إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

في رحاب سعادة: دلنا على سر من خانوك ومن خذلوك ومن قتلوك

نضال القادري

نسخة للطباعة 2009-07-09

إقرأ ايضاً


ولد في الأول من آذار عام 1904 في بلدة الشوير - جبل لبنان . والده الدكتور خليل سعادة، طبيب، وصحافي معروف، كاتب ومترجم، وله قاموس شهير إنكليزي – عربي. والدته السيدة نايفة نصير خنيصر من مواليد الشوير، هاجرت أسرتها في أواخر القرن التاسع إلى الولايات المتحدة. توفيت عام 1913 في القاهرة أثناء وجود العائلة هناك. تخرج والده من الكلية السورية الإنجيلية في بيروت حاملا شهادة الطب عام 1883 م. بدأ حياته الأدبية بالمساهمة في تحرير مجلة "الطبيب"، ومارس العمل السياسي بدلا من الطب، مبتدءا من مراسلة جريدة التايمز الإنكليزية ثم أجبر على مغادرة الوطن إلى مصر عام 1909 بعد مؤامرة لاغتياله إثر كتاب مفتوح نشره في جريدة "لسان الحال". مؤلفاته عديدة أشهرها: القاموس الإنكليزي العربي، رواية كليوباترا بالإنكليزية، ترجمة إنجيل برنابا، الأمير السوري.

تلقى أنطون سعادة علومه الأولى في مدرسة "الفرير" في القاهرة، وبعد وفاة والدته عاد إلى الوطن ليعيش في كنف جدته حيث سافر والده للعمل في الأرجنتين، وأكمل علومه في مدرسة برمانا، وفيها سجل أبكر مواقفه القومية ضد الاستعمار حيث قام بإنزال العلم التركي عن سارية المدرسة ومزقه وذلك عندما قرر جمال باشا القيام بزيارة رسمية لمدرسة برمانا. ظن أستاذه "وديع" أن إبراز تلميذه المميز أنطون سعادة فكرة جيدة في مناسبة كهذه يقوم بها، وذلك بمنحه شرف حمل "العلم العثماني" عند استقبال الضيف، ولكن الفتى أنطون خّيب أمل معلمه، فما كان منه إلا أن رمى بالعلم أرضا مباغتا الجميع، وعند سؤال الأستاذ عن سبب هذا التصرف أجابه الفتى أنطون بجدارة العارف:"إنسان هتك أمتي ما بقعد تحت بيرقو"!! عام 1919 هاجر مع أخوته إلى خاله في الولايات المتحدة الأميركية، وهناك عمل عدة أشهر في محطة للقطارات ريثما ينتقل إلى البرازيل حيث المقر الجديد لعمل والده. في البرازيل التي هاجر إليها في 7 شباط من عام 1921 م تابع أخوته دراستهم بينما انصرف أنطون لمعاونة أبيه الذي أصدر جريدة الجريدة، فتعلم مهنة التنضيد وساهم في التحرير والإدارة و هو في السابعة عشر من عمره. قام أيضا بدراسة اللغات البرتغالية والإسبانية والإيطالية درسا ذاتيا، وكان يجيد في ذلك الوقت العربية والإنكليزية والفرنسية، وما كاد يمر عليه سنة حتى أصبح اسمه في الأندية و في أوساط الجالية السورية نتيجة المقالات التي كان يكتبها، فظهرت كتاباته الأولى عندما كان في الثامنة عشرة من عمره. ونشر خلال عامي 1922 و1923 عدة مقالات طالب فيها بإنهاء الاحتلال الفرنسي واستقلال سوريا، وكان أول من استشرف مشروع الحـركة الصهيونية وخطره على سوريا الطبيعية رابطاً بين وعد بلفور بـ "وطن قومي لليهود في فلسطين" وبين اتفاقية سايكس – بيكو التي قسمت سوريا الطبيعية إلى خمس كيانات ، وكان من جرائها سلخ 180 ألف كلم مربع من أراضيها وإخضاعها للاحتلال التركي، إضافة إلى إخضاع الأهواز للاحتلال الإيراني .

في مطالعتك لجريدة الجريدة نجد أولى مقالاته تحت عنوان "معركة جوتلاند" ، ثم مذكرات ولي عهد ألمانيا وهي مترجمة مما يدلنا على أن بداية أعماله كانت بالترجمة وفي حزيران 1921 تظهر مقالاته التي تعالج شؤون الوطن منها: آمال الوطن – الوطنية – غورو وسورية – الوحدة السورية ومخاوف اللبنانيين. تستمر الجريدة بالصدور حتى 1923 حيث تتوقف وينتقل نشاط أنطون إلى مجلة المجلة التي أسسها والده في بيونس آيرس وفي هذا العام يكتب خمسة مقالات هي: ذكرى الوطن والأهل – الحرية وأم الحرية ( يتناول فيها الثورة الفرنسية) – ذكرى صديق – أما الرابع والخامس فذات موضوع عالمي يعالجان السياسة الخارجية الأوروبية. وفي عام 1924 يكتب سعادة: "القضية الوطنية" وفي هذا المقال يبرز جليا فكرة الوطن السوري والحدود الطبيعية للمرة الأولى . وفي ذات العام كتب "الخلافة في الإسلام"، " سقوط الولايات المتحدة من عالم الإنسانية الأدبي"، الانقلابات الجديدة" ،" جمعية الأمم وأبطال التعدي"، "في السياسة الأوروبية، "مسائل دقيقة جدا"،" الفنون الجميلة، فن الغناء"، "نظام الحكومات"، "مباحث عمرانية"،"عيوب الرقص والمراقص"، "سقوط وزارة العمال في بريطانيا"، "كيفية الانتخاب في الولايات المتحدة"،" العمال والبلاشفة"، "محافظو بريطانيا ومصر". حاول عام 1925 تأليف حزب لتوحيد أبناء الجالية السورية في البرازيل باسم "الشبيبة الفدائية السورية"، لكنه لم يلاق نجاحاً. وأعاد المحاولة عام1927 فأسس "حزب السوريين الأحرار"، الذي توقف نشاطه بعد ثلاث سنوات .وإثر توقف مجلة المجلة عن الصدور عام 1928، انصرف أنطون سعادة إلى التعليم في بعض المعاهد السورية في سان باولو، كما شارك في بعض اللجان التربوية التي أقامتها الحكومة البرازيلية للإشراف على تطوير المناهج التعليمية، وفي هذه الفترة كتب رواية "فاجعة حب" التي نشرت فيما بعد في بيروت، وفي صيف1931 أصدر روايته الثانية "عيد سيدة صيدنايا". بعد عشر سنوات من الغياب عن الوطن عاد سعادة عام 1930، وصل بيروت في 30 تموز وكانت عودته استجابة لاستغاثة أمته وأ قام أعظم نهضة في تاريخ سورية وكانت إجابته صريحة وواضحة لمن يسأله هذا السؤال: لماذا عدت يا أنطون فيجيب: جئت أنشئ حزبا ينهض بأمتي و بلادي ودائما كان يأتيه الجواب من الأجدر بك أن تعود من حيث أتيت. بدأ بث أفكاره ولمس تقبلا لها من ثلاثة أشخاص هم وديع الياس مجاعص ونسيب همام طالب، وجميل عبدو صوايا. وفي صيف 1930 يتجه سعادة إلى دمشق هادفا الانضمام إلى قافلة الكتلة الوطنية التي يرأسها إبراهيم هنانو وساهم فيها الأتاسي آملا ً أن يضيف إليها إمكانياته فيزيد من قوتها و فعاليتها. وشغل وظيفة مدرس للغة الإنكليزية في مدرسة الجامعة العلمية ثم غادرها ليلتحق بجريدة "اليوم " الخاصة بالكتلة الوطنية ليتولى فيها قسم الترجمة وأسندت إليه في البداية ترجمة رواية "ليدي ستانهوب" إلا أن هذا العمل لم يمنعه من الاحتكاك برجال الصحافة في دمشق فنراه يكتب مقالا ً في جريدة القبس بعنوان "المناطق الأجنبية المستقلة في سورية" ونشر " كتاب مفتوح إلى لويد جورج" في جريدة ألف باء في 18 أيار 1931، أما عن المقالات التي كتبها في جريدة اليوم فهي :"خطر الحرب في الشرق الأقصى" و " الغول الروسي ومشروع السنين الخمس"،" تفاقم الثورة في قبرص"، "موقف فرنسا من سورية"،" تشكيلات الحزب الشيوعي في الهند"، "المؤتمر البلقاني الثاني"، "حالة ألمانيا الداخلية "، "موقف أميركا من أوروبا، شريعة مونرو". تم الاتفاق مع رئيس المجمع على أن يلقي أنطون محاضرة في المجمع بعنوان "مبادئ أساسية في التربية القومية"، وهي مقسمة إلى ثلاثة أبواب الأمة، المبادئ العنصرية، المبادئ الدينية وهي منشورة اليوم في الجزء الأول من الآثار الكاملة. إلا أن رئيس المجمع العلمي العربي السيد "محمد كرد علي" الذي كان حينها وزيراً للمعارف في الحكومة السورية المؤقتة وبعد اطلاعه على المحاضرة رفض السماح لأنطون سعادة بإلقائها بحجة أن فيها أفكاراً تحث على التمرد ومخالفة للإنتظام العام يحب نزعها من المحاضرة. رجالات الكتلة الوطنية رأوا فيه رجلا ً ذكيا غريب الأطوار، فنظرياته السياسية مبتكرة لا تخلو من الغرابة، وأنطون سعادة لاحظ أن همهم الوحيد هو ممارسة العمل السياسي ضد المحتل وافتقادهم لوجهة عمل اجتماعية اقتصادية منظمة ومنتظمة .

عاد سعادة إلى بيروت في صيف العام 1931 فطبع قصتين هما "فاجعة حب" و "عيد سيدة صيدنايا". وفي ذلك الصيف أيضا بنى العرزال في الشوير فجعله مسكنا له ليدرس ويتأمل ويستكمل التحقيق والتدقيق في موضوع الهوية ووضع أسس النجاة. وبدأ بإعطاء دروس من خارج الملاك في اللغة الألمانية في الجامعة الأميركية. وقد أتاح له التدريس ساحة واسعة للحوار الفكري مع الطلبة والوسط الثقافي، إضافة إلى منابر فكرية أتاحتها له عدة جمعيات ثقافية في بيروت، منها: العروة الوثقى، جمعية الاجتهاد الروحي للشبيبة، "النادي الفلسطيني". وقد حفلت هذه المحاضرات بإرهاصات فكره القومي الإجتماعي في مرحلة ما قبل إعلان الحزب، وهو ما تمخض عنه فيما بعد العقيدة القومية الاجتماعية، المنهج الفكري للحزب السوري القومي الاجتماعي الذي أسسه في 16 تشرين الثاني 1932، وكان حزباً سرياً بسبب الظروف الصعبة الناجمة عن الانتداب الفرنسي على لبنان والشام في أن معا. لقد اختار من بين كل الذين أوصل أفكاره إليهم خمسة أشخاص فقط ليكوّن منهم نواة الحزب كنخبة مثقفة متجانسة مندفعة للعمل ومؤمنة إيمانا عميقا بالفكر القومي الاجتماعي حينها، وهم : جميل صوايا، وديع تلحوق، زهاء الدين حمود، فؤاد جرجس حداد، جورج عبد المسيح. وفي عام 1933 أعـاد أنطون سعادة إصدار "مجلة المجلة" في بيروت لتساهم في توضيح أسس النهضة السورية القومية الاجتماعية، وعلى صفحاتها ظهرت في الوطن، ولأول مرة، دراسات تحليلية لموضوع "الأمة" استناداً إلى علم الاجتماع الحديث، وبرؤية مستقلة عن نظريات الغرب التي فلسفت الأمة من منظورعرقي ، ديني، وسياسي أحياناً أخرى .أما في حزيران عام 1935، وبعد أن أصبح انتشار الحزب ملموساً في الأوساط الشبابية والثقافية، أقام سعادة الاجتماع العام الأول رغم سرية الحزب، وفي هذا الاجتماع ألقى خطاباً مكتوباً هـو من أهم الوثائق الفكرية في العقيدة السورية القومية الاجتماعية، ودليل عمل حركة النهضة القومية الاجتماعية التي يهدف إليها الحزب. سلطات الانتداب سرعان ما اكتشفت أمر الحزب نتيجة معلومة نقلها رئيس الجامعة الأميركية البروفسور "بايار خودج" إلى السلطة الفرنسية، فاعتقلت سعادة وعدداً من الأعضاء بتهمة تشكيل جمعية سرية والإخلال بالأمن العام والإضرار بأمن الدولة وتغيير شكل الحكم، وكان هذا الاعتقال الامتحان الأول لمتانة الحزب بعد التأسيس. خلال تجربة السجن، ومن ثم المحاكمات، ظهرت ميزات شخصية سعادة، كمفكر وزعيم نهضة، حيث أعلن لمعتقليه مسؤوليته الكاملة عن تأسيس الحزب شفوياً وخطياً ووقع على بتوقيعه. وخلال هذه المحاكمة تحول سعادة من مدعى عليه إلى مدعي وممثل للحق القومي، وفي دفاعه عن الحزب قال: "أنا متهم بخرق وحدة البلاد الجغرافية وانتهاك حرمة الأرض"، فأراني مضطرا علميا للقول: "إن خرق وحدة وطننا القومية وانتهاك حرمة أرضنا قد تما بالفعل في سان ريمو وسيفر ولوزان، والمسؤولين عن ذلك هم غير الحزب السوري القومي الاجتماعي". أصدرت سلطات الانتداب الفرنسي القرار بسجنه ستة أشهر، وقد تم ذلك بالفعل، أكمل خلالها كتابة مؤلفه العلمي "نشوء الأمم" الذي صدرت طبعته الأولى عام 1938، وهو في رأي الدارسين أول كتاب في علم الاجتماع باللغة العربية في العصر الحديث. وخرج سعادة من السجن في 12 أيار 1936 .إن النهضة برأينا كما عايشها سعادة، هي محصّل فلسفة تاريخنا ومستقبلنا، وهي نبراسنا، وإن ملكوت النهضة نبراس لمن لهم عيون تبصر ولمن يعايشون الرؤى السعيدة التي تستحقها أمتنا، وعلى خسبة إعدامه لا يسع القاصى والداني إلا أن يقول له: إليك تتدافع قبائل الأمل وأنت المسيج بعشق مفتون يعالي الضباب وينهمر مع البرد المزنر بأحلام التجدد والقيامة.

سعادة: هذا الرجل الكبير لا ينتهي بمأتم، والسؤال الكبير لا تجيبه الكلمات!! أنطون سعادة الذي قدر له أن يشعل البرق يوما، هو صاحب نظرية تتجاوز الأنا، تتحول من ذات تابعة إلى ذات تتيح المعرفة والتحليل، كان مفكرا نقديا معاصرا بامتياز، استطاع أن يؤسس لنهضة تتخطى كل القارات الطائفية والعشائرية، ولكنه ظلم كثيرا، فبعض رفقائه كان يسرد فكره بشكل كنسي، وبعض العرب نظروا إليه كحزبي سياسي، وليس كباعث فكر نهضوي وعقيدة شاملة في كل مناحي الخير والحق والجمال، فلذلك إن مسيرة إنصاف أنطون سعادة تبدأ في حزبه أولا، وفي المجتمع ثانيا، واكتشاف فكر أنطون سعادة يكون باستنباط المنهج الذي ارتكز عليه وليس بقراءة النصوص بطريقة جامدة.

في ذكرى استشهاد سعادة نحن السوريون القوميون الإجتماعيون نصر على القول: إننا كنا نعلم علم اليقين أن الصفوف الأمامية المقسمة، غير جديرة بالانتصار، تسير الى المجابهة بلا قضية واحدة ولا ايمان واحد، بلا هوية واحدة. ونحن الذين ما فرطنا يوما بالقضية وبالإيمان وبالهوية الواحدة. نحن حراس الايام البيض الآتية! في الختام، يحتدم السؤال: هل هذا الزمن يصلح لما بدأه سعادة؟ الجواب: إن الذين يتنفسون معنى واحدا للإرادة، ويرسمون نصب أعينهم أفقا واحدا للخيار.."نحن" في الحزب السوري القومي الإجتماعي من يصلح الزمن كي يليق أبدا بسعادة.

إذا جاز حسن السؤال فلنسأل: هل أن سعاده بقي مادة للعبرة والاستذكار في بيئة يسودها القلق والضياع والتخبط الفكري، أم منارة فكرية وغذاء عقلي روحي في بيئة تعج بالتحديات الكبرى؟ وإني لأسأل، بل لجازم، أن وجه الشبه الواحد بين إنتشار الحركة السورية القومية الإجتماعية ونموها وبين إنتشار المسيحية ونموها أيضا واقع متأصل!! لقد صلب السيد المسيح في العام 30 بعد ميلاده ولم ينته تلامذته من كتابة الأناجيل إلا بعد 70 عاما كما يقدر اللاهوتيون، وطوال ذلك الوقت مورست أبشع أنواع الإضطهاد بحق التلاميذ والأتباع، وفي كل مرة كانوا يخرجون أصلب عودا وأشد إيمانا. وبعد ثلاثة قرون ونصف اعتنقت الأمبروطورية الرومانية، المسيحية دينا رسميا لها، وانحنى الإمبراطور أمام هامة المصلوب. وأنت يا سعادة، دلنا على سر من خانوك ومن خذلوك ومن قتلوك!! وما قتلوك وما صلبوك!! دلني فيك يا أنطون على وطني كي أعرف أن بحبرك ينكسر الموت ويحلو الإنتصار.


 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024