شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية 2019-12-30
 

تطوّر الفقر والبطالة واللامساواة في لبنان منذ سنة 1993 (1)

غالب أبو مصلح - البناء

يفتقر لبنان إلى البيانات الإحصائية الموثوقة. لا يعود هذا الفقر في الإحصاء إلى عجز مالي أو علمي، بل إلى سياسات مقصودة اتبعتها الحكومات المتتالية. بل إنّ الطبقة الحاكمة تاريخياً في لبنان والممثلة لمصالح رأس المال المالي والتجاري والمعادية لقطاعات الإنتاج السلعي، كانت دائماً حريصة على إخفاء الواقع الاقتصادي الاجتماعي وإحاطة أعمالها بالسرية، واستعمال “التقديرات” الإحصائية كسلاح سياسي، لتزيين أدائها وإخفاء الواقع عن الجماهير. كلّ الأرقام الإحصائية المتداولة عبارة عن “تقديرات” يسهل التلاعب بها في غياب الإحصاءات العلمية. يقول الرئيس سليم الحص إنّ الأرقام المتداولة في لبنان هي “وجهة نظر” في أكثريتها. لا نعرف بالتحديد عدد السكان والناتج المحلي ومعدلات التضخم، أو معدلات الفقر والبطالة والهجرة، وحتى أننا لا نعرف بالتحديد كمية الدين العام، والاحتياطات النقدية الصافية، وتوزيع الناتج المحلي على السكان. كما مساهمة مختلف القطاعات الاقتصادية بهذا الناتج. حققت بعض المنظمات الدولية والمؤسّسات اللبنانية مسوحاً بالعيّنة الإحصائية، مع هامش واسع متاح فيها للخطأ. تبقى هذه المسوحات مؤشرات موثوقة لتطوّر الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية يمكن الاعتماد عليها في الحكم على التطورات الاقتصادية والاجتماعية.

تترابط مؤشرات البطالة والفقر واللامساواة في توزيع الثروة والمداخيل. تشكل البطالة في الدول النامية خاصة، السبب الأهمّ للفقر والفقر المدقع ولنمو اللامساواة. تكمن الأسباب الحقيقية للفقر والبطالة في السياسات النقدية والمالية والاقتصادية التي تنتهجها الطبقات الحاكمة بحكم تكوينها ومصالحها المادية وعلاقاتها المحلية والدولية، وبالتالي بأيديولوجيتها المعلنة أو المستورة. لا تنتج “الديمقراطية” كنظام للحكم تمثيلاً حقيقياً لمصالح الجماهير، وخاصة في الاقتصادات الناشئة كما هي الحال في لبنان. لا يمثل أعضاء الندوة البرلمانية مصالح الجماهير التي “انتخبتها” وخاصة في نظام تمثل الولاءات الطائفية فيه “أولوية” في تسلسل الولاءات لدى الكثيرين، وتعمل الزبائنية السياسية المرتكزة إلى الطائفية في طمس الوعي الطبقي، وتمكن النخب السياسية من الإفلات من المحاسبة الدورية عبر الانتخابات، والتحاق هذه “النخب” بالطبقة الحاكمة وخدمة مصالحها المتناقضة مع مصالح الأكثرية الساحقة من الجماهير اللبنانية.

نشأت الطبقة الحاكمة في لبنان في النصف الثاني من القرن التاسع عشر في بيروت، برعاية “القناصل الخمسة” الأوروبيين، وفي ظلّ الحكم العثماني المنهار والمثقل بالمديونية. ترسّخت هذه الطبقة في ظلّ حكم نظام “المتصرفية” حيث أصبحت بيروت مدينة مفتوحة، ومركزاً لإنتاج الخدمات الشاملة للتوسع الأوروبي في المشرق العربي. ازدهرت بيروت، وامتصت لبنان اقتصادياً وعمرانياً نتيجة هذا الدور، وخاصة بعد إنشاء دولة لبنان الكبير سنة 1920 وحتى أواسط سبعينات القرن الماضي. كان دور بيروت، وبالتالي لبنان، إنتاج الخدمات التي يحتاجها المحيط، وخاصة الخدمات المالية والتجارية، كما خدمات الطب والتعليم الجامعي والسياحة والاصطياف والإعلام. لكن مع بدايات الحرب الأهلية في السبعينات، تمّ الاجتياح الصهيوني الإمبريالي في الـ 1982، وما واكبه من حرب أهلية وارتفاع كبير في التدفقات النقدية على دول الداخل العربي منذ سنة 1973، وما أحدثته هذه الثروات من تجديد بناها التحتية ومؤسّساتها، فقد لبنان دوره الاقتصادي التاريخي في المشرق العربي. أضف إلى تطورات الداخل اللبناني ومحيطه انتقال مركز الثقل الاقتصادي العالمي، تدريجياً، من الغرب الأوروبي الأميركي، إلى الشرق الآسيوي، حيث أصبحت بعض إمارات الخليج هي بوابة المشرق العربي اقتصاديا وخدماتياً، بسوقها المالية الضخمة وبناها التحتية ومرافقها الحديثة الجوية والبحرية العالية الكفاءة.

مثل مؤتمر الطائف مرحلة جديدة في تاريخ لبنان. بالرغم من هزيمة العدوان الصهيوني الإمبريالي وحلفائه المحليين ونظامه المستتبع للخارج الإمبريالي الصهيوني، استطاعت التحالفات الإقليمية والدولية إعادة بناء النظام اللبناني من “الحجارة” القديمة البالية ذاتها، وعلى أسوأ مما كان عليه النظام السابق على الصعيد الطائفي والطبقي والفكري. مثَّل الرئيس رفيق الحريري وحكومته الأولى عنوان المرحلة الجديدة والمستمرة حتى اليوم بأيديولوجيتها (نسخة كربونية ملوَّثة من الليبيرالية الجديدة) ونهجها الاجتماعي الاقتصادي، وأخلاقيات السوق الرأسمالية المتفلّتة من أية قيود، الهادفة إلى مراكمة رؤوس الأموال وتشييئ الإنسان. مثَّل هذا النهج ثورة الرأسمالية المصرفية والتجارية على كلّ القوى العاملة اللبنانية، وخاصة العاملين في قطاعي الصناعة والزراعة. يمكننا القول إنّ لبنان اليوم هو نتاح 27 عاماً ونيِّف من هذه السياسات.

قفز الرئيس رفيق الحريري إلى السلطة بشبة انقلاب على حكومة الرئيس عمر كرامي، وأمسك بفريقه الخاص مفاصل السلطة الاقتصادية والمالية والنقدية؛ غيَّر حاكمية مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف (السلطة النقدية)، أمسك بوزارتي المال والاقتصاد كما بوزارة العدل. حمل الحريري أيديولوجية الليبيرالية الجديدة المطعَّمة “بتجربته” في السعودية، والتصاقه بنظامها ونهجها المتفلت من أحكام الدستور والقوانين والتشريعات. راهن على “الصلح القادم” مع العدو الصهيوني وبرنامج شمعون بيريز لبناء نظام “شرق أوسط جديد”، راهن على تجديد دور لبنان الذي طوته الأحداث اللبنانية وتطورات المحيط. استقدم الرئيس الحريري شركة “بكتل” (أكبر شركة مقاولات هندسية في العالم) لتضع برنامجاً تنموياً للبنان (اقرأ كتاب بركنز، “إعترافات قناص إقتصادي”، لتوضيح سياسات بكتل واستهدافاتها) بالتعاون مع دار الهندسة (شركة مقاولات هندسية أخرى)، كما استقدم شركة كهرباء فرنسا EDF لإعادة بناء قطاع الطاقة الكهربائية في لبنان (ما زالت تقوم بهذه المهمة حتى اليوم، وللموازنة ولو جزئياً بين التبعية لأميركا والتبعية لفرنسا). كرّس الرئيس الحريري إلغاء وزارة التصميم، وعزّز مكانها “مجلس الإنماء والإعمار” (مؤسّسة مقاولات غير خاضعة لمؤسسات التفتيش والمساءلة)، و”جمَّد” أجهزة التفتيش والمراقبة، كما مجلس الخدمة المدنية، وألحق مجلس النوَّاب (السلطة التشريعية) بالحكومة (السلطة التنفيذية)، ملغياً دور مجلس النواب في المراقبة ومحاسبة السلطة التنفيذية، وتمكن بالتالي من تجاوز “قوانين” الموازنة العامة في الإنفاق – وخاصة الإنفاق غير المجدي – ومراكمة الدين العام بعيداً عن المساءلة والمحاسبة. لم يعد للدستور والقوانين اللبنانية قيمة كبيرة، إذ تمّ تجاوزها بدعوى رفع كفاءة العمل لإعادة “إعمار لبنان”. أضف إلى ذلك التشبّث بقانون “السريَّة المصرفيَّة” الذي تمّ إقراره في خمسينيات القرن الماضي لتمكين الأثرياء وكبار الشركات والمؤسسات من التهرّب من ضريبة الدخل. وكثيرا ما تعمد السلطات إلى “تزوير” الإحصاءات الرسمية و”تعديلها” لتتلازم مع مصالحها وتزيِّن أداءها، أو منع إجراء الإحصاءات وإخفائها بحجة سرِّيتها 1.

كانت السياسات النقدية كارثية: معدلات فوائد حقيقية بلغت أكثر من 18% (في الوقت الذي يتطلب فيه إعادة البناء فائدة حقيقية تحوم حول الصفر) وسعر صرف حقيقي متصاعد بنسب عالية 2، مما أفقد الإنتاج اللبناني قدراته التنافسية في السوق المحلية كما في الأسواق التجارية، وأدَّى إلى تزايد العجز في الميزان التجاري، وتراجع الإنتاجية اللبنانية، وخاصة في قطاعي الزراعة والصناعة. أما استهدافات السياسات النقدية فكانت “حمقاء”، إذ استهدفت رفع ربحية المصارف وزيادة رؤوس أموالها بالاستناد إلى شعار مضلل وخادع يقول بأنّ قوة الاقتصاد يتمثَّل بقوة القطاع المصرفي. هذا القول الذي ما زال الجهلة أو المضاربون والسماسرة يردّدونه حتى اليوم. فقطاع المصارف هو قطاع وسيط بين المدَّخر والموظِّف. تقاس كفاءته بكلفة هذه الوساطة، أيّ بمقدار الهوَّة بين الفائدة الدائنة والمدينة، وبحسب توزيع القروض على القطاعات الوطنية الأكثر إنتاجيَّة والأقدر على خلق فرص عمل جديدة. بحسب هذه المقاييس كان القطاع المصرفي ليس فاشلاً فقط بل متآمراً على الاقتصاد الوطني، وسبباً أساسياً في وصول الأوضاع الاقتصادية الاجتماعية إلى ما وصات إليه.

كانت السياسات المالية كارثية أيضاً. فقد خُفِّضت الضرائب عن كاهل الأثرياء ومصادر المداخيل الريعية، ورفعِها على عاتق الطبقات الفقيرة والمتوسطة، وعلى عاتق قطاعات الإنتاج السلعي، عبر سياسات جمركية تعاقب الإنتاج لحماية الاستيراد، وعبر سياسة خلق احتكارات جديدة إلى جانب البنى الاحتكارية السابقة، وعبر إسقاط الهوامش الأعلى لأرباح تجار الجملة ونصف الجملة والمفرّق. ركزت وزارة المالية اهتمامها، وكذلك البحث في أمر الموازنات العامة، على موضوع العجز والفائض في الموازنات، وطمست المؤشرات الأساسية، وأهمّها: توزيع أعباء الضرائب على الطبقات الشعبية، توزيع الإنفاق بين الإنفاق الجاري والإنفاق الاستثماري، أو الإنفاق المجدي، حصَّة الإنفاق الاجتماعي من الإنفاق العام، تنمية البنى التحتية الشاملة، وقع السياسة المالية على إعادة توزيع الناتج المحلي، تأثير السياسات المالية على البطالة، الفقر، الهجرة، والهجرة من الريف إلى أحزمة الفقر حول المدن، وغيرها من الاستهدافات الأساسية. ثم تمّ تعطيل دور مجلس النواب في إقرار مشروعات الموازنة التي تضعها الحكومات بعد الموافقة على قطع حساب السنة السابقة من كلّ سنة، أيّ أنّ جبايات المالية العامة وإنفاقها كان يتمّ خارج القانون، ودون اعتراض من مجلس النواب. وإذا ما ناقش بعض أعضاء مجلس النواب الموازنة العامة، فإنّ نقاشها كان دائماً جانبياً وسطحياً وديماغوجياً ومخادعاً بالنسبة للأكثرية الساحقة من النواب الذين فشلوا في تمثيل مصالح الجمهور الذي يدَّعون تمثيله، وخاصة جمهور الأرياف العاملة في الزراعة، والمحرومة من معظم الخدمات الضرورية.

أما السياسات الاقتصادية، فكانت مغيَّبة كليّاً، ويستعاض عنها بالوعود المخادعة والكاذبة من قبل الحكومات، مثل شعارات “مكافحة” الفقر والبطالة والهجرة، وتأمين الخدمات الأساسية، سكن، تعليم، كهرباء، طرق، صرف صحِّي، خدمات طبيَّة الخ… والتي كانت تتدهور باستمرار، رغم “مكافحة” الحكومات، أو بسبب هذه المكافحات. فقد ألغت الطبقة الحاكمة وزارة التصميم، وعادت إلى آراء ميشال شيحا التي دفنها العالم منذ أكثر من مئتي عام، من “اليد الخفيَّة” التي اتُّهم بها آدم سميث وهو براء منها، والعداء لقطاعات الإنتاج السلعي، “وتمجيد التجارة “ و “الربا” منظِّراً لاستبداد الرأسمال التجاري والمالي في حكم لبنان. بسبب تكوين الطبقة الحاكمة في لبنان، تمّ العمل على محو الآثار التحديثية للرئيس فؤاد شهاب، بعد منع التجديد له.

ما الذي أنتجته هذه السياسات الكليَّة الثلاث، النقدية، والمالية، والاقتصادية في لبنان؟

نتائج السياسات الكليَّة

على الاقتصاد منذ سنة 1992

كانت حصيلة هذه السياسات الكلَّية، وفي ظلّ أيديولوجية الليبيرالية الجديدة سلبية جداً على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي. انتجت هذه السياسات:

نمواً متسارعاً في الدَّين العام وبكلفة هذا الدَّين. وصل مجمل الدين العام الحقيقي (المسنَّد وغير المسنَّد) إلى أكثر من 200% من الناتج المحلي القائم، ووصلت أعباؤه إلى أكثر من 50% من الضخّ الضريبي للمالية العامة.

تفاقم عجز ميزان المدفوعات، إذ بلغ الاستهلاك أكثر من 325% من الإنتاج الوطني

تفاقم عجز الميزان التجاري، وتجاوز الـ 15 مليار دولار سنوياً. تراجع هذا العجز في الميزان التجاري كنسبة من الناتج المحلي القائم المقدَّر خلال السنوات السبع الأخيرة، نتيجة نمو اللامساواة في توزيع الناتج – نتيجة تقلص نصيب القوى العاملة وزيادة نصيب رؤوس الأموال، مما أفقر القوى العاملة وخفَّض من قدراتها الاستهلاكية

نمو الكتلة النقدية وأعباء هذه الكتلة على الاقتصاد، وارتفاع كلفتها إلى أكثر من 20% من الناتج الحقيقي، بينما لا يجوز أن يتجاوز نصيبها من الناتج المحلي القائم 5% أو 6% 4. كانت معدلات الفائدة الحقيقية أعلى بكثير من معدلات نمو الناتج المحلي الحقيقي، أيّ أنّ قطاع المال الخدماتي كان يستولي على نسبة متزايدة من الناتج منذ سنة 1992، وعلى حساب الأجور والرواتب بشكل أساسي.

ارتفاع حجم السلطة ونسبة إنفاقها من الناتج المحلي، مع تقليص دورها التنموي والخدماتي، وتدهور البنى التحتية وارتفاع مستوى الفساد فيها، والإنفاق المتنامي على أجهزة القمع لحماية الطبقة الحاكمة ومصالحها.

زيادة معدلات الفقر والبطالة واللامساواة، والهجرة من الريف إلى أحزمة الفقر حول المدن والهجرة من لبنان إلى الخارج وليس من أجل “رفع علم لبنان عالياً” في أرجاء العالم كما يحلو للبعض أن يتوهّم.

سنركِّز في بحثنا على هذه الظواهر الاقتصادية الاجتماعية. أيّ الفقر والبطالة واللامساواة

الفقر

تختصر دراسة أجراها “برنامج الأمم المتحدة للتنمية” UNDP عن تطورات الأوضاع الاقتصادية – الاجتماعية في لبنان لسنوات 1992-1999، نتيجة السياسات الاقتصادية، ومنحى تطورها منذ سنة 1992 وحتى اليوم. باختصار شديد تقول الدراسة:

1 ـ حول نمو الفروقات الطبقيَّة

أ ـ ارتفاع دخل الطبقة العليا بمعدل 4.8% سنوياً.

ب ـ تراجع دخل الطبقة الوسطى بمعدل 8.4% سنوياً.

ج ـ تراجع دخل الطبقة الدنيا بمعدل 4.6% سنوياً

2 ـ تعميم الفقر والتساقط الطبقي

أ ـ ارتفاع نسبة الأُسر ذات المداخيل الدنيا من 20.4% سنة 1974 إلى 54.6% عام 1997، وإلى 61.9% عام 1999.

ب ـ تراجع نسبة الأُسر في الطبقة الوسطى من 60.1% سنة 1974 إلى 40.2% سنة 1992، وإلى 29.3% عام 1999.

ج ـ تراجع نسبة الأُسر في الطبقة العليا من 19.5% سنة 1974 إلى 10% سنة 1992، ثم إلى 8.8% عام 1999.

3 ـ الخدمات الصحَّية

أ ـ عند 9.4% من الأسر في لبنان فرد مريض محروم من العلاج بسبب الفقر.

ب ـ 28.3% من اللبنانيين فقط يستفيدون من الضمان الصحي من الصندوق الوطني وتعاونية الموظفين وتعاونية الجيش.

ج ـ إذا ما سُمِح لمكتب الدواء في استيراد الأدوية، أيّ القيام بالعمل الذي أُنشئ من أجله، تنخفض أسعار الأدوية بحوالي 50%. وإذا سُمح بتشغيل وتنمية مستشفيات القطاع العام، فإنّ نصف ما ينفق الآن على الصحَّة يؤمِّن الخدمات الصحية – طبابة واستشفاء – لجميع اللبنانيين (منعت البنى الاحتكارية المسيطرة عمل مكتب الدواء، كما تطوير مستشفيات القطاع العام) والمستشفيات والمدارس معفية من ضريبة الدخل.

في سنة 2009 أطلقت وزارة الشؤون الاجتماعية وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي UNDP تقرير “الفقر والنمو واللامساواة في لبنان” إلى جانب تقرير بعنوان “خارطة الفقر البشري وأحوال المعيشة في لبنان 2004”. يقول التقرير أن ما يقارب 8% من سكّان لبنان يعيشون تحت خط الفقر المدقع، أي أن حوالي 300 ألف نسمة في لبنان لا يستطيعون تلبية احتياجاتهم الأساسية الغذائية (أو غير الغذائية). يحتاج المواطن إلى 72 دولار شهرياً لتلبية حاجاته الغذائية، بينما يبلغ مستوى الإنفاق على الغذاء عند الفئة المذكورة معدل 59 دولار. وصل المؤشر العام لنسبة الفقر إلى 28.5%، أي أنه يشمل مليون نسمة من اللبنانيين. تستثني الدراسات اللتان تعبران عن واقع المقيمين اللبنانيين خلال العامين 2004-2005 المخيمات الفلسطينية. ويشير التقرير إلى أن المساحات الفقيرة الأكبر في لبنان تتركز في أربع مناطق: طرابلس وعكار (المنية–الضنية)، وجزين (صيدا)، والهرمل (بعلبك). تضم هذه المناطق الأربع ثلثي “الفقر المدقع” ونصف إجمالي السكان الفقراء، بالرغم من انها تمثل أقل من ثلث السكان 5.

تدرك الطبقة الحاكمة، ممثلة بمجلس الوزراء ومجلس النواب، ارتفاع معدلات الفقر والفقر المدقع بين اللبنانيين، بالرغم من ذلك يطرح الحكم في كل سنة رفع معدل الضريبة على “القيمة المضافة” من 10% إلى 12%، وهم يدركون مفاعيل ذلك. تقول دراسة وضعتها كلية الاقتصاد في الجامعة الأميركية في بيروت، وبالتنسيق مع وزارة الشؤون الاجتماعية ضمن “مشروع بناء القدرات للحد من الفقر”، أن ارتفاع الضريبة على القيمة المضافة من 10% إلى 12% سيؤدي إلى خفض الإنفاق الاستهلاكي لدى الأُسَر الفقيرة بنسبة 11%، ويرتفع بالتالي نسبة من يعيش تحت خط الفقر المدقع من 8% إلى 10% من السكان، ومن يعيشون تحت خط الفقر من 28% إلى 35% 6.

أظهرت دراسة أجرتها منظمة “الإسكوا” عن مدينة طرابلس أن نسبة الفقر قد ارتفعت إلى 60%، وان 51% يعيشون تحت خط الفقر المدقع، وأن نسبة البطالة بلغت 30%، ونسبة الأميَّة 11%، والتسرّب المدرسي 58% للذين تتراوح أعمارهم بين 14 و19 عاماً. كما أظهرت الدراسة أن 73% من العائلات ليس لديها تأمين صحّي7.

أظهرت دراسة أجراها “المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق” عن أوضاع المعيشة في لبنان لسنة 2014-2015 أن نسبة من هم دون خط الفقر المدقع قد ارتفعت إلى 14% من السكان، ومن هم دون خط الفقر إلى 36% من السكان. كما أظهرت دراسة لمجموعة البنك الدولي حول مستوى الفقر في لبنان (التي تندرج في إطار اتفاقية الشراكة التي وقعتها مع الحكومة اللبنانية)، أن 30% من سكان لبنان يعيشون تحت الحد الأدنى للفقر (الفقر المدفع)، أي أن نحو مليون شخص يبلغ مستوى استهلاكهم السنوي نحو 4,729,000 ليرة لبنانية ($8.6 في اليوم). وأشارت الدراسة أن نسبة الفقر تختلف بين منطقة وأخرى، فهي 16% في بيروت، 22% في جبل لبنان، 25% في النبطية، 31% في الجنوب، 36% في الشمال، و 38% في البقاع 8.

لا توجد دراسات ولو تقديرية لمستويات الفقر في لبنان منذ سنة 2016، ربما منعاً “لإحراج” الحكم ومجاراةً له. ولكن يمكننا تقدير خطي الفقر والفقر المدقع حسب احتسابات أوروبا وأميركا لهذه الخطوط. تحتسب السوق الأوروبية المشتركة خط الفقر كنسبة 60% من معدل دخل الفرد، وفي الولايات المتحدة كنسبة 50% من معدل دخل الفرد (أيّ الناتج المحلي القائم مقسوماً على عدد السكان). وإذا افترضنا انّ حجم الناتج المحلي المقدّر من قبل النظام لسنة 2019 بحوالي 59.6 مليار دولار مبالغ فيه لأسباب سياسية (لخفض نسبة الدين العام للناتج مثلاً) وقدّرنا الناتج المحلي الإجمالي بـ 50 مليار دولار وعدد السكان بـ 5 ملايين كحدّ أقصى، ونسبة الإعالة أربعة لواحد (العائلة مؤلفة من زوج وزوجة وثلاثة أولاد – والزوجة لا تعمل مقابل أجر) فيكون خط الفقر، وحسب احتساب خط الفقر الأميركي، 2083 دولار في الشهر للعائلة. وإذا كان خط الفقر المدقع هو نصف معدل خط الفقر، أيّ 1042 دولار في الشهر، فيكون الحدّ الأدنى للأجر في لبنان، أيّ حوالى 425 دولار، يساوي نصف مستوى خط الفقر المدقع. ويمكننا القول إنّ أكثر من نصف اللبنانيين يعيشون تحت خط الفقر المدقع. والسؤال الذي يطرح، كيف استطاع الشارع اللبناني أن يصبر على هذا الوضع حتى اليوم قبل أن ينفجر؟

الأجور

أعادت الليبيرالية الجديدة توزيع الناتج بين القوى العاملة ورؤوس الأموال لمصلحة الأخيرة. يعيد البعض تدني نصيب القوى العاملة من القيمة المضافة في عملية الإنتاج إلى تسارع تطور العلوم والتقانة، وإلى نمو نسبة رؤوس الأموال الثابتة في مؤسسات الإنتاج السلعي بشكل خاص، إذ تسارع انتقال “الذكاء” والمهارات والجهد الجسدي المطلوب من الإنسان إلى الآلة، كما وجدت رؤوس الأموال، مع تطور قدرات الحواسيب ووسائل الاتصال، مجالات التوظيف المربح في سوق “المضاربات”. تمّ خلق “فضاء افتراضي” تدور فيه رؤوس الأموال، خارج نطاق الإنتاج، للمتاجرة بـ “المخاطر”، وبالاستناد إلى أوراق مالية منبثقة ومستندة إلى قطاعات الإنتاج، في ما يسمى بـ “المشتقات” Derivatives. بلغت كمية الأموال المتداولة يومياً في عمليات “المضاربة” بين مراكز المال في العالم، أكثر من ألف ضعف كمية الأموال المتداولة في إطار التجارة الدولية. خفّفت هذه التطورات من تدني مردود الأموال في الإنتاج، وبالتالي نصيب رؤوس الأموال من القيمة المضافة. كما عملت الليبيرالية الجديدة على “تحرير” سوق العمل، عبر “تسهيل” عملية الصرف والتوظيف للقوى العاملة، دون قيود وعقبات، واستبدال العمل الدائم بالعمل المؤقت وحتى اليومي، وترك آليات السوق لتحديد الأجور، دون تدخُّل السلطات الرسمية. وسعت في الوقت ذاته إلى تدمير المؤسسات النقابية الحامية لحقوق العمال، فوضعت العامل “العاري” من مؤسسات الحماية وحماية قوانين العمل، أمام قدرات الرأسمالي المالك لوسائل الإنتاج.

لم تستطع الليبيرالية الجديدة، حتى في أعتى معاقلها أن تنفّذ كامل برامجها كما فعلت في لبنان. استغلت الطبقة الحاكمة المتجدّدة بعد مؤتمر الطائف، الدمار الهائل في لبنان وتفشي الفقر والبطالة، لتطبيق مبادئ الليبيرالية الجديدة، وأن تطلق الكثير من القوانين والتشريعات التي رسَّخت نظاماً أكثر ظلماً وفساداً ووحشيةً من النظام اللبناني السابق. كما استطاعت هذه الطبقة أن تفتت التنظيمات النقابية وان تسخّر العديد منها لخدمة أصحاب رؤوس الأموال بدل الدفاع عن حقوق الطبقة العاملة، وخاصة في القطاعات الخدماتية مثل قطاع المال، وجمعية موظفي المصارف، التي تأتمر بأوامر جمعية المصارف، ولا تكترث لتجريد العاملين من حقوقهم التاريخية، في الوقت الذي تتعاظم فيه “ربحيّة” المصارف. فقد تمّ رفع ساعات العمل الفعلي للموظفين بنسبة 50% على الأقلّ دون زيادة في الأجور، وأصبح العقد الجماعي في طيّ النسيان، وكذلك ربط الأجور بمعدلات التضخم وبالإنتاجية. وتسارع النقابة إلى الإعلان عن الإضراب العام تلبية لتوجيهات جمعية المصارف وفي إطار الضغوطات على الحراك الشعبي الراهن. أما نقابة موظفي مصرف لبنان ونقابة موظفي شركة طيران الشرق الأوسط MEA، التابعة لمصرف لبنان، فلا تقلان طواعيةً عن نقابة موظفي المصارف لحاكم مصرف لبنان.

استطاعت الطبقة الحاكمة إجهاض عمل النقابات عبر تفتيتها. كان هناك 650 نقابة في لبنان سنة 2010، “منها 580 نقابة عمّالية تنضوي تحت لواء 51 اتحاداً عمالياً، تشكل الهيئة العامة للاتحاد العمالي. معظم الاتحادات العمالية لها صبغة طائفية وذات توجهات تمثل أصحاب رؤوس الأموال لا القوى العاملة: 15 اتحاداً لحركة أمل، 8 إتحادات للقوات اللبنانية، 7 إتحادات لحزب الله، 6 إتحادات للحزب الشيوعي، إتحاد واحد للحزب القومي، 3 إتِّحادات لحزب البعث، إتِّحاد للحزب التقدمي الاشتراكي، إتِّحاد واحد لحزب الكتائب، إتحادان لتيار المستقبل بالاشتراك مع حركة أمل”. يُعدّ عدد المنتسبين لهذه النقابات 50 ألف عامل (معدل عدد العمال في النقابة الواحدة 86 عامل)، وتقدّر نسبة العمال المنتسبين إلى نقابات عمالية بـ 2 أو 3 % من مجموع القوى العاملة. 9

يعود هذا الوهن النقابي إلى بنية القوى السياسية الطائفية الطاغية في لبنان، كما إلى تردّي قطاعات الإنتاج الحقيقي ونصيبها من الناتج المحلي القائم، وإلى صغر حجم مؤسّسات الإنتاج، حيث تسود العلاقات “العائلية” أو شبه العائلية بين العمال ورب العمل. بلغت حصة الأجور في القطاع الصناعي لعام 1964 أكثر من 42% من القيمة المضافة. تدنّت هذه النسبة إلى 29.1% عام 1997 وإلى 24.2% لعام 2003، ثم ارتفعت إلى 26.5% لسنة 2007 للمؤسسات الصناعية التي تضمّ اكثر من 5 عمال.10

كانت حصة الأجور في لبنان كنسبة من القيمة المضافة سنة 2010 أقلّ بنسبة 40% منها في الدول النامية حسب إحصاء منظمة العمل الدولية. فهي أقلّ من مثيلاتها في 31 دولة من أصل 39 دولة شملتها دراسة المنظمة. كانت هذه الحصة في لبنان تصل إلى 70% عند بداية السبعينات.11

تضاعف معدل زيادة الدخل الفردي في التسعينات (حسب تقديرات البنك الدولي وبالأسعار الجارية) خمس مرات، مقابل زيادة متوسط الأجر مرة ونصف، كما طرأ انخفاض كبير على مستويات أجور العمال المهرة وغير المهرة والمزارعين، حسب أرقام مركز الإحصاء اللبناني. وتراوح تدني الأجور الحقيقي بين 25.5% للمزارعين و11.6% للعمال المهرة.

بلغ نمو الناتج المحلي في لبنان خلال الفترة 1997 – 2012 ضعفي نمو الأجور. كان النمو المتراكم في الناتج 80% حسب التقديرات الرسمية في الوقت الذي ارتفعت فيه الأجور بمعدل 27% فقط، وبما لا يزيد عن 11.5% في سنوات 1997-2007. ازدادت حصة الفرد من الناتج بمعدل تراكمي مقداره 69% تقريباً مقابل زيادة تراكمية في معدل الأجر الحقيقي للعامل مقدارها 14% فقط وفق أعلى التقديرات.12

البطالة

ليس من السهل تقدير نسبة البطالة الحقيقية الشاملة، الظاهرة والخفية، في أيّ بلد في العالم، وخاصة في لبنان، لغياب الإحصاءات. ليس هناك تحديد أو تعريف للبطالة في الإحصاءات اللبنانية. هل يتمّ تقدير البطالة الخفية في الريف، وكيف يتمّ تقدير البطالة في قطاع الزراعة حيث ما زال هذا القطاع متخلفاً جداً، يمثل معظم العاملين فيه “عائلات” تعمل كلها، وبمعظم أوقاتها في الزراعة (رجال ونساء وأطفال) في أرض تملكها أو تستأجرها من كبار الملّاكين. هل تشمل البطالة أعداد المعوَّقين والسجناء مثلاً والبطالة الخفية في العديد من الإدارات العامة؟ ربما دلّت معدلات الهجرة المرتفعة من سكّان الريف إلى تنامي البطالة في قطاع الزراعة بشكل خاص، وزيادة سكان أحزمة الفقر حول المدن، حيث تبقى الحياة رغم بؤسها أفضل من الحياة في ظلّ البطالة في الأرياف.

تراجع عدد سكان الريف اللبناني، حسب إحصاءات أجهزة الأمم المتحدة من سنة 1950 إلى سنة 2018، من 68% إلى 11% من عدد السكان، كما تراجع عدد العاملين في الزراعة من سنتي 1970 و2015 من 19% من القوى العاملة إلى 6% فقط. 13

قدّر البنك الدولي معدل البطالة لدى الشباب في لبنان بـ 34% عند أواخر سنة 2012. وقدر رئيس الاتحاد العمالي العام غسان غصن، معدل البطالة بـ 38% عند نهاية سنة 2013. أما وزارة العمل فقدرت معدل البطالة بين القوى العاملة عند نهاية سنة 2015 بـ 25%. وقدرتها مجموعة من رجال الأعمال لها بـ 36% في سنة 2016 14. يقول تقرير لوزارة العمل، انّ لبنان بحاجة إلى إيجاد فرص عمل جديدة سنوياً بحدود 23,000 فرصة عمل، والاقتصاد لا يولّد أكثر من حوالي 2,800 فرصة عمل.15

اما جهود النظام اللبناني في خلق فرص عمل جديدة فمتواضعة جداً. تمّ في سنة 2000 إقامة “صندوق التنمية الاقتصادية الاجتماعية في لبنان”، في إطار الشراكة الأوروبية – المتوسطية، ومن خلال اتفاق تمويلي بين الحكومة اللبنانية والمفوضية الأوروبية. موّل الصندوق، منذ أن بدأ عمله في سنة 2003 وحتى نهاية 2010 (وعبر تقديم القروض) 5220 مؤسسة صغيرة ومتوسطة الحجم. بقيمة 44 مليون دولار، وخلق بذلك 2353 فرصة عمل جديدة. أيّ أنه ساهم في خلق 419 فرصة عمل جديدة في السنة كمعدل عام، أيّ حوالي 1.8% من حاجات سوق العمل السنوية في لبنان، وبكلفة إقراض قدرها 13,126 دولار لكلّ فرصة عمل. مقابل هذا الكرم الأوروبي، دَمّرت الشراكة اللبنانية – الأوروبية عشرات أضعاف (من فرص العمل) ما ساعدت في إيجادها في لبنان عبر إغراق السوق اللبنانية بصادراتها المعانة، كما سنرى لاحقاً.

المهم في تجربة الصندوق، أنّ خلق فرص عمل جديدة لا يحتاج إلى تمويل غير متوفر أو متيسّر في لبنان. إنّ إيجاد 23,000 فرصة عمل – حسب عمل الصندوق كان بحاجة إلى حوالي 300 مليون دولار سنوياً. حتى ولو تمّ مضاعفة هذه الكلفة بسبب التضخم، فإنّ مبلغ 600 مليون دولار في السنة، حتى ولو تحوّل إلى هبات، لا يشكل عبئاً مادياً على الخزينة، إذ سيولد من المداخيل الإضافية، ويوفر على القطاع العام من الإنفاق الضروري أكثر من هذا المبلغ. لا شك أنّ إيجاد العدد الكافي من فرص العمل الجديدة يحتاج إلى أكثر من تأمين القروض الميسّرة لقطاع الأعمال الصغيرة والمتوسطة، ويفرض إنفاقاً مدروساً ومخططاً له في البنية التحتية، كما متغيّرات كبيرة في السياسات النقدية والمالية والاقتصادية. ولكن حلّ مشاكل الفقر والبطالة في لبنان أمر ممكن ويقع ضمن إمكانات وطاقات الاقتصاد اللبناني، ولكنه يتناقض مع مصالح الطبقة الحاكمة.

تمكنت السياسات الكلية، بجانب الفساد الذي أصبح جزءاً من بنية الإدارة والنظام، وخلال سنتي 2003 و2004 من إقفال 570 مصنعاً في قطاع الملبوسات فقط، وقضت على 7 آلاف فرصة عمل في هذا القطاع. علت صرخات قطاع صناعة الجلود سنة 2001 محذرة من احتضار هذا القطاع (أحذية وجزادين – دباغات الجلود…) نتيجة السياسات الإغراقية التي يتعرّض لها السوق اللبناني من السلع المنافسة المماثلة والمدعومة بنسب عالية من بعض دول شرق آسيا، وفتح السوق اللبناني دون حماية له من هذه التدفقات. تراجع عدد مصانع الأحذية 32%، وتراجع عدد الدّبّاغات بنسبة 66% حسب بيان نقيب صناعة الأحذية وممثل نقابة عمال صناعة الأحذية. 16 تمّ خلال سنتي 2003-2004 إقفال 570 مصنعاً في قطاع الملبوسات فقط، وتمّ القضاء بذلك على 7 آلاف فرصة عمل في هذا القطاع.

لا يقتصر تفشي البطالة في قطاعي الزراعة والصناعة، بل يشمل كافة القطاعات وذلك لتشابك قطاعات الإنتاج. كلّ قطاع منتج يعطي القطاعات الأخرى من إنتاجه ويأخذ منها مدخلات إنتاجه. صرف قطاع السياحة 30% من العاملين لديه بين سنتي 2010 و2014- أيّ 45 ألف موظف وعامل، حسب قول نقيب أصحاب الفنادق بيار الأشقر. 17

نمت أرباح قطاع المصارف في لبنان في الوقت الذي كانت تنخفض فيه على الصعيد العالمي. لم يكن هذا النمو نتيجة “ازدهار” كبير للاقتصاد اللبناني، وعبقرية خلاقة في توزيع التمويل على قطاعات الإنتاج المتنامي في السوق اللبنانية، بل نتيجة الفساد وتنامي القدرات الاحتكارية والنفوذ على صعيد النظام الحاكم، والذي مكّن هذا القطاع من رفع معدلات الفوائد على الدين العام وعلى ودائع القطاع في مصرف لبنان وعلى شهادات الإيداع لمصرف لبنان، كما وسّعت المصارف الهامش بين الفائدتين الدائنة والمدينة، وكلفة الخدمات لديها وسياسات الهندسة المالية. كما وسعت المصارف أيضاً إقراضها للجمهور اللبناني، ما أغرق أكثر من ثلث اللبنانيين في المديونية للمصارف نتيجة ضغوطات حاجات الاستهلاك، وقصور المداخيل عن تلبية هذه الحاجات، إذ بلغت نسبة القروض للأفراد 29% من مجمل الإقراض للقطاع الخاص، مقابل 1% لإقراض قطاع الزراعة، و11% لإقراض قطاع الصناعة. رغم تنامي أرباحها وتنامي توزيع الأرباح على حاملي أسهمها، قلصت بعض المصارف من عدد موظفيها، كما عمدت إلى زيادة ساعات العمل للموظفين بنسبة تفوق 50% دون مقابل، مستغلة ارتفاع معدلات البطالة، وقول “المش عاجبو يفل”.

أشارت إحدى الدراسات إلى صرف نحو 160 ألف موظف خلال العام الحالي (2019)، أيّ بما يزيد عن 25% من موظفي القطاع الخاص. ويقول الباحث محمد شمس الدين عن انه تم تخفيض أجور أكثر من 50 ألف موظف، وارتفاع سعر صرف الدولار إلى حدود 2000 ليرة لبنانية. يعني أنّ رب العائلة اللبنانية خسر أكثر من 25% من قيمة راتبه. 18

هوامش

1 – أعلنت مديرية الإحصاء المركزي عند بداية سنة 2013، أن معدل التضخم في نهاية سنة 2012 قد تجاوز 10%، وهو رقم قياسي في السنوات الأخيرة. أوعزت رئاسة مجلس الوزراء بوقف إجراء الأبحاث الشهرية لتحديد معدل غلاء الأسعار. أثار ذلك بعثة صندوق النقد الدولي إلى لبنان فهددت: “إذا لم يعمد إلى استئناف نشر المؤشر على نحو سريع، سيكون للأمر تداعيات على علاقات لبنان مع الصندوق“. جريدة الأخبار 29/06/2013

2 – ارتفع سعر الصرف الحقيقي – أي القدرة الشرائية للعملة مقارنة مع عملات شركائنا التجاريين، ومثقَّل بنسب الاستيراد بهذه العملات– حوالى الـ 100% خلال التسعينات، حسب دراسة بعض خبراء صندوق النقد الدولي، في الوقت الذي استمر فيه الحديث عن تثبيت سعر صرف الليرة اللبنانية عبر ربطها بالدولار.

3 – د. عبد الحليم فضل الله يقول أنه في تسعينات القرن الماضي ” ارتفعت نسبة الفوائد إلى الناتج من 5% إلى 11% تقريباً. وترتفع هذه النسبة إلى 20% بإضافة الفوائد التي تدفعها الحكومة على ديونها“.

المرجع: اتجاهات الأمور في لبنان والعوامل المؤثرة عليها خلال العقدين الأخيرين – المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق – بيروت 2017 –ص 8

4 – يوسف الحاج علي – 28.5% يعيشون تحت خط الفقر. جريدة السفير 05/02/2009

5 – محمد زبيب، زيادة – جريدة الأخبار 24/09/2012

6 – طرابلس: على فوهة بركان. السفير 03/01/2013

7 – جريدة الأخبار 12/08/2016

8 – عدنان الحاج – عمال بلا نقابات ام نقابات بلا عمال؟ – جريدة السفير 01/05/2010

9 – د. عبد الحليم فضل الله – المرجع السابق ص. 6

10 – نفس المصدر السابق.

11 – نفس المصدر ص. 8-9

12 – فيفيان عقيقي – جريدة الأخبار (رأس المال) 18/03/2019

13 – مؤتمر لرجال الأعمال شارك فيه رئيس تجمع رجال الأعمال فؤاد زمكحل، رئيس تجمع الصناعيين فادي الجمّيل، رئيس جمعية شركات الضمان ماكس زكار. جريدة الحياة 05/03/2016

14 – وزارة العمل. المديرية العامة للصناعة. شباط 2017

15 – مؤتمر لرجال الأعمال شارك فيه رئيس تجمع رجال الأعمال فؤاد زمكحل، رئيس تجمع الصناعيين فادي الجمّيل، رئيس جمعية شركات الضمان ماكس زكار. جريدة الحياة 05/03/2016

16 – وزارة العمل. المديرية العامة للصناعة. شباط 2017

17 – جريدة السفير 16/01/2001

18 – يوسف دياب 07/10/2014

19 – أرقام صرف الموظفين ترتفع ووزارة العمل تستنفر. جريدة الشرق الأوسط 07/12/2013



 

جميع الحقوق محفوظة © 2024 -- شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه