إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

غدرُ الكلاب...

فهد الباشا - البناء

نسخة للطباعة 2014-12-19

إقرأ ايضاً


يعلو، مع موسم الأعياد، صخبٌ يترجّع فيه صدى ما يستهلكه الناس، وصدى ما هم فيه يُستَهلكون. ويضرب العبث معاني الأسماء والأشياء. وإذ تحاول أن تستجلي الظواهرَ أسرارَها تضيع في متاهة من قيل لهم «كبُر مَقْتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون»، وإذا خطر لك أن تبحث، في عجقة المواسم، عن مكانٍ «يسند إليه ابن الإنسان رأسه»، أضناك طول البحث في المعابد والأديرة والهياكل، وفي ما حولها من ساحات واسعات، باتت تضيق على غير الراقصين، في العيد، رقصة الموت على حداء الطوائف… وإمّا نقّلْت الطرْف أبعد، فالطرقات والأسواق والأحياء ومن عليها وما عليها مشاهدُ تحتجب خلفها مشاهد، ومسحوقون وساحقون يتبادلون الأدوار، ووجوه يُخفي حقيقتها التبرُّجُ والمساحيق، وواجهات تزيّنها أضواء خلّبٌ خادعة.

وقد لا تعدم، وسط هذي المعمعة، أن تُبصر عيناك، في هذا الليل الطويل، بصيص نور حقيقي في أفقٍ ما، فتمنّي النفس أن تحطّ عنده رحال الرجاء، تسعى إليه علّك ترتاح عنده لحظة من عناء هذا الحمل الثقيل، من خوفك أن يكون الشرّ الآتي أعظم… ولكّنك لا تلبث أن تصطدم في النفق الطويل بقوافل الآتين من الاتجاه المعاكس مُنجذبين بما في نفوسهم مطمئنين إلى السير في الظلام، باحثين عن وجه الله فيه، حاجبين عنك النور، مانعين عليك العبور… وإذ تُمعن تأمّلاً في مآسي المشهد، يطالعك، فاجعاً، هذا المدى الذي اضطربت فيه المفاهيم، وغامت، في اتّساع الاضطراب الرؤية إلى القيم، وتساوت، مع كثافة الضباب، سفوحٌ بقمم، وهوى، في الضياع، كبار وارتفع صغار، واختلط، في تبادل الآراء والأحكام، حابل بنابل، حتى ليبدو، في مجرى التأمّل أنه، وباستثناء من نجّاه ربه من «الفرض مرض»، فإنّ واحدنا لا يحلم على سواه إلاّ بحسب الاتجاه العاصف في هواه… ولأنّ الهوى قتّال، في غير مجال، استُكْمِلت الوصايا الناهية بالوصية الآمرة: «وإذا حكمتم فاحكموا بالعدل». ولكن، ولحكمة لا يدركها حتى العباد الصالحون، ترك العليم بذات الصدور الحبل على غاربه لناس يغدقون، في أوقات الرضا النعم إذا هم تغاضبوا وتباغضوا يكون المغضوب عليه ابن حرام، وإذا ارتفع الغضب درجةً فهو كلبٌ، أما في حالات الغضب الساطع فهو كلبٌ ابن كلب…

وما يصحّ على الناس، مثله يصحّ على الكلاب، فمرّة، يطول الحديث عن وفائها والأمانة، وتضرب على ذلك الأمثال، ويروي الذين تؤنس الكلاب وحشتهم الوقائع والروايات، حتى لترى ساخراً كبيراً مثل برنارد شو يذهب في التعبير عن خيبته في الناس إلى حدّ قوله: «كلّما ازددت معرفة بالناس، ازددت مودة للكلاب». بينما يأخذه سواه هواه في الاتجاه المضادّ فإذا الكلاب، عند ناصيف اليازجي رمز دناءة وحقارة، وفيها يقول:

إذا رأيت الكلب في أيام دولته

فاجعل لرجليك أطواقاً من الزرد

واعلم بأنّ عليك العار تلبسُه

من عضّة الكلبِ لا من عضّة الأسدِ

ولو أتيح للكلاب أن تتكلم لا أن تنبح لاتهمت الناس بقلّة الحياء، وقلّة الوفاء.

وفي مطلق الأحوال، كلها مفاهيم هوائية وأحكام مبنية على الأهواء. صحيح أنّ الكلاب تؤدّي لبني آدم خدمات تستحق عليها الثناء، لكنها ليست من الوفاء على نسَب، إنْ هي إلاّ غريزة تدّجنت، لكنها، إذا جدّ جدّ، وغابت عين الرقيب، عادت إلى أصلها وأصالتها، وهل من خلافٍ على توقّع النتيجة إذا ما نسي صاحب كلب على رف سيارته لحمة أو سمكاً كان اشتراه مؤونة للبيت، هل من خلاف عمّا يفعله الوفيّ الكلبُ الأمين. لا نظلمنّ الكلاب ونحملها أعباء الأمانة والوفاء… فالوفاء من القيم العليا التي لا يصحّ أن ينفصل عامل الأخلاق فيها عن عمل الفعل فيه…

من هنا صحة القول بالعقلية الأخلاقية، لا بالأخلاق مجرّدة من نسب، وإلاّ كنا سمّينا قاتل أخته باسم الشرف القبلي، وفاء… وناصر ابن الطائفة الأخرى، باسم الله، وفاء للدين والله.

الوفاء كالفداء وقف على الناس، على الناس الواقفين، في سلّم القيم، على أعلى الدرجات… أمّا إذا سقطوا من هناك ووقعوا في فخّ القيم الاستهلاكية غادرين خائنين، فإذ ذاك، فقط استأذن الكلاب النابحة وحدّث بلا حرج عن غدر الكلاب.

 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024