إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

كلمة الدكتور الأمين ادمون ملحم في ندوة التفكير الإستراتيجي في سيدني بتاريخ 3 آب 2014

نسخة للطباعة  | +  حجم الخط  - 2014-08-10

أهلاً بكم في رحاب الفكر والتفكير.. في هذا الملتقى المعرفي الذي نسلّط فيه نورَ العقل ِعلى موضوعٍ فكري راقٍ ألا وهو التفكير الإستراتيجي عند شهيد الثامن من تموز، رجل الفكر الذي أولى المعرفة، كقيمة إنسانية عليا، أهمية كبرى في حياته من أجل الإرتقاء بأمته وهو الذي صاغَ شعاراً خالداً يقول فيه: "المجتمع معرفة والمعرفة قوة".

وقبل ان نغرف من نبع سعاده الفكري الوفير ونستخرج منه دلائل وشواهد تظهر أهمية فكره الإستراتيجي لا بد لنا بداية من ان نتحدث قليلاً عن ماهية التفكير الإستراتيجي وخصائصه:

أولاً، ان نمط التفكير الذي بات يعرف اليوم بالتفكير الإستراتيجي مرتبط ارتباطاً وثيقاً بمفهوم "الإستراتيجية" الذي كان في بداية الأمر محصوراً بالفكر العسكري وما كتبه المنظِّرين والإستراتيجيين القدماء عن فنون الحرب وتقنياتها ومناوراتها وعن تصرفات القادة العسكريين في وظائفهم ومهامهم وفي تنظيمهم للمعارك وخطواتها وكيفية تطبيقها. وقد برز عدد كبير من المفكرين والمنظِّرين والقادة العسكريين القدماء أمثال الإستراتيجيٍ الصيني Sun Zi وهنيبعل السوري الفينيقي الذي اعتبره سعاده "أعظم نابغة حربي في كل العصور وكل الأمم" وغيرهما من الإستراتيجيين من مختلف الجنسيات الذين أولو عناية كبيرة لمختلف فنون الحرب والتسلح وأساليب قيادة العمل العسكري باعتبارها سبلاً ووسائل لتحقيق الغلبة والتفوق والانتصار.. ومع مرور الزمن توسع اهتمام منظري الفكر الإستراتيجي ليشمل إلى الشأن العسكري مجالات متعددة اخرى لها مساس بمتطلبات السلام والنمو الإقتصادي والتطور الاجتماعي والتقدم العلمي والتفوق التكنولوجي وصيانة الأمن القومي وغيرها من النشاطات. وأمسى التفكير الإستراتيجي في عصرنا الحالي احد العلوم الإنسانية المتطورة الذي تتوسله الأمم المتقدمة بمنشأتها الصناعية ومؤسساتها الحكومية والخاصة بشكل استباقي ممنهج من اجل تطوير البلاد على مختلف الصعد. ويعتمد هذا العلم على الابتكار والتحري والتأمل والإستقراء والتفكير الإستباقي والإستنتاج وغيرها من المناهج.

ثانياً، خصائص التفكير الإستراتيجي:

التفكير الإستراتيجي ليس ترفاً فكرياً أو نوعاً من التنجيم بل هو نشاط إبداعي ومسار فكري تخطيطي شمولي متعدد الرؤى والأبعاد ينطلق من دراسة الواقع بكل أبعاده ومظاهره ويرسم رؤى وأهداف مستقبلية ويضع برامج وخطط عملية تساعد على الانتقال إلى المستقبل المنشود. فالتفكير الإستراتيجي يؤدي إلى التخطيط السليم لأن عملية التخطيط هي عملية لاحقة للتفكير الاستراتيجي الناضج ولا يمكن ان يكون هناك تخطيط استراتيجي دون ان يكون هناك تفكير سابق لما نريد ان نخطط أي ان الفكرة هي التي تذهب الى صياغة الخطة وليس الخطة هي التي تولد الفكرة.

وبإختصار يمكن القول إن التفكير الإستراتيجي هو مسار فكري تخطيطي يستبق الأحداث وينطلق من استقراء الماضي واستكناه الحاضر ليرسم معالم المستقبل. ويمكن التحدث عن خصائص عديدة يمتاز بها التفكير الإستراتيجي، نذكر منها التمتع برؤية ذات أبعاد شمولية، صناعة الغايات العليا والواضحة والإلتزام بها، الإستشراف والنظرة البعيدة في اتجاه المستقبل، الواقعية، التفاؤلية، الحدس والفطنة والذكاء الطبيعي ومرونة التفكير، والتراكم المعرفي والقدرة على التصور والتحسس والتحليل والتشخيص والخلق والإبداع في الإدراك الإستراتيجي والتخطيط والتأثير في مجرى الأحداث وغيرها من الخصائص.

أنطون سعاده:

هل كان سعاده عالم الإجتماع وصاحب الفكر الفلسفي المدرحي الرامي لإنشاء مجتمع إنساني جديد والمتضمن رؤية حضارية إنسانية جديدة لإنقاذ ‏العالم من تخبطه و"لإعادة النبوغ السوري إلى عمله في إصلاح المجتمع الإنساني وترقيته"، هل كان هذا الرجل– القدوة الذي وقفَ نَفسه على ان يرفعَ أمتَه من حضيض الذل والإستعباد إلى الرقي والمجد فكانت حياته ملحمة في العطاء والتضحية والفداء، هل كان هذا الرجل صاحب فكر إستراتيجي؟ للإجابة على هذا السؤال سنعتمد بعض خصائص التفكير الإستراتيجي التي يمتاز به القادة الإستراتيجيون كمعايير نستخرج على أساسها إجابتنا من فكر سعاده.

أولاً– تفكير استشرافي:

باكراً استشرف سعاده بعبقريته وبعد نظره ان أخطاراً عظيمة داهمة، وأهمها خطر الصهيونية، تهدد وجود الأمة وقال "نحن أمة واقفة، الآن، بين الموت والحياة، ومصيرها متعلق بالخطة التي نرسمها لأنفسنا والاتجاه الذي نعينه." ودعا إلى التضامن الضروري واتخاذ الإجراءات الفعالة لكي نتمكن من الدفاع عن حقوقنا كأمة حية.

إن المخاطر التي نبه منها سعاده في بدايات القرن السابق ومن بينها الخطر الصهيوني والخطر التركي وخطر التوسع العربي المستند إلى العصبية الوهابية وخطر تنافس قوى الإستعمار على سورية الغنية بالموارد وخطر الطائفية والأنانيات الفردية والمصالح الخصوصية والكيانية والتي دعا إلى مواجهتها "بالقوة العملية" المنظمة أصبحت اليوم حقائق تتفاقم.. فدولة العدو تتمادى في احتلالها وجرائمها وتوسعها. وقوى العالم الإستعمارية تتسابق للسيطرة على المنطقة وثرواتها. وسورية اليوم تدفع الثمن حروباً أهلية ترتكب فيها المجازر الفظيعة وتزهق الأرواح وتدمر البلاد والنتيجة التي نلمسها هي ان سورية اليوم تزداد ضعفاً وتفككاً مما كانت عليه في بدايات القرن الماضي والسبب هو عدم التجاوب الكافي مع دعوات سعاده وتحذيراته.

ثانياً - التفكير الواقعي:

سعاده كان صاحب نظرة واقعية مشدودة إلى المستقبل تعتبر ان كل جماعة تريد الإرتقاء "لا بد لأفرادها من فهم الواقع الإجتماعي وظروفه وطبيعة العلاقات الناتجه عنه" . لذلك نظر في واقع أمته الإجتماعي دارساً ومحللاً بموضوعية وعلمية ومستنبطاً أسباب الويل والمآسي والأمراض وكل ظواهر التخلف والتمزق والضعف والتبعية والانحطاط التي يعاني منها شعبه.. وبالإضافة إلى معرفة الواقع الإجتماعي، غاص سعاده في تاريخ الأمة الطويل وراح يستقرأ ما يتضمن هذا التاريخ السياسي والثقافي الغني من إرث صراعي عظيم ومن مآثر ثقافية وإبداعية تظهر تفوق النفسية السورية وعظمتها. ونتيجة لفهمه العميق لتاريخ سورية ولحقائق واقعها الإجتماعي والسياسي الذي غاب عنه الوجدان القومي لخلوه من المنظمات القومية والسياسية قرر سعاده القيام بمشروع إنقاذي تخطيطي إستراتيجي ينهض بالأمة ويغيِّر مجرى التاريخ، فأسس الحزب السوري القومي الإجتماعي كمشروع نهضوي وكفكرة وحركة تتناولان حياة الأمة السورية بأسرها.

ثالثاً - التفكير الغائي الواضح:

كل أعمال سعاده وكل كتاباته كانت من أجل غاية مجتمعية واضحة، بعيدة المدى وعالية الأهمية، وهي إحداث نهضة قومية إجتماعية في أمته السورية لإعادة حيويتها وقوتها وتنظيم حركة تؤدي إلى إستقلالها التام وتثبيت سيادتها، وإقامة نظام جديد يؤمن مصالحها ويرفع مستوى حياتها. والسعي لإنشاء جبهة عربية لها وزنها في السياسة الإنترنسيونية. هذه الغاية الجلية المتعددة الأهداف والمنبثقة من نظرة إنسانية راقية تريدُ إخراج سورية من قبر التاريخ والإرتقاء بها إلى "حياة أجود في عالم أجمل وقيم أعلى" تصبو إليها.. هذه الغاية شرحها سعاده في محاضراته وفي مجمل كتاباته وخطبه وقال: "ان غرض الحزب هو توجيه حياة الأمة السورية نحو التقدم والفلاح.." وأوضح "ان الغرض من إقامة نظام جديد لحياتنا هو لجعل "الحياة أرقى وافضل وأجمل" "فالحياة وجمالها وخيرها وحسنها هو الغاية الأخيرة" التي نسعى إليها. إذاً، هذه الغاية التي تخصنا جميعاً ترمي لترقية حياتنا القومية من أساسها ومن جميع وجوهها وتسعى لإقامة مجتمع قومي صحيح ينهض على أساس مناقبي نبني عليه كل منشآتنا ومؤسساتنا ومشاريعنا وننطلق منه في كل أعمالنا وسياساتنا وخططنا.

رابعاً - تفكير كلي منظم:

ان فكر سعاده الإستراتيجي وحزبه السوري القومي الإجتماعي يتمحوران حول قضية قومية كلية هي قضية الأمة السورية والوطن السوري. ففي شرحه في المحاضرة الثالثة يحدّد سعاده قضية حزبه بأنها: "قضية كلية أساسية، دائمة. إنها قضية حياة المجتمع واستمرار حياته وتقدمها نحو الأفضل والأجمل." وفي المحاضرة الثانية يقول: "فالأمور التي نعني بها نحن ليست جزئيات بل كليات تتعلق بحياة الأمة في أساسها، بجوهر الحياة واتجاه الحياة الأسمى والأكمل والأفضل.." وفي معرض شرحه لغاية الحزب يؤكد سعاده ان هذه الغاية "تشمل جميع قضايا المجتمع القومي، الإجتماعية والإقتصادية والسياسية والروحية والمناقبية وأغراض الحياة الكبرى." والحق يقال ان قواعد الفكر التي نشأت عليها النهضة القومية الإجتماعية تشكل بمجملها نظاماً فكرياً فلسفياً متناسقاً ومتكاملاً. هذا النظام الفكري لا بل هذا التفكير الكلي المنظم عبَّرَ عنه سعاده في معرض شرحه لمفهوم النظام الذي عرَّفه بأنه "لا يعني الترتيبات الشكلية الخارجية، بل هو نظام الفكر والنهج، ثم نظام الأشكال التي تحقق الفكر والنهج."

خامساً- التفكير العملي:

كان سعاده من دعاة التفكير العملي الحقيقي الذي يؤدي إلى الإصلاح الشامل في شؤون حياتنا القومية.. هناك مسائل في حياتنا الإجتماعية، يقول سعاده، "يجب علينا ان نواجهها بجرأة وثقة بالنفس،.. لا ان نهرب منها مقتدين بالنعامة التي تزج رأسها في الرمل متى أدركها الصياد ظانة انها إذا لم تره لم يراها". ومن اجل ان نبتدىء في العمل الإصلاحي الكبير لتنقية حياتنا القومية من الأدران النفسية والصدأ العقلي، فأول ما يجب ان نبدأ به "هو ان نحوّل التفكير النظري الذي لا يحقق شيئاً بذاته إلى تفكير عملي يدفعنا إلى العمل على تحقيق ما نؤمن به ونعتقد بصلاحه." ويشّدد سعاده على وجوب: "اعتمادنا على التفكير العملي لأن العصر الذي نعيش فيه عصر عمل وتحقيق مطالب عليا."

سادساً- تفكير إبداعي مستقل

الإبداع سلوك إنساني خلاّق يتمظهر بالقدرة على انتاج الأفكار الأصيلة او ابتكار حلول جديدة يتقبلها المجتمع لمشكلة قائمة. ويتسم النشاط الإبداعي بالحداثة وعدم النمطية او جمود الفكر كما يتصف بالمرونة والطلاقة الفكرية والأصالة ويفصح عن نفسه في شكل إنتاج جديد يمتاز بالتنويع ويتصف بالفائدة والقبول الإجتماعي بشكل عام.

وفي الحديث عن سعاده فلا أعتقد ان أحداً يخالفني الرأي بأن سعاده كان شخصاً مبدعاً ومتفوقاً لا بل رجلاً عبقرياً وقائداً فذاً وقد تجلَّتْ مظاهرُ العبقريّةِ والإبداع في فكره الثاقب وفي مؤهلاتِهِ التأسيسية والتنظيمية والقياديّةِ الفريدةِ وفي زعامتِهِ الأصليّةِ المنبثقةِ من صميمِ عظمةِ الأمّةِ السوريّةِ ومنْ نتاجِ نفسيّتِها الجميلة...وتجلَّتْ عبقريته أيضاً في كتاباته وفي إنتاجه الغزير وفي بروزه كموسوعة جليلة في الفكر ‏والثقافة واللغة. لقد ترك سعاده للأمة تراثاً فكرياً ضخماً تضمن منظومة من الأفكار والأراء العميقة في ‏الفلسفة والإجتماع والإقتصاد والسياسة والدين والأدب والموسيقى ‏وغيرها من ميادين الفكر والعلم والفنون. هذا التراث الفكري الذي يجذب الأجيال والدارسين ‏والباحثين الأكاديميين يقدم طريقة جديدة راقية في التفكير ألا وهي طريقة التفكير الإبداعي المرتكز على الإستقلال الروحي. يقول سعاده "ان الحزب السوري القومي الإجتماعي نشأ بتفكير الإبداع السوري المستقل.." ويؤكد بأن هذا التفكير الذي شكّلَ إنقلاباً فكرياً عظيماً وسط شعبنا يعكس نفسيتنا السورية التي تتمتع بكل مؤهلات الوعي الصحيح والإدراك الشامل لشؤون الحياة والكون والفن والتي "تقدر في ذاتها على المعرفة" و"تمييز القصد وتصور اسمى صور الجمال في الحياة." وعلى أساس هذا التفكير الإبداعي المستقل دعا سعاده أبناء شعبه لإشادة تمدن جديد أفضل من التمدن القديم الذي وضع قواعده أجدادنا الأولون وقال:"يجب على الأمم الراقية ان تتشبه بنا او تنسج على طرازنا القومي الإجتماعي."

سابعاً – تفكير تفاؤلي إنساني:

سعاده كان صاحب تفكير تفاؤلي وإنساني يؤمن بقدرات الإنسان وطاقاته الفعلية على اختراق عالم المجهول واكتشاف الحقائق ويحثُّ أبناء شعبه للتحرر من أوهام الضعف والخنوع والتسليم للأمر المفعول وبتحمل مسؤولياتهم في تحرير سورية بأكملها وفي صناعة المستقبل المشرق لأن فيهم "قوة لو فعلت لغيرت وجه التاريخ." وركَّزَ سعاده على إطلاق عناصر القوة القومية وتشجيع المواهب الفكرية والإهتمام الدقيق بنتاجها والعمل على تصويبها كما دعا أبناء أمته للإعتزاز بقوميتهم ولإعتناق رسالة الإيمان بالأمة السورية وحب الوطن السوري والعمل بإخلاص من اجلهما. وحرص سعاده على بناء الإنسان الجديد المسؤول والمتسلح بالمعرفة الفاضلة والمناقب السامية لحمل رسالة النهضة وبناء المجتمع الجديد لأن المناقب، بالنسبة إليه، هي شيء أساسي جداً في الحياة فإذا لم نتمتع بأخلاقية متينة فيها ‏صلابة العزيمة وشدة الإيمان وقوة الإرادة فلا يمكننا أن نحقق‏ غايتنا النبيلة ولن نحصد إلا التشويش والإخفاق وخيبة الأمل. من ‏هنا قوله "إن الأخلاق هي في صميم كل نظام يمكن أن يكتب له ‏أن يبقى."

وسعاده كان متفائلاً بالنجاح ودعا القوميين الإجتماعيين إلى أنْ يثقوا بأنفسِهم وقضيتهم وقال: "اننا لو شئنا ان نفر من النجاح لما وجدنا لنا مفراً منه."

لقد كان سعاده حريصاً على بعث الأمل واليقين والفضائل القومية في النفوس، فضائل الحب والتضحية والبطولة والإستقامة والصدق والصراحة والإخلاص وسحق الباطل وكان شديد الإيمان بأمته المعلِّمة والهادية للأمم وفاخر بما أعطَتهُ هذهِ الأمةُ للعالمِ من علومٍ ورسالاتٍ ومعارفَ ومن عظماءٍ خالدينَ وفلاسفةٍ ومفكرينَ وقوّادٍ ومحاربينَ وقالَ "أنَّ في النفسِ السوريّةِ كلَّ علمٍ وكلَّ فلسفةٍ وكلَّ فنٍّ في العالمِ".

ثامناً– تفكير إرادي، صراعي:

من أهم عناصر الإستراتيجية في الفكر القومي الإجتماعي هو عنصر الصراع. فحركة سعاده هي حركة هجومية دائمة لا تهدأ، حركة صراع ليس بمنته وقتال دائم من أجل تحقيق الغاية الواضحة. يقول سعاده: "لو لم نكن حركة صراع لما كنا حركة على الإطلاق.." ويضيف، "نحن نصارع دائماً في سبيل تحقيق غايتنا وكلما تراكمت علينا الصعاب تجددت قوانا وسحقت ما اعترضنا من صعاب". ولقد احتقر سعاده الذينَ تخلّوْا عن طريقِ الحرّيّةِ والصراعِ واختارُوْا طريقَ العبوديّةِ والعيشَ الذليلَ وقالَ: "ويلٌ للمستسلمينَ الذينَ يرفضونَ الصراعَ فيرفضونَ الحريةَ وينالونَ العبوديةَ التي يستحقونَ".

وسعاده رفض الاتكاليّةَ والقدريّةَ والتخاذلَ والاستسلامَ وقالَ باتجاه جديد في التفكير يعتمد على موهبةِ العقلِ المُبدعِ والشرعِ الأعلى والأساسيِّ، العقلِ الإرادي الفاعل في الوجود الذي يتأمّلُ ويُدركُ ويُميّزُ الخيرَ عنْ الشرِّ ويخطّطُ للمستقبلِ ويعيّنُ الأهدافَ ولا يرضَى عن الصراعِ في سبيلِ الحياةِ الحرّةِ الكريمةِ بديلاً. هذا التفكير الجديد لا يعكس اتجاهاً نظرياً بل تفكيراً عملياًً، أخلاقياً، ساعياً إلى تغيير الواقع وتحقيق وجود أفضل، تفكيراً يعكس نفسيةٌ صراعيّةٌ جديدةٌ محبَّةٌ للعمل والإنتاج وتواقةٌ إلى الحرية ولا تقبل بغير العز والإنتصار موقعاً لها في الحياة. والحق نقول ان هذه النفسيةُ الصراعيةُ الواثقةُ من نفسها والمعتمدة على ذاتها لتحقيق أهدافها.. هذه النفسيةُ تُؤسِسُ لها وتغذيها المبادىءِ القوميّةِ الاجتماعيّةِ التي تشكّلُ فكرًا جديدًا لا بل خطة إجتماعية لصورة الأمة في المستقبل. لذلكَ يقولُ سعاده: إنَّ "العقليّةَ الأخلاقيّةَ الجديدةَ التي نؤسسُها لحياتِنا بمبادئِنا هي أثمنُ ما يقدّمُهُ الحزبُ السوريُّ القوميُّ الاجتماعيُّ للأمّةِ، لمقاصدِها ولأعمالِها ولاتجاهِها".

الإستراتيجية القومية الإجتماعية:

الهدف الإستراتيجي الذي وضعه سعاده يتلخص بغاية حزبه الواضحة كما ذكرنا أعلاه. ولتحقيق هذه الغاية وضع سعاده خطته الإستراتيجية الواضحة وراح يعمل على تنفيذها بعزم وتصميم وإيمان وإرادة جبّارة لا تلين وبجهد إداري وتنظيمي وسياسي وبمواجهة شرِسة مع الخصوم السياسيين والطائفيين والنفعيين والخونة والمنحرفين وأعداء الأمة الإستعماريين.. راح يعمل على تنفيذها إنشاءً ونقداً وشرحاً وتثقيفاً وتدريباً للمسؤولين وبعدم تهاون مع الفاسدين وبإعتماد برامج وخطط سياسية فنية بعيدة النظر ونهج عملي لا يتجاهل الأمر الواقع حين معالجة القضايا السياسية ولا يخرج عن ثوابت العقيدة وغايتها. هذه الخطة تقوم على العناصر التالية:

أولاً: بناء المجتمع القومي الجديد المتماسك القوي بإعتماده نهجاً نهضوياً، أخلاقياً، واضحاً يسعى من خلاله تطهير المجتمع من أمراضه وأوهامه وعقائده المهترئة وإظهار شخصيته القومية وحقيقته الإجتماعية وإيقاظ فكرة الأمة وبناء النفوس بناءً جديداً في العقيدة الصالحة والمناقب الجديدة التي تضمن توحيد الشعور والاتجاه والولاء القومي وتؤسس حياة جديدة للأمة وتسير بها إلى مراقي العز والخير والتقدم والفلاح. هذا النهج الإصلاحي الحقيقي الذي يعتمد نشر الثقافة القومية الإجتماعية يرمي إلى إصلاح العلةِ في أهلِها وتوحيد اتجاه الأمة توحيداً ثابتاً راسخاً بالقضاء على المنازعات الطائفية ووضع العصبية القومية موضع العصبيات الدينية والعشائرية وبتوضيح حقيقة الأمة الأثنية والجغرافية المشوشة وإحلال مصلحتها القومية فوق كل المصالح الجزئية وإطلاق حيويتها ودفعها في طريق الخلق والتفوق والإبداع.

ثانياً: إنشاء المؤسسات القومية الصالحة لتجديد حياة الأمة ولبناء دولتها القومية الديمقراطية العصرية التي ترعى مصالح الشعب الحيوية وتنهض بأوضاعه وتوفِّرُ له رغد العيش وهناء الحياة. والمؤسسات القومية الجديدة ألتي هي أعظم أعمال سعاده بعد تأسيس القضية القومية والتي تحفظ وحدة الاتجاه ووحدة العمل هي مؤسسات متنوعة (من سياسية وإقتصادية وإجتماعية وثقافية وفنية وغيرها..) ومتطورة تعتمد العقلنة والعلم والتخطيط ويجب ان تُسَيِّرُها إدارات مؤهلة وكفوءة ومخلصة ومسؤولة وشفافة، متحلية بالقيم القومية ومقيَّدة بالضوابط الأخلاقية والقواعد الدستورية وملتزمة بالعقيدة وغايتها.

ثالثاً: بناء نظام إقتصادي إجتماعي راق قاعدته وحدة المجتمع القومي وغايته خير الأمة ورفاهيتها، نظام يرسي الإقتصاد القومي على أساس العمل والإنتاج لتتحول الأمة كلها إلى أمة العاملين المبدعين المنتجين علماً وفكراً وصناعة وغلالا. بهذا النظام الجديد الذي يعتمد الخطط التطويرية والعدالة الإجتماعية في عملية الإنتاج سيتحول المجتمع القومي بأكمله إلى مجتمع منتج متفوّق ومحصّن من الإحتياج والتبعية وسيمتلك أرضية الإنطلاق وقواعد التقدم والتطور وقدرة الصراع بين الأمم.

رابعاً: بناء قوة الأمة المادية والنفسية بما فيها قوة الفكر والعلم والمعرفة لأن ما يحمي الأمة ومصالحها ضد أية مخاطر هو عناصر قوتها وحسن استخدام قياداتها لهذه العناصر. وفي هذا المجال يقول سعاده: "ان الحق القومي لا يكون حقاً في معترك الأمم إلا بمقدار ما يدعمه من قوة الأمة. فالقوة هي القول الفصل في إثبات الحق القومي او إنكاره." ومن أهم مظاهر القوة المادية هي القوة العسكرية والقوة الإقتصادية والمنعة الجغرافية الإستراتيجية والعنصر البشري الفاعل الذي هو في النهاية صاحب الدور الأساسي في قوة الأمة وتفوقها. وفي مجال القوة العسكرية دعا سعاده لإعداد جيش قوي للدفاع عن الأمة والوطن وقال ان "مبدأ الأمة المسلحة هو المبدأ الوحيد الذي يجب ان تتمسك به كل أمة لا تريد الإضمحلال." وفي مجال القوة الإقتصادية، فلقد دعا سعاده إلى استخدام موارد الأمة ومن بينها البترول كسلاح إقتصادي في معركة المصير القومي وفي الحفاظ على حقوق الأمة وسيادتها على نفسها.

هذه هي خطة سعاده الإستراتيجية التي حددت الغاية الواضحة والتي رسمت الطريق لتحقيق تلك الغاية.. هذه هي خطة سعاده النظامية الدقيقة التي يفعل فيها العقل الإرادي والتي تبدأ من تغيير الإنسان لتحوِّل الأفراد إلى نفوس مؤمنة وإلى جيش من العشاق لقضية حياة الأمة وتقدمها. والحق نقول انه لا أمل لنا ان ننهض بالأمة نهوضاً حقيقياً جديداً ولا أمل لنا بمواجهة المشروع الصهيوني العدواني وتوابعه التنظيمية من أهل الوهابية والسلفية والداعشية والتخلف والتكفير.. هذا المشروع التدميري الذي يستهدف حياتنا ووجودنا الحضاري وكامل وطننا السوري والذي يتباهى بهمجيته ومجازره الإرهابية البشعة بحق الاطفال والنساء وكل المدنيين في غزة الصامدة وفي كل فلسطين المغتصبة.. لا أمل لنا بالحياة ولا رجاء لنا ببقاء مجتمعنا وقيامته إلا بإعتماد الخطة النظامية الهادفة التي تؤكد على فعل البطولة المؤمنة والتمسك بخيار المقاومة ونهجها والتي تصنع الإنسان الجديد المُجهّز بالمناقب الجديدة والمستعد لأن يتحمل مسؤولياته في البذل والعطاء والبطولة والإستشهاد من أجل صيانة حياة الأمة الجديدة في العز والشرف والحرية والتقدم والفلاح.



 
جميع الحقوق محفوظة © 2024