت. والحواجزالجغرافية فكأنها اضمحلّت. وكذلك امّحت مصاعب التحويلات المالية والمعاملات المصرفية والتجارية وموانع التواصل طرّا, إزاء طاقات الموجة الألكترونية. فقد صار بإمكان تاجر او شركة ان يتلقّى او يجيّر, من والى حيث يشاء, و في عملية واحدة, وبغير ما إذن من دولته ولا بعلمها, مبلغا ماليا يفوق موازنة دولته او اكثر. وذلك جميعا بغير ضريبة لأحد.

 


وسيطر على المكان والزمان ثقافةُ لمح البصر. وتقلّصت الفوارق الزمنية والعلمية بين اهل الأرض بقدر ما اتّسع تملّك الشعوب والدول لعلوم الألكترونيات والذرّة, ولأسرارها ولامكانياتها العملانية الباهرة ولأجهزهتها.!! التواصل ليلا نهارا صار ممكنا بوقت يقارب الصفر. ثُرى هل ثمّة من صفر في الوقتٌ ؟ وكم هو وقت لمح البصر؟


 

امتلاك هذه المنظومة التكنولوجية الغالبة اصبح هوالمعيار الحضاري والمسبار. وليس ولا يقهره اليومَ احد ولا شئ, في صناعة ام تجارة ام علم, سوى اعتماد =الرابوط = بديلا عن الأنسان. وهذا الرابوط هو قنة هذه الثقافة الطالعة والطاغية ما سوى انه ليس بخالق من ذاته, وانه ليس يفكّر من ذاته. ولكنه المنفذ الأمثل.


 

الرابوط ينفّذ بالتمام كما ُبرمَج ولُقّن, بغير خطأ, حتى لكأنه معصوم. و يعمل 24 ساعة في اليوم, وسبعا في الأسبوع وأبدا, بغير تعب ولا غذاء ولا نور ولا عيد ولا بطالة ولا راتب. بلى! خطؤه ممكن في المطلق, ولكنه يقارب الصفر ولقد يتعطّل كما كل آلة. ولذلك يكلَّف بمراقبته كمبيوتر مثله, ألكتروني ومبرمَج ولايخطئ فكانه معصوم ايضا. كلاهما, الرابوط ومراقبه, يتمتعان بكامل مواصفات "العصمة التقنية" !! والكمال لله. ولعلّ ثقافة الرابوط وسلالته هي عماد المستقبل جميعا!

 


وبعدُ, ما المستقبل ؟


 

المستقبل المرَتقَب هو عولمة ما : اندماج – تكامل- توحّدٌ, اقتصادي سياسي ثقافي حضاري, وربما جغرافي, يدفن الشوفينيات العرقية ومقولات الأعراق المختارة, والحدود العصية, والطبقية, والأديان المزيفة, والأنبياء الكذبة, فتزول جميعا من ثقافة الأنسان كما سبق ان تبخّرت الأساطير والأوهام العرقية والآلهة المزوّرون والحضارات البائدة والاقطاع وتجارة الرقيق والقرصنة.


 

الإنترنت حرّر, وسيعتق, الأنسانَ من الرّق الفكري ومن الف عبودية متكدّسة منذ مطالع التاريخ الجلي, ومن اغلال الهيمنات الأقتصادية والمالية والأقطاعية المعاصرة, بجميع الوانها وحيَلها وأكاذيبها ونفاقها وانيارها, الثقافية والمادية, العلنية والخفية.


 

الإنترنت سيتوّج جميع المحرّضات التحريرية السابقات المسيحية والأسلام, منذ اكتشاف النار والمعادن, وابتداع الأبجدية واالمجداف والشراع وصواري الزمان, وتكامل ملكة الكلام واللغة والبيان والتبيين, والتشريع المدني, واختراع العملة والمعاملات المصرفية, والمحراث والدولاب, وتدجين كراع الحيوان والجمل, وحتى عهود البخار والبارود والجاذبية والكهرباء والنفط ومشتقّاتهن, والرادار والليزر والذرّة.


 

وحتى الهيدروجين الذي لُجمَ وسيدُجِّن, غداةَ غدٍ، بديلاُ عن النفط واخواته. ومن يدري كم ستُستغَلّ في المستقبل طاقاتُ المياه والشمس والهواء ؟


 

ما هنّ برؤى وهمية ولا مستحيلة نتوهمها بل يقين علميّ ملموس بدأ اكثره يتحقق في التجارب العلمية الحالية والعملانية, مهما غلّفت السريةُُُ تطوّرالتجارب وجدواها.


 

الإنترنت اوشك ان يمحو – حتى الصفر!- المسافة والمكان والوقت, وان يغلب كل صعوبة من ظلمة او طقس او مناخ.

 


الانترنت ألغى, بعمره القصير هذا, أكثر مشقات انظومة تصنيع بالجملة وتعليب وتوضيب وتحميل وشحن ونقل وتنزيل وإدارةٍ وتخزين ومحاسبة وإحصاء وتفتيش وتحقق ميداني. الإنترنت الغى, حتى التسعين بالمئة واكثر, انظومة المكاتب والقلم والورقة والهاتف والدكتيلو ومشتقاتهن, والسجلاّت الورقية والأضبارات. الوصف السائر اليوم ان العالم موشك على إلغاء المكتب المعروف, والقلمِ والحبر, وتكديس الورق وتحبير السجلات, والممحاة والمسطرة, واغلب عجقة المكاتب والادارة ولوازمها, وقد كنّ حتى امس الأقرب عدّة للمفاخرة والترف المستعلي وللمباهلة الأرستقراطية.


العالم, بفضل الإنترنت, يتّجه نحو شركة ذات مكاتب غير ثابتة, بل متنقلة ومنتشرة حتى في المنازل والسيارة, وفي بلدان وقارّات متعددة.


 

فكم هو لبنان متأهّل في عامنا هذا =2006 = للعصر الجديد المحتّم, وقد انطلق فعلا عند سوانا, بل راح يوحّد كلّيّا ما بين القطبين, اي بين السويد وكندا وولاية اميركية واخرى هندية وارجنتينية واسترالية ويابانية, متباعدات اكثر من نصف الكرة الأرضية؟ فهل العرب " في لبنان, وفي المشرق العربي الموحَّد, وفي العالم العربي المتّحد" مستعدّون لهذه الرتبة التكنولوجية والسياسية فيما بينهم, الحاقّة و التي لا مهرب منها ولا مناصّ؟ والاّ فكيف سينتمون الى العالم الألكتروني الموحّد والمعولم ؟؟


 

هل سنطمرعقولنا القروسيطة المتخلّفة والأنتدابية والعسملية والنياندرتالية في رمالنا القطرية والكيانية والعرقية والطائفية والمذهبية, ونصمّ اذاننا ونغمض عيوننا, ونبقى صُمّاً بكماً عمياً يقودهم عميان؟ ولعلّكم تعرفون المصير!! اسألوا المسيح عيسى ابن مريم!! لقد نبّه صالبيه العميان, الذين يقودهم عميان كذابون ومنافقون, الى ان مصيرهم كليهما فالى الهاوية, وبئس القرار!!


يقيننا انّ هذه الهاوية محفورة منذ بدء العالم, ومقدّرة تقديرا مقضيا, لكل شعب جهول!! ومتى أقامت الجهالة امة او وطنا؟


 

وكذلك العزّ :فانما العزّ معلّق على صواري الزمان بفضل المعرفة والعلم والحرية والنظام.


وبعدُ, ما الحرية؟ الحرّيّة هي خيار عاقل يتدبره ذوو الألباب والنخوة إما يعقلون.






 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024