شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية 2018-07-25
 

الآثار السوريّة المسروقة: «لعبة القط والفأر»

صهيب عنجريني - الاخبار

لن يُغلق ملفّ الآثار السوريّة المنهوبة في المدى القصير، ولا حتى المتوسّط. ولا يحتاج الأمر إلى بحثٍ طويل للوصول إلى الحقيقة الكارثيّة: ستلزمُ سنين طويلة كي تستعيد البلادُ جزءاً ممّا خسرته في سنوات الحرب، ويبقى مصيرُ أجزاء أخرى غامضاً. الغريب أنّ دمشق ما زالت حتى الآن تتعامل مع ملف الآثار بصفته ملفّاً «جهويّاً» تتولّى مسؤوليّته «المديريّة العامّة للآثار والمتاحف» بمفردها، عوضاً عن تشكيل «لجنة عليا» أو «مجلس أعلى» تناط به مسؤوليّة هذا الملف الحسّاس.

تنقسمُ الآثار السوريّة المنهوبة إلى صنفين أساسييّن: الأوّل ما نُهب من بعض المتاحف والمنشآت التابعة للدولة السوريّة، والثاني ما تمّ نبشُه والتنقيب عنه بطرق غير مشروعة في عشرات المواقع الأثريّة التي خرجت عن سيطرة دمشق. ويبدو البحث في احتمالات استعادة الصنف الثاني على وجه الخصوص ضرباً من الإفراط في التفاؤل، لا سيّما أنّ أحداً لا يمتلك معلوماتٍ عمّا تمّت سرقتُه بما في ذلك الحكومة السوريّة والمؤسسات الآثاريّة التابعة لها.

«الإنتربول» ينتظر

تشيرُ تقارير صادرة عن منظّمة الشرطة الجنائيّة الدوليّة (الإنتربول) إلى أنّ الحكومة السوريّة لم تزوّد المنظّمة حتى الآن بقوائم توثّق القطع الأثريّة المسروقة من سوريا على رغم المطالبات المتكرّرة. يقرّ المدير العام لـ«مديريّة الآثار والمتاحف» السوريّة محمود حمّود بتأخّر المديريّة في إرسال القوائم التي طلبها «الإنتربول»، ويستفيض في شرح الأسباب والعقبات. يقول حمّود لـ«الأخبار»، إنّ «هناك آلاف القطع وربّما مئات الآلاف التي استُخرجت من المواقع والتلال الأثريّة بصورة غير شرعيّة، ونُقلت إلى دول الجوار ثمّ توزّعت في أنحاء العالم. هذه القطع بكل أسف غير موثّقة لدينا ولا نمتلك أي معلومات عنها لأنّها لم تكن مكتشفة قبل سقوط تلك المواقع في قبضة المسلّحين والتنظيمات الإرهابيّة المتطرّفة». كذلك؛ يوضح حمود، الذي عُيّن مديراً عامّاً في أيلول 2017، أنّ هناك مشكلات تتعلّق بتوثيق المقتنيات المتحفيّة التي سُرقت ونُهبت. يقول: «أهم أسباب تأخرنا في إرسال القوائم إلى الإنتربول أنّ كثيراً من السجّلات والوثائق المتحفيّة قد فُقدت وسُرقت وأُتلفت، ما يعني أنّنا فقدنا جزءاً كبيراً من أرشيفنا». ويضيف: «نعترف بوجود تقصير وعدم مسؤولية في الفترات السابقة من قبل المديرية العامة التي لم تقم بواجبها على أكمل وجه في توثيق هذه الثروة وأرشفتها وأتمتة سجلاتها». وجدت «المديريّة» حلّاً لمشكلة فقدان السجّلات، وهو التواصل مع البعثات الأجنبيّة التي نقّبت سابقاً في سوريا، بهدف الحصول على نسخٍ من قوائم المكتشفات التي تمّ تسليمها أصولاً من بعثات التنقيب إلى «المديرية العامةّ للآثار». يعدّد حمود بعض البعثات التي تم اللجوء إليها لترميم الأرشيف: بعثة الإيطالي باولو ماتييه (التي اكتشفت مملكة إيبلا في تل مرديخ في إدلب)، والإيطالية ستيفاني ماتسوني (نقّبت في تل آفس في إدلب،) والبعثات اليابانيّة التي نقّبت في تل الكرخ (إدلب)، وغيرها من البعثات التي نقّبت في إدلب والرقة وتدمر. ويضيف: «هذه العمليّة الشاقّة والمعقّدة استلزمت وقتاً طويلاً، خصوصاً أن هناك تفاوتاً في التعاون ما بين بعثة وأخرى، أوشكنا على استكمال الأعمال، وسنزوّد الإنتربول قريباً بقائمة هامّة جدّاً».

«ترميم الأرشيف»

يبدو المدير السابق لـ«الآثار والمتاحف» مأمون عبد الكريم «فخوراً بما أنجزته المديريّة في خلال سنوات الأزمة». يقول عبد الكريم (شغل منصب المدير العام بين عامَي 2012 و2015) إنّ «هناك إشادة من المجتمع الدولي بالتجربة السوريّة في الحفاظ على الآثار خلال الحرب».

العديد من القطع المعروضة على أنها سورية مزوّرة، 90% منها في لبنان

يستفيض في شرح حال الأرشيف الآثاري: «أرشيفنا قبل الأزمة كان يضم 9000 صورة نظاميّة، ومع بدء تفاقم الأحداث جيّرنا ميزانياتنا لنقل وأرشفة القطع الأثريّة. تم رفد الأرشيف بـ400 ألف صورة جديدة في خلال الأزمة. بحثنا عن حل لمشكلة السجلات التالفة، ونجحنا في إيجاده عبر التواصل مع البعثات التي نقّبت سابقاً، وضع باولو ماتييه كل أرشيفه تحت تصرفنا، وفعلت مثله العديد من البعثات. يمكننا القول إن أرشيف المديرية حالياً يحوي معظم، إن لم نقل كل، مقتنيات المتاحف في سوريا. ما أرشفناه في السنوات الخمس يعادل ما تمت أرشفته خلال عشرات الأعوام سابقاً». يشيد عبد الكريم بـ«تعاون وتفاعل كبيرين من كثير من الجهات الآثارية في العالم، هناك جامعات عالميّة أرسلت لنا (هاردات) ضخمة عبر اليونسكو لحفظ نسخ احتياطيّة من الأرشيف الذي وصلنا إليه خوفاً من حصول مشكلة إلكترونيّة تؤدي إلى امّحاء الذواكر».

«مقتنيات المتاحف بخير»؟

يؤكد عبد الكريم لـ«الأخبار» أنّ «99% من محتويات المتاحف السورية بخير وأنا مسؤول عن كلامي. قُمنا بنقلها إلى دمشق حيث صوّرناها ووثقّناها وأرشفناها، قبل أن يتم تغليفها بأفضل الشروط، ثم حُفظت داخل صناديق وغُرف معدّة خصيصاً لعزلها عن العوامل الجويّة كالرطوبة وغيرها». يعّدد عبد الكريم بعض عمليّات الإنقاذ التي نُفّذت في السنوات الأولى من عمر الحرب «نقلنا 30 ألف قطعة أثرية من دير الزور باستخدام طائرات اليوشن العسكريّة، نقلنا 14 ألف قطعة من حمص، نقلنا آلاف القطع من حماة وحلب والقنيطرة ودرعا ودير عطيّة». ويضيف: «المشكلة الأساسيّة تتعلّق بإدلب والرقّة، لا نعلم شيئاً مؤكّداً عن الوضع في إدلب، ولكن هناك معلومات وردتنا تقول إنّ كثيراً من الآثار مدفونة تحت الأرض وهي بخير». يعزو المدير السابق عدم تطبيق تجربة الإنقاذ في كلّ من إدلب والرقّة إلى «سقوط المدينتين بطريقة دراماتيكيّة وسريعة لم نكن نتوقّعها، فلم نستطع أن نُفرغهما قبل فوات الأوان. مع ذلك سلمت بعض الآثار في الرقة، فهناك على سبيل المثال 150 لوحة فسيفسائيّة طُمرت تحت الأرض بجهود موظفي الآثار الشجعان في الرقة، وبقيت سليمة حتى تحرير الرقة من داعش». ثمّة خسائر وقعت في أثناء عمليّات الإنقاذ. منها، وفقاً لعبد الكريم «فقدان صرّة كانت تحوي 28 مسكوكة ذهبيّة (بيزنطيّة وعباسيّة) أثناء إنقاذ محتويات متحف تدمر، وقد أعلمنا الإنتربول الدولي بذلك، التماثيل التدمريّة أيضاً بعضها أصابه الكسر وبعضُها نجحت عمليّة إنقاذه».

«القائمة الحمراء»

يؤيد المدير السابق كلام المدير الحالي، فـ«إشكاليات الملاحقة ترتبط بما تم نهبه من المواقع الأثرية مباشرة. المناطق التي خرجت عن سيطرة الدولة شهدت عمليات حفر وتنقيب ضخمة وعلى امتداد سنوات. وما أخرجوه من تحت الأرض هو حتماً غير موثّق لدينا». يشرح عبد الكريم أنّ «المديريّة» قامت بإعداد «قائمة حمراء» وأرسلتها إلى «الإنتربول» منذ خمسة أعوام. القائمة عبارة عن نمذجة للآثار السوريّة، تُعطي علامات ومواصفات تشير إلى أن القطع التي تحمل بعضاً منها قد تكون سوريّة. ووفقاً لعبد الكريم فهي «حققت نتائج لا بأس بها، إذ تواصل معنا الإنتربول مرات عدّة للتحقّق من هويّة بعض القطع التي ضُبطت، كما تواصل معي علماء وخبراء آثار من جنسيات مختلفة وأرسلوا صوراً لقطع شاهدوها معروضة للبيع لنقوم بالتحقق من هويتها». يورد عبد الكريم «ملاحظة هامة: كثير من القطع المعروضة في الأسواق العالميّة على أنها سورية يثبُت أنها مزوّرة، 70% من المعروض في أسواق العالم مزوّر، وحوالى 90% من القطع المعروضة في لبنان مزورة».

بعض الخسائر

علاوة على العدد المجهول من القطع الأثريّة التي استُخرجت من المواقع الأثريّة خارج سيطرة الدولة السوريّة، ثمّة أرقام موثّقة لدى «مديريّة الآثار» لما سُرق من المتاحف مباشرة. يقول المدير العام محمود حمّود إنّ «متحف إدلب كان يحوي حوالى 25 ألف قطعة أثريّة، عدا عن القطع غير الموثّقة التي كانت موجودة في مستودعات المتحف وعددها لا يقل عن 50 ألف قطعة. متحف الرقة نُهب بكامله وكان عدد القطع المسجلة فيه 5800 قطعة، إضافة إلى عشرات آلاف القطع غير المسجّلة كانت موجودة في المستودعات. 14 صندوقاً ضخماً مليئة بالقطع الأثرية نُهبت من هناك. كذلك كانت مستودعات (هرقلة) في الرقة مليئة بالآثار واللقى، وقد نهبت أيضاً. متحف حمص نُهبت منه في بداية الأحداث حوالى 400 قطعة». ويضيف: «نحن في انتظار تقرير اللجنة المكلفة بمسح وتقييم الأضرار في بصرى، والمعلومات الأولية تقول إن كثيراً من المحتويات والمقتنيات نهبت منذ خروج المدينة عن السيطرة».

في انتظار «الانفراج الديبلوماسي»

ضُبطت أعدادٌ من القطع الأثريّة السوريّة المسروقة في الأردن، لكنّها لم تُسلّم بعد إلى دمشق. وفيما تشير تقارير مختلفة إلى أنّ عمّان تنتظر مبادرةً من الحكومة السوريّة لتقوم بتسليم المضبوطات، يؤكد «مدير الآثار والمتاحف» محمود حمّود أنّه التقى نظيره الأردني الذي أكّد له أن المضبوطات «في الحفظ والصون».

ووفقاً لحمّود فقد وعدت «مديريّة الآثار الأردنيّة بالتواصل مع السفارة السوريّة في عمّان في الوقت المناسب لتسليمها المضبوطات، لكن الواضح أنّ الأمر بحاجة إلى قرار سياسي من الحكومة الأردنيّة». نسأل حمود: «ألم تقم وزارة الثقافة السوريّة بمخاطبتهم عبر الحكومة»؟، فيجيب: «لا، حتى الآن لم نحاول بصراحة. وما دامت هي بخير ومحفوظة فنحن غير قلقين، لا شك في أن العلاقات ستعود قريباً جداً مع الأردن، وستعود معها القطع الأثرية السورية». المشكلة الحقيقيّة وفقاً لحمّود «تتعلّق بالقطع الموجودة في قبضة الأتراك، هناك أكثر من 16 ألف قطعة اعترفت الجهات التركيَة بوجودها، وعلى رغم مطالباتنا المتكررة عبر اليونسكو لم نتلقّ أي تجاوب تركي بعد». بدوره، يرى مأمون عبد الكريم أنّ «انعدام العلاقات الديبلوماسية مشكلة كبيرة تعيق عمليّات الاستعادة. وقد استطعنا سابقاً استعادة بعض القطع من لبنان لأنّ العلاقات الديبلوماسيّة بيننا وبينهم لم تنقطع. حين يُبلغنا الإنتربول بضبط أي شيء فنحن لا نتمكن من استعادته إن لم تكن هناك علاقات بيننا وبين الدولة التي ضُبطت المسروقات على أراضيها». يوضح عبد الكريم أنّ «الحل البديل يكون اللجوء إلى المحاكم، وهذا حل يأخذ وقتاً طويلاً.

مثلاً نجحنا بعون من مؤسسة سعادة في إيقاف عمليّة بيع نصب آشوري كان معروضاً بمبلغ مليون دولار في مركز بونهامز». ويضيف: «أثبتنا أنه نصب سوري مسروق (خلُص خبراء إلى أنّه هُرّب من سوريا قبل الحرب بسنوات طويلة، وعلى الأرجح بين عامي 1999 و2000) لكننا لم نستعد النصب، والقضية مطروحة أمام محكمة بريطانيّة الآن. سويسرا صادرت قطعاً أثرية ليبيّة ويمنيّة وسوريّة لكننا لم نستعد شيئاً، وستبقى محفوظة عندهم إلى أن تعود العلاقات».

آثار سوريا المسروقة: كارثة نائمة

لن يُغلق ملفّ الآثار السوريّة المنهوبة في المدى القصير، ولا حتى المتوسّط. ولا يحتاج الأمر إلى بحثٍ طويل للوصول إلى الحقيقة الكارثيّة: ستلزمُ سنين طويلة كي تستعيد البلادُ جزءاً ممّا خسرته في سنوات الحرب، ويبقى مصيرُ أجزاء أخرى غامضاً. الغريب أنّ دمشق ما زالت حتى الآن تتعامل مع ملف الآثار بصفته ملفّاً «جهويّاً» تتولّى مسؤوليّته «المديريّة العامّة للآثار والمتاحف» بمفردها، عوضاً عن تشكيل «لجنة عليا» أو «مجلس أعلى» تناط به مسؤوليّة هذا الملف الحسّاس.


 

جميع الحقوق محفوظة © 2024 -- شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه