إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

بين الأمس واليوم

عبد بصل

نسخة للطباعة 2005-01-29

إقرأ ايضاً


إذا كان لاتفاق الطائف من حسنات، فحسنته الوحيدة أنه شكّل مدخلاً لولوج السلم الأهلي في لبنان، لكن إذا تكلمنا عن سيئاته، فهي لا تعد ولا تحصى، وفي مقدمة هذه السيئات أنه شرعن الطائفية والطوائف، ونقلنا من ميثاق 1943، القائم على تسوية طائفية الى تسوية طائفية جديدة، كرّست إمارة الطوائف والمذاهب، وقضت على آمال المواطنة الصحيحة، ليصبح المواطن مأزوماً ومحبطا وغارقاً في همومه ومشاكله الحياتية والمعيشية، والاقتصادية والديون الخارجية، والجنة الضرائبية.

بين الماضي القريب، حيث كانت "شريعة" الطوائف والمذاهب وأمراء المليشيات والكانتونات، وبين اليوم، لم يتغير شيء. إذ على المواطن أن يتدبّر أمره، وحيداً، لأن لا دولة تحميه أو ترعاه.. عليه أن يحمي نفسه ويحتاط للأمر، ويواجه قدره.. وقد اعتاد هذا الواقع وأدمنه، بعد أن عايشه لسنين طوال، حيث يدهمه الجوع في كل لحظة، في ظل أعباء كبيرة تطاله، بدءاً من همّ تشريد تلميذ من مدرسته، وطالب من جامعته، وعامل من عمله، وضرائب حاقدة قد نبتت أسنانها ليصبح الفساد ميزة، تطبع سلوك طبقة أو جماعة هنا، وجهة نافذة هناك.

"ما أشبه اليوم بالأمس"، عبارة درجنا عليها بعد أن أدمنّا واقعاً مستنسخاً لا يزول ولا يحول. ونحن لا حول ولا.. وتظلّ الأمور هي هي. ولكننا لن نكون منصفين لو حاولنا أن ندخل بالمقارنة.

أما اليوم، فإننا نستطيع أن نتنفس الصعداء، فقد كسـرنا طوق الرتابة في تناسـخ الأيام، إذ أصبحنا، كل يوم في شأن جديد، وخبر جديد. بل في كل ساعة تطور جديد. حتى أننا لا نستطيع أن نلحق بالأخبار والأحداث المتسارعة، ويبقى العنوان الأبرز لكل هذا، "المفاجأة".

وطبعاً، لا نتكلم هنا عن إيجابيات. الشيء الوحيد الذي أدمنّا عليه وتعوّدناه، هو ألا نتوقـع إلاّ الأسوأ. ولم تخطئ توقعاتنا يوما. حتى أننا لو سمعنا خبراً مفرحاً، ولا ندري من أين قد يأتي؟!! ولكن لنفترض هذا من موقع المتفائل، فهل نقدر أن نفرح؟! أم أننا نرتاب ونتوجس أكثر فاكثر، من منطلق "اسمع تفرح جرّب تنـدم"، ونحن أعلم الناس بشـعاب التجارب المريرة مع فارق بسيط، أننا لا نندم. إذ أن الندم هو حالة إنسانية متقدمة، حيث يصحو فيها الضمير، ويشرع في محاولة منه أن يصحح الأخطاء التي ارتكبها، شرط إلا تكون من الأخطاء المميتة.

نحن في ـ تجاربنا الطويلة ـ نسينا كيف يكون الندم، ونبحث عنه في أروقة المكاتب والمحسوبيات، وفي دهاليز الطائفية والمذهبية والفئوية والعصبية، والنفعية والأنانية وغيرها من المعوّقات التي تشدنا الى حضيض الإفلاس الذي نعيش تداعياته اليوم على جميع الصعد (من قال ان "دراكولا" اسطورة خيالية)… وأما نحن، فقد تعوّدنا أن نسير مع التيار بانصياع، وقد حفظنا كل المصطلحات والأمثال الانهزامية والغائيّة، وسلّمنا بالأمر الواقع، ومشينا مع الركب لنتعلم "من أين تؤكل الكتف". وحفظنا كل مسالك الشطارة والحنكة، و"الحـربقة" والحرتقة والحركشة والفركشة، … وأن " الشاطر بشطارتو"، "الشاطر ما يموت"، "ما بياكلها إلا الشـاطر"، "إن لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب"، "خربت عمرت حادت عن ظهري بسيطة"، "اللي بياخذ أمي بعيّطلو يا عمّي"، "الأهبل لشـو عيشتو" (أي الشخص الآدمي)، الى آخر النشاز الذي "ينغل" في مجتمعنا، وينمو فيه كالفطر السام، وينذرنا بالموات، الذي نغرق فيه يوماً بعد يوم.

كل هذا، لم يرفعنا الى درجة المواطن "الفلهوي" الذي "بياكلها من تم السبع"، إنما يعيدنا الى حضيض واقعنا المزري، فنشرع نركض في كل الاتجاهات، نبحث عن لقمة الخبز وقسط المدرسة، وتنهكنا الضرائب والفواتير على أشـكالها وأنواعها وحتى ألوانها، وتصدمنا الأرقام التي نتلعثم في تهجئة أعدادها، ونشعر بذاتنـا أننا في عالم منسي خارج الزمان والمكان، وكأننا لسنا نحن. هذا غيض من فيض، والبقية تأتي.. والآتي أعظم؟!.





 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024