إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

مدارات (قبل اليسار واليمين) بقلم ادونيس

أدونيس

نسخة للطباعة 2005-07-28


- 1 –



الياس خوري و«المجموعة»


«المجموعة التي جعلت من شارل مالك إمامها الفكري»: هكذا وصف الياس خوري أعضاء حركة مجلة «شعر»، مستثنياً عصام محفوظ «اليساري في وسط» هذه المجموعة. (ملحق النهار الأدبي، الأحد 17 تموز/ يوليو 2005).


هذه جملة قد يمرّ بها القارئ من دون اهتمام. أنا نفسي، لم أكن لأهتم بها لو لم يكن الياس خوري قائلها. خصوصاً انه يقولها باسم «يسارية» يُفترض بأصحابها أن يؤسسوا لأخلاقية جديدة، معرفية وكتابية، وأن يصدروا في أحكامهم عن دقة وموضوعية، وعن احترام كامل للحقيقة. إنها جملة تتضمن حكماً تعميمياً ظالماً وخاطئاً:


يربط هذا الحكم، من الناحية الأولى، بين أمرين لا رابط بينهما: مجلة «شعر» وفكر شارل مالك. وفي هذا ما يشوّه هوية هذه المجلة، ورسالتها، ويختلق لها انتماءً باطلاً.


أما من الناحية الثانية، فنسأل:


هل كان أنسي الحاج، مثلاً، وهو من «المجموعة»، يتخذ من شارل مالك «إماماً فكرياً»؟ والسؤال نفسه يُطرح في ما يخصّ شوقي أبي شقرا؟


أما كاتب هذه السطور فلم يكن بينه وبين شارل مالك، مع تقدير مكانته الفكرية واحترامها، أي تواصل سياسي أو فكري أو شعري.


حتى يوسف الخال نفسه، كان يقيم بينه وبين شارل مالك مسافة للاختلاف، على رغم اعترافه بتتلمذه عليه وتأثره به. وهي شبيهة بالمسافة التي يقيمها الياس خوري نفسه في عمله مع غسان تويني الذي يعترف هو كذلك بتتلمذه على شارل مالك وتأثره به.


ما الذي يدفع إذاً الياس خوري الى أن يتحدث بهذه اللهجة عن مجلة «شعر»، مُطلقاً عليها وعلى صانعيها هذا الحكم؟ وما يعقّد الدلالة في هذا الحكم هو أنه يندرج في إطار الأحكام الشائعة التي تملأ الحياة الثقافية العربية، وتفسد العلاقات، والمعايير، والقيم. ذلك انها تصدر عن عقلية «دينية» تقسم الوجود الى قسمين: خير وشرّ، جنة وجحيم، يسار ويمين، بريء ومتهم... الخ. وهي عقلية أثبتت تاريخياً، وتثبت، حاضراً، أن التاريخ، كمثل السياسة، ليس، أحياناً، إلا «مملكة من الكذب»، لكي نستعير ما يقوله مارغو يوسّا عن الرواية (الملحق، العدد نفسه).


لكن، لماذا يُحكم باسم «اليسار»، كما يحكم باسم «اليمين»، أعني بطريقة ملتبسة وتشويهية تتيح وصف «يسارية» هذا اليسار، كمثل «يمينية» اليمين، بأنها، هي الأخرى، «مملكة من الكذب»؟


وما تكون قيمة ما نفعله، وما نعمل لأجله، إذا كنا نحارب كذب اليمين، بكذب آخر «يساري»، أو إذا استخدمنا لغة اليمين ذاتها – لغة الاتهام، والتجريح، وهما نوعٌ آخر من «العنف» و»القتل»؟ فالباطل، أياً كان، عنفٌ آخر، وقتلٌ آخر.


وهل نكون آنذاك في موقف من يدافع، حقاً، عن الإنسان، وعن كرامته، وعن حقوقه وحرياته؟ نعم، قبل السياسة، وقبل السلطة،


وقبل اليمين واليسار: الإنسان، والحقيقة، والحرية.


- 2 –



هل الابتذال قيمة فنية؟


نقرأ، نلاحظ، نتأمل، نصغي، نناقش، نكتب.


يجب، اليوم، بخاصة، أن نضيف: نخلق.


بخاصة: لأن العربي، سابقاً، كان ينفر من هذه الكلمة، إجمالاً. (الخلقُ لله، وحده). ذلك أنه كان ممتلئاً، بوعيه ولا وعيه، بأن كل شيء خُلِق كاملاً، قبله، حتى الشعر نفسه. وما عليه هو إلا أن يُحاكي ذلك «الخَلْق»، وأن «يَبْرَع» في هذه المحاكاة.


في مثل هذه المحاكاة ما يتيح أن نطرح سؤالاً هو: هل يمكن «الابتذال» أن يكون قيمة فنية، أو قيمة، بحصر الكلمة؟ وهو سؤال يسوّغه كلامٌ للمفكر الفرنسي جان بودريار يقول فيه إن «الحداثة ابتذال»، ويرى بوصفها كذلك أن الرسام الأميركي آندري فارهول (warhol) «مؤسس للحداثة». فقد «حررنا من الإستاطيقا ومن الفن»، كما يقول، متابعاً: «وذهب الى الحد الأقصى في إلغاء ذاتية الفنان، وفي إلغاء وظيفة الفعل الإبداعي». ويصف بودريار، انطلاقاً من ذلك، جميع الأشخاص الذين يمارسون الفن، اليوم، بأنهم «لا يمتلكون أية بارقة فكرية أو أية محاكمة عقلية»، وبأن كلاً منهم «يحاكي» فارهول ويقول عملياً ما يقوله: «أنا مجرد آلة. أنا لا شيء».


*


في الكتابة الشعرية العربية، اليوم، ما يتصادى مع أشياء كثيرة يقولها بودريار عن الفن الغربي الحديث، وفي المقدمة» القضاء على الذاتية، وعلى الجمالية، وعلى الفنية.


- 3 –



«الوطني» و«الأجنبي»


تنشأ اليوم في البلدان العربية ظاهرة جديدة تتصل بطبيعة العلاقة بين مفهومَيْ: «الوطني» و«الأجنبي».وهي ظاهرة تنهض على نوع من التعاون ما بين ما يُعدّ «وطنياً»، وما يُعَدُّ «أجنبياً»، خصوصاً في كل ما يتعلق بالديموقراطية وحقوق الانسان، وبالتحرر من الطغيان إجمالاً، في مختلف أشكاله ومستوياته.


وقد عرفت البلدان العربية منذ زمن تداخل الوطني والأجنبي، في الاقتصاد والسياسة، وها هي تتخطى ذلك الى الثقافة والقيم الخاصة باحترام الإنسان والكرامة البشرية وتعزيز الحياة الكريمة الحرة. ففي هذا كله، لم تعد النظرة الى «الأجنبي»، كما يبدو، مثلما كانت سابقاً. فقد أصبح، اليوم، «شريكاً» في الدفاع عن الحرية داخل «الوطن»، وفي بناء عالم أكثر إنسانية. كأن «الأجنبي» يُصبح امتداداً للوطني، على أكثر من صعيد، أو تنويعاً عليه. وقد يكون في «الوطني» ما يُعدّ في نظر بعضهم أكثر أجنبية من أي أجنبي.


هكذا تنشأ «لغة» سياسية – وطنية جديدة، يتمازج فيها «الشرق» و «الغرب»، على «صفحة» واحدة، وفي «وطن» واحد. ويبدو في هذا كله أن مفهوم «الوطن» أخذ يتمحور حول «المواطن» وحرياته وحقوقه، بدلاً من التمحور السائد القديم، المتواصل حول «الدولة» و «السلطة» و «الأمن».


- 4 –



تواصُل «ثابت»


ما حدث في القرن العشرين المنصرم ويتواصل اليوم، قمعاً وعنفاً، قتلاً ونهباً، كذباً وتزويراً... الخ، في جميع الأنحاء العربية، وفي «اليمين»، و «الوسط»، و «اليسار»، ما يؤكد، من جهة أولى، «عراقتنا» في هذا الميدان، وما يؤكد من جهة ثانية على أن معظمنا، نحن العرب بارعون حتى الإعجاز في ترك أنفسنا فرائس سهلة لكل ما في تاريخنا وتاريخ البشر من «وحوش»، وأغلال.


*


حتى عهد قريب، كنا نقول، ثقافياً، ولا يزال بعضنا يقوله:


كل شيء «لغة».


اليوم، نقول، جميعنا تقريباً:


كل شيء «تديّن»


واليسار واليمين سواءٌ في هذا «التديّن». ولئن كان هناك فرق فهو في الدرجة، وليس في النوع.


*


من مظاهر الكارثة أننا لم نشعر حقاً بالكارثة عندما وقعت.


واليوم صارت جزءاً من حياتنا وثقافتنا. صارت خبزنا اليومي. ألفناها حتى أننا فقدنا الإحساس بها.


*


حقاً، للثقافة العربية، هي كذلك، «جهنمها» الخاصة.


- 5 –



ثوبٌ شفاف


أمتهن الكتابة ولا آمل منها شيئاً.


كتابة فيما وراء الأمل.


لكن، أن نكتب فيما وراء الأمل، هو كذلك أن نكتب فيما وراء اليأس.


*


الحب كمثل الشعر تجربة تقوم على اللامنتهي.


الرياضيات هي كذلك فكرٌ يقوم على اللامنتهي.


*


الجنس، كمثل الطبيعة، امتلاء. لا فراغ فيهما.


السر في المتعة الجنسية هو أنها دائماً ابتداء يملأ الفراغ داخل الجسد، وما بينه وبين الطبيعة.


في ذلك، تُحقق المتعة أو النشوة الجنسية تطابقاً عالياً بين جسدية الإنسان وجسدية الطبيعى.


*


اكتشفت جسدي بشكلٍ مختلف، عندما حملني حبك بين ذراعيه.


*


البشرة التي هي سطح الجسد هي نفسها العمق.


نزداد يقيناً بذلك في نشوة الجنس.


*


العتمة في سرير الحب ثوبٌ شفاف.


*


سابقاً، كانت الطريق التي أسلكها هي التي تكيّف خطواتي.


خصوصاً في الشارع.


خطواتي، اليوم، هي التي تكيّف طريقي.


خصوصاً في الشارع.



 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024