إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

أسطورة الفرادة الأميركية

ستيفين وولت

نسخة للطباعة 2011-10-24

يروق للأميركيين فكرة أن الولايات المتحدة تملك تفردا واستثنائية بين العالمين، لكنها للأسف فكرة زائفة.

طالما رددت بعض النخبة الأميركية طوال قرنين مقولة "الاستثنائيةّ/التفرد الأميركي"، فوصفوا الولايات المتحدة بأوصاف شتى: "إمبراطورية الحريات"، "المنارة المضيئة"، "ملاذ البشرية الآمن"، "رائدة العالم الحر"، "الأمة الضرورة" إلخ.

هذه "الطقوس الشوفينية" ربما تفسر نزوع جميع مرشحي الرئاسة إلى استلهام كل ما يعكس إيمانهم بهذه المقولات بمن فيهم الرئيس باراك أوباما الذي يؤمن بالتفرد الأميركي، لكنه في نهاية المطاف "تفرد" لا تختلف عن "التفرد البريطاني" و "التفرد اليوناني" وكل الفرادات التي تصبغها بلدان أخرى على نفسها.

معظم مقولات "الاستئنائية الأميركية" تنطلق من افتراض بأن منظومة قيم الولايات المتحدة ونظامها السياسي وتاريخها، فريدة من نوعها وتستحق أن تحوز إعجاب العالم. وكلها تستبطن أيضا "قناعة" ضمنية بأن الولايات المتحدة جديرة بأن تلعب دورا متميزا وإيجابيا على المسرح الدولي.

وجه الخطأ في هذه الصورة المتخيلة لدور الولايات المتحدة في العالم هو أنها في الغالب مجرد أسطورة. صحيح أن أميركا تمتلك صفات فريدة، كشيوع التدين وتقديس الحرية الفردية، إلا أن هذا الدور تمليه في المقام الأول القدرة النسبية لأميركا والطبيعة التنافسية المتأصلة في السياسة الدولية. إن تركيز الأميركيين على تفردهم المفترضة يعميهم عن إدراك أنهم في الحقيقة كالآخرين.

هذه العقيدة الراسخة "بالتفرد الأميركي" تجعل من الصعب على الأميركيين أن يدركوا سبب ضعف حماسة الآخرين لهيمنة الولايات المتحدة وقلقهم من سياساتها وكرههم لما يعتبرونه نفاقا أميركيا سواء كان الأمر متعلقا بحيازة الأسلحة النووية أو احترام القانون الدولي أو نزوعها لإدانة سلوك الآخرين دون أن تدرك إخفاقاتها.

ومن المفارقات أن السياسة الخارجية الأميركية ربما تكون أكثر فعالية لو كان الأميركيون أقل تمسكا بهذا التفرد وأكثر زهدا في ادعائه.

ما نحتاجه، باختصار، هو تقييم أكثر واقعية وأشد نقدا للشخصية والإسهامات الأميركية. وفي هذا السياق، أسوق الأساطير الخمس الكبرى المؤسسة للتفرد الأميركي.

الأسطورة الأولى

كلما أشار الزعماء الأميركيون إلى المسؤوليات "الاستثنائية" للولايات المتحدة، يقولون إنها تختلف عن القوى الأخرى وإن هذه الاختلافات تتطلب منهم أن يتحملوا أعباء خاصة.

لا، ليس ثمة ما هو استثنائي في هذه الادعاءات، فهم إنما يسيرون في طريق مطروق، فمعظم القوى العظمى كانت تعتبر نفسها متفوقة على منافسيها وتعتقد بأنها كانت تفيض بالخير على البشرية بفرضها خياراتها على الآخرين.

فالبريطانيون كانوا يعتقدون بأنهم يتحملون "عبء الرجل الأبيض" والمستعمرون الفرنسيون رفعوا شعار "المهمة الحضارية" لتبرير سياساتهم الإمبراطورية، والشعار نفسه رفعه البرتغاليون. وحتى كثير من قادة الاتحاد السوفياتي السابق اعتقدوا في فترة ما أن امبراطوريتهم تقود العالم حقا نحو "يوطوبيا اشتراكية" برغم ما ارتكبه النظام الشيوعي بحق مواطنيه وبحق الآخرين.

لا شك أن الولايات المتحدة أولى من ستالين وخلفائه بادعاء الفضيلة، لكن (الرئيس باراك) أوباما كان محقا حينما ذكرنا بأن جميع الدول لديها ما تفخر به.

لذلك فعندما يفاخر الشعب الأميركي "بتفرده" وبأنه "الأمة الضرورة"، فما هو إلا آخر المنضمين إلى جوقة ما تزال تردد معزوفة قديمة مألوفة. والاعتقاد "بالاستثنائية" هو القاعدة وليس الاستثناء.

ـ سلوك أميركا أفضل من سلوك الأمم الأخرى:الأسطورة الثانية

ادعاءات "الاستثنائية الأميركية" تنبع من الاعتقاد بأن الولايات المتحدة أمة فاضلة بصورة استثنائية، أمة تحب السلام وترعى الحرية وتحترم حقوق الإنسان وتقدس حكم القانون. ويحلو للأميركيين الاعتقاد بأن بلادهم تتصرف على نحو أفضل بكثير من الدول الأخرى، وبالضرورة أفضل من غيرها من القوى العظمى.

لو كان ذلك صحيحا، لما استوت الولايات المتحدة في توحشها مع أسوأ الدول في تاريخ البشرية. فالمتأمل في فصول التاريخ يتبين له كذب جل هذه الادعاءات القائلة بالتفوق الأخلاقي للولايات المتحدة.

ولمن لا يعلم أو يتذكر، فإن الولايات المتحدة واحدة من أكثر القوى التوسعية في التاريخ الحديث، بدأت بـ13 مستعمرة صغيرة على الساحل الشرقي للأطلسي، لكنها تمددت في نهاية المطاف في طول القارة الأميركية، فاستولت على ولايات تكساس وأريزونا ونيومكسيكو وكاليفورنيا من المكسيك في 1846.

وخلال مسيرتها هذه، أبادت معظم السكان الأصليين، وحصرت الناجين منهم في محميات فقيرة. وبحلول منتصف القرن الـ19، طردت بريطانيا من شمال غرب المحيط الهادئ، وأحكمت قبضتها على النصف الغربي من الكرة الأرضية.

ومنذ ذلك الحين، خاضت الولايات المتحدة حروبا عديدة، وكانت هي البادئة في كثير منها، وسلوكها في هذه الحروب أبعد ما يكون عن أن يكون نموذجا للسلوك الأخلاقي المنضبط.

فخلال غزو الفلبين بين 1899 و1902، قتل ما بين 200 ألف و400 ألف فلبيني معظمهم مدنيون. كما لم تتردد الولايات المتحدة وحلفاؤها في تهجير 305 آلاف مدني ألماني، و330 ألف مدني ياباني، جراء القصف الجوي في الحرب العالمية الثانية، وقد تم معظم ذلك في إطار حملات منظمة استهدفت المدن المعادية. ولذا فلا غرابة أن قال الجنرال كورتيس ليماي -الذي أشرف على حملة القصف ضد اليابان- لمساعده "لو لم تكسب الولايات المتحدة الحرب، لحوكمنا كمجرمي حرب".

وخلال حرب فيتنام ألقت الولايات المتحدة أكثر من ستة ملايين طن من القنابل، بما في ذلك أطنان من قنابل النابالم والمواد الكيمياوية المدمرة للأشجار والغابات "كالعامل البرتقالي"، وهي مسؤولة مسؤولية مباشرة عن وفاة عدد كبير من مليون مدني قضوا في تلك الحرب.

وفي أحدث هذه الحروب، قتل في حرب ثوار الكونترا المدعومين من الولايات المتحدة، نحو 30 ألف في نيكاراغوا، وهو عدد يعادل مليوني أميركي قتيل، بالنسبة إلى عدد سكان الولايات المتحدة.

وقد أدت الحملات العسكرية الأميركية بصورة مباشرة أو غير مباشرة إلى وفاة 250 ألف مسلم على مدى العقود الثلاثة الماضية (وهذه أقل التقديرات وهي لا تشمل الوفيات الناجمة عن العقوبات المفروضة على العراق في عقد التسعينيات)، بما في ذلك مقتل أكثر من 100 ألف شخص قضوا عقب غزو العراق واحتلاله عام 2003.

واليوم لا تزال الطائرات الأميركية بدون طيار والقوات الخاصة تتعقب الإرهابيين المشتبه فيهم فيما لا يقل عن خمس دول، مما أسفر عن مقتل عدد غير محدد من المدنيين الأبرياء جراء هذه العمليات. وقد يكون بعض هذه العمليات ضروريا لجعل حياة الأميركيين أكثر ازدهارا وأمنا. وبينما كان الأميركيون سيعتبرون دون شك مثل هذه الأفعال إجرامية وغير مبررة لو ارتكبتها دول أخرى بحقهم، فإننا نكاد لا نجد مسؤولا أميركيا واحدا يدين هذه السياسات، بل إنهم -ويا للمفارقة- ما زالوا يتساءلون "لماذا يكرهوننا؟"

تجيد الولايات المتحدة "لعبة حقوق الإنسان والقانون الدولي"، لكنها ترفض حتى اليوم التوقيع على معظم معاهدات حقوق الإنسان، وهي ليست موقعة على محكمة الجنايات الدولية، وكانت على الدوام مستعدة للتقرب من الأنظمة المستبدة رغم سجلها المخزي في مجال حقوق الإنسان!، هل تذكرون صديقنا حسني مبارك؟

إذا لم يكن ذاك كافيا، فإن فضحية أبو غريب وممارسة إدارة الرئيس جورج بوش لصنوف التعذيب كالإيهام بالغرق، والسجون الأميركية في الخارج، والاحتجاز الوقائي، أمثلة كافية لنسف الاعتقاد بأن أميركا تتصرف وفق المعايير الأخلاقية. إن قرار أوباما استبقاء العديد من هذه السياسات يثبت أنها ليست مجرد تجاوزات أو انحرافات مؤقتة.

سجل الولايات المتحدة واضح وجلي، لقد قام زعماء الولايات المتحدة بما ظنوا أنه ينبغي القيام به عندما واجهوا الأخطار الخارجية، ولم يولوا اهتماما يذكر للمبادئ الأخلاقية خلال مسيرتهم. يحلو للأميركيين الاعتقاد بأن الولايات المتحدة أمة فاضلة بصورة متفردة، لكنه للأسف اعتقاد زائف

ـ المكانة الراهنة للولايات المتحدة هي نتاج حسن الطالع:الأسطورة الثالثة: "نجاح أميركا نابع من عبقرية استثنائية"

تملك الولايات المتحدة سجلا طويلا من النجاحات العظيمة، ويميل الأميركيون إلى تصوير صعود نجمهم كقوة عظمى على المسرح الدولي، باعتباره ثمرة مباشرة للعبقرية السياسية للآباء المؤسسين، والفضائل الاستثنائية للدستور الأميركي، وتقديس الحرية الفردية، وإبداع وجدية الشعب الأميركي. بمنطق هذه الرواية، تتبوأ الولايات المتحدة اليوم مكانة دولية استثنائية لأنها ببساطة أمة "استثنائية".

هناك قدر غير يسير من الحقيقة في هذه النسخة من التاريخ الأميركي. ليست مصادفة أن جاء المهاجرون إلى أميركا بأعداد كبيرة بحثا عن فرص اقتصادية، وقد سهلت أسطورة أن أميركا "بوتقة انصهار" استيعاب كل موجات الهجرة إلى العالم الجديد.

لا شك أن منجزات أميركا العلمية والتكنولوجية تستحق الثناء والفضل في تحقيق قدر منها يعود إلى انفتاح النظام السياسي الأميركي وحيويته. لكن نجاح أميركا السابق راجع إلى الحظ الجيد بقدر ما هو راجع إلى "الفضائل الفريدة" لشعبها.

كانت الأمة الأميركية الجديدة محظوظة بفضل ما حباها الله من خيرات وموارد طبيعية، وإمكانية التنقل فيها طولا وعرضا عبر أنهار قابلة للملاحة.

كانت الأمة الأميركية محظوظة لأنها تأسست في مناطق نائية عن بقية القوى العظمى، بل إنها كانت أكثر حظا لأن السكان الأصليين لأميركا كانوا أقل تقدما وعرضة بصورة كبيرة للأمراض الأوروبية.

كانت الأمة الأميركية محظوظة لأن الدول الأوروبية الكبرى كانت في حالة حرب طيلة المرحلة الأولى من تاريخ تشكل الجمهورية الجديدة، وهو ما سهل عليها التوسع في طول القارة وعرضها، لم يتحقق تفوق الولايات المتحدة إلا بعد أن خاضت القوى العظمى الأخرى حربين عالميتين طاحنتين.

هذا التفسير والفهم لصعود نجم أميركا لا ينفي أن الولايات المتحدة فعلت الكثير من الأشياء الصائبة والصحيحة، لكنه يثبت أن المكانة الراهنة للولايات المتحدة هي نتاج حسن الطالع بقدر ما هو نتاج عبقرية استثنائية أو "مشيئة ربانية".

ـ الأميركيون يغمضون أعينهم عن نقاط ضعفهم:الأسطورة الرابعة: "العالم مدين لأميركا في معظم ما أصابه من خير"

الأميركيون مغرمون بنسبة فضل التطورات الدولية الإيجابية إلى أنفسهم، فالرئيس السابق بيل كلينتون كان يعتقد بأن الولايات المتحدة أمة "لا غنى عنها في إقامة علاقات سياسية مستقرة"، وأستاذ العلوم السياسية بجامعة هارفارد الأميركية الراحل صامويل هنتنغتن لطالما ردد أن تفوق الولايات المتحدة ركيزة أساسية "في مستقبل الحرية والديمقراطية والنظام الاقتصادي المفتوح، والنظام الدولي في العالم برمته".

بل إن الصحفي المعروف مايكل هيرش ذهب إلى أبعد من ذلك حينما قال في كتابه "في حرب مع أنفسنا" إن دور أميركا في العالم "أعظم هدية تلقاها العالم في الكثير من القرون، بل طيلة تاريخ البشرية".

أعمال عملية كثيرة مثل "البعثة الأميركية" لتوني سميث، و"سفينة الليبرالية" لجون أيكنبيري، تؤكد على إسهام أميركا في نشر الديمقراطية والترويج للنظام الدولي الحر المفترض.

وبالنظر إلى كل هذا الإعجاب بالنفس، فلا غرابة أن يرى معظم الأميركيين بلدهم قوة ذات تأثير إيجابي طاغ على المسرح الدولي.

مرة أخرى، ثمة قدر غير يسير من الصحة في هذه المقولة، لكن ليس بالقدر الذي يجعلها دقيقة بالكامل. لا شك أن الولايات المتحدة قدمت إسهامات لا يمكن إنكارها لتحقيق السلام والاستقرار في العالم خلال القرن الماضي، بما في ذلك خطة مارشال، وإنشاء وإدارة نظام بريتون وودز، ودعمها المعنوي للمبادئ الأساسية للديمقراطية وحقوق الإنسان، ووجودها العسكري في أوروبا والشرق الأقصى لحفظ الاستقرار هناك.

لكن القول إن ما تعيشه البشرية من خير هو بفضل حكمة واشنطن، يجافي الحقيقة مجافاة عظيمة.

قد يظن الأميركيون وهم يشاهدون فيلم "سيفينغ برايفيت رايان" أو فيلم "باتون" أن الولايات المتحدة لعبت الدور الرئيسي في هزيمة ألمانيا النازية، لكن الحقيقة أن معظم القتال كان يجري في أوروبا الشرقية وأن الاتحاد السوفياتي تحمل العبء الأكبر في هزيمة آلة هتلر العسكرية.

وكذلك الأمر بالنسبة لنجاحات أوروبا عقب الحرب العالمية الثانية، صحيح أن خطة مارشال والناتو لعبا دورا مهما فيها، لكن الأوروبيين لهم فضل مماثل أو أكبر في بناء اقتصاداتهم، وإنشاء نظام سياسي واقتصادي جديد، وتجاوز أربعة قرون من التنافس المرير فيما بينهم.

يميل الأميركيون أيضا إلى الاعتقاد بأنهم كسبوا الحرب الباردة لوحدهم، ويتجاهلون إسهامات ودور خصوم النظام السوفياتي السابق، كما يتجاهلون أن تضحيات المنشقين عن الاتحاد السوفياتي ومقاومتهم للحكم الشيوعي أسهمت بصورة كبيرة في تمهيد الطريق أمام "الثورات المخملية" عام 1989.

وعلاوة على ما تقدم، وكما أشار غودفري هودجسون في كتابه "أسطورة الاستثنائية الأميركية"، فإن انتشار المثل الليبرالية ظاهرة عالمية جذورها ترجع إلى عصر التنوير، وأن فلاسفة أوروبا وزعماءها السياسيين قدموا الكثير لدفع المثل الديمقراطية إلى الأمام.

والشيء نفسه أيضا بالنسبة لإلغاء الرق وتحسين وضع المرأة، فالفضل في ذلك يعود إلى بريطانيا وغيرها من الديمقراطيات أكثر مما يعود إلى الولايات المتحدة التي تخلفت في هذين المجالين وراء العديد من البلدان الأخرى. كما لا يمكن للولايات المتحدة أن تدعي اليوم أنها رائدة العالم في الدفاع عن حقوق المثليين أو العدالة الجنائية أو المساواة الاقتصادية، فقد تقدمتها أوروبا في هاتين القضيتين.

وأخيرا، فإنه يتوجب على كل منصف أن يقر بأن تفوق الولايات المتحدة قد تراجع خلال نصف القرن الماضي، فطيلة المائة عام الماضية كانت الولايات المتحدة أكبر منتج للغازات المسببة للاحتباس الحراري، وبالتالي فهي السبب الرئيسي في التغيرات السلبية التي لحقت بالبيئة العالمية.

لقد وقفت الولايات المتحدة على الجانب الخطأ خلال سنوات الكفاح الطويل والمرير ضد نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، وساندت الكثير من الأنظمة الدكتاتورية المستبدة بما في ذلك نظام صدام حسين، وذلك لاعتبارات إستراتيجية مصلحية قصيرة الأجل.

قد تشعر الولايات المتحدة بالفخر -وهي محقة في ذلك- لدورها في إنشاء دولة إسرائيل والدفاع عنها وفي الوقوف في وجه معاداة السامية عالميا، لكنها انتهجت سياسات ذات نظرة أحادية فأخرت قيام الدولة الفلسطينية وتسببت في إطالة عمر الاحتلال الإسرائيلي البغيض.

باختصار، يدعي الأميركيون كثيرا من الفضل في المنجزات العالمية ويقبلون الحد الأدنى من الملامة حيال كثير من القضايا التي كانت سياسات الولايات المتحدة تجاهها ذات نتائج عكسية. الأميركيون يغمضون أعينهم عن نقاط ضعفهم ويصمون آذانهم عن سماع ملامة الآخرين لهم في تسبب بعض المشكلات العالمية.

هل تذكرون عندما قال مسؤولو البنتاغون إن القوات الأميركية ستستقبل في بغداد بالزهور والمسيرات؟ نعم لقد استقبلوا بقاذفات آر.بي.جي والعبوات الناسفة بدلا من ذلك.

ـ يعتقدون أن الله منحهم عناية خاصة..الأسطورة الخامسة "إن الله معنا":

أحد العناصر الراسخة التي تقوم عليها فكرة "الفرادة الأميركية" هو اعتقاد الأميركيين بأن الله أودع في عنق الولايات المتحدة مهمة ربانية لقيادة العالم.

ذات مرة خاطب الرئيس الأميركي السابق رونالد ريغان الجماهير قائلا إن هناك "مهمة ربانية ما" أوكلت بأميركا، وقد استشهد يوما بمقولة منسوبة للبابا بيوس الثاني عشر "لقد وضع الله في يدي أميركا مصير البشرية المنكوبة".

وردد الرئيس السابق جورج بوش مقولة مماثلة عام 2004 حينما قال "تلقينا نداء من السماء بأن ندافع عن الحرية"، ونفس الرأي منسوب إلى أوتو فون بسمارك- وإن بشكل أقل تهذيبا- قال فيه "الله يمنح عناية خاصة للمجانين والسكارى والولايات المتحدة".

الثقة قيمة عظيمة لأية بلد، لكن عندما تعتقد أمة من الأمم أنها تتمتع "بولاية ربانية"، ويسكن في روعها يقين بأنها لن تفشل أو تضل، فإن الواقع سيعاجلها بما يعيد الرشد إليها.

دول كثيرة -أثينا القديمة وفرنسا النابليونية واليابان الإمبراطورية- وقعت ضحية هذا النوع من الغرور وانتهت نهاية كارثية.

ومع أن في سجل أميركا نجاحات كثيرة، فإنها ليست في مأمن من النكسات والسقطات والأخطاء القاتلة، وإذا كانت لديك أية شكوك في ذلك، فتأمل كيف خسرت الولايات المتحدة مكانتها المميزة مع مطلع القرن الحادي والعشرين بسبب سياساتها الاقتصادية الرعناء والحروب الطائشة والانهيار المالي غالبا بفعل الجشع والفساد.

وبدلا من أن يفترض الأميركيون أن الله يقف إلى جانبهم، كان عليهم ربما تأمل مقولة أبراهام لنكولن التي شدد فيها على أن "ما ينبغي أن يقلقنا هو ما إذا كنا في جانب الله".

وفي ظل التحديات الكثيرة التي تواجه الأميركيين اليوم من بطالة مزمنة وعبء حربين طاحنتين، فمن غير المستغرب أنهم يحسون بالرضا والطمأنينة تجاه فكرة "الفرادة"، وأن قادتهم السياسيين المزهوين يكررون ادعاء هذه "الفرادة" بحماسة متعاظمة.

الإحساس بالفخر الوطني له فوائده، لكنه ليس كذلك حينما يقود إلى سوء فهم أساسي لدور أميركا في العالم، هنا بالضبط تقع الأخطاء في صناعة القرار.

تملك أميركا خصائص فريدة مثلها مثل جميع البلدان، لكنها تعيش في نظام كوني تنافسي، أميركا أكثر قوة من غيرها بكثير وأعظم ثراء من معظمها، وموقعها الجيوسياسي متميز بصورة كبيرة، وهذه الخصائص تعطي الولايات المتحدة هامشا واسعا من الخيارات في إدارة سياستها الخارجية، لكنها لا تضمن أن خياراتها دائما صحيحة.

وبعيدا عن كون الولايات المتحدة دولة فريدة تمارس سياسات تختلف جذريا عن سياسات غيرها من القوى العظمى، فقد تصرفت مثل بقية الدول، واضعة مصالحها الذاتية أولا وقبل كل شيء، ساعية لتحسين موقعها على الدوام دون التفات إلى مدى واقعية هذه الأهداف، ومع ذلك وكبقية القوى العظمى السابقة، لقد أقنعت الولايات المتحدة نفسها بأنها مختلفة وأفضل من دول أخرى.

السياسة الدولية كالرياضات التنافسية تجد فيها الدول (حتى القوية منها) مضطرة للتنازل عن مبادئها السياسية من أجل الأمن والازدهار، والوطنية أيضا قوة عظيمة تنزع لإبراز فضائل المجتمع والتغاضي عن جوانب حياته الأقل إشراقا.

لكن إذا ما أراد الأميركيون أن يكونوا متفردين حقا، فعليهم أن يبدؤوا في النظر إلى فكرة "الفرادة" بعين أقل اندفاعا وأكثر تشككا.

*أستاذ العلوم السياسية بجامعة هارفارد الأميركية

المصدر: فورين بوليسي




 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024