شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية 2025-06-27 |
الحزب في الزلقا -الحلقة الثانية- الأمين فاروق أبو جودة |
الأمين فاروق ابوجودة وعلاقته بالانقلاب: كنت في ذلك الوقت 1959 – 1961 أحمل مسؤوليتين ناموس منفذية ساحل المتن ومذيع لمديرية الزلقا الأولى. المنفذية تلك كانت تشمل القرى والبلدات من ضبيّه وذوق الخراب إلى انطلياس والنقاش وحارة الغوارنة وجل الديب – بقنايا وبصاليم ونابيه، والزلقا - عمارة شلهوب وبياقوت والعين والجديدة والبوشريه والسد والرويسات والسبتية والفنار والدكوانه وسن الفيل وحي الزعيترية. قبل مدة قصيرة من آخر السنة 1961 طلب منا عميد الدفاع بشير عبيد أن نعلمه فوراً عند ملاحظتنا لتحركات عسكرية ملفتة؟؟ ومساء 29/12 اعلمني المنفذ العام الأمين المهندس ادغار عبود(1)، الذي كان في نفس الوقت عميداً للمالية ان ابقى في مكتب المنفذية ليلة آخر السنة لاسباب حزبية طارئة وسيكون برفقتي الرفيق اديب الهاشم من الفنار وذلك لتقديم أية مساعدة يطلبها قوميون يأتون إلى مركز المنفذية !!!. وسلمني لائحة بأسماء عدد من الرفقاء لتبليغهم أمراً يقضي بتواجدهم في مركز المنفذية قبل العاشرة ليلا مع تعليمات صارمة تقضي بألا يتعارف المتواجدون هناك على بعضهم والإفصاح عن أسمائهم وأسماء الفروع الحزبية التي يتبعون لإدارتها واعتماد اسمائهم الحركية . تعوّدنا في الحزب ألا نسأل بل ننفّذ التعليمات والأوامر كما جاء في القسم الحزبي: " أنا ... أقسم بشرفي وحقيقتي ومعتقدي على أني أنتمي إلى الحزب السوري الإجتماعي بكل إخلاص وكل عزيمة صادقة وأن أتّخذ مبادئه القومية الإجتماعية إيماناّ لي ولعائلتي وشعاراً لبيتي، وأن أحتفظ بأسراره فلا أبوح بها لا بالقول ولا بالكتابة ولا بالرسم ولا بالحفر ولا بأية طريقة او وسيلة اخرى لا تطوّعاً ولا تحت أي نوع من انواع الضغط. وأن أحفظ قوانينه ونظاماته وأخضع لها، وأن أحترم قراراته وأطيعها، وأن أنفّذ جميع ما يُعهد به إليّ بكل أمانة ودقّة، وأن أسهر على مصلحته وأؤيّد زعيمه وسلطته، وأن لا أخون الحزب ولا أيّ فرع من فروعه ولا واحداً منهم، وأن أقدّم كل مساعدة أتمكّن منها إلى أي عضو عامل من أعضاء الحزب متى كان محتاجاً إليها، وأن أفعل واجباتي نحو الحزب بالضبط، على كل هذا أقسم أنا ..." صدف أن حفلة عشاء دعتنا اليها شقيقتي ماري وزوجها ميشال الحجل بمناسبة عيد إحدى بناتهما، في نفس الوقت الذي يجب ان أكون فيه متواجداً في مكتب المنفذية. أوصلت والديّ هناك واعتذرت من شقيقتي لغرض شخصي وقلت لها متى آتي لإعادتهم فقالت العاشرة. كان عدد من القوميين ينتظر في مكتب المنفذية حتى ساعة متأخرة من تلك الليلة الى أن حان وقتهم فخرجوا بسياراتهم دون أن نعلم نحن أو يعلموا هم الى أين ذاهبون. يا لعظمة هذه النهضة ونظامية هذا الحزب!!. بقيت مع الرفيق أديب نتساءل عما يجري فصرّح أنه سمع من يقول أن القوميين في الشام أخرجوا الأمينة الأولى من أسرها وهناك مجموعة تقلها إلى بيروت فاستنفر الحزب إحتياطاً لأي مفاجأة قد تحصل وتعطّل وصولها سالمة الى لبنان؟؟ مضى الوقت بطيئاً ونحن ننتظر أي خبر يأتينا، دون جدوى. صعدنا إلى سطح مكتب المنفذية المطلّ نحو الغرب لجهة البساتين والأوتستراد والبحر ونتسامر بشتى المواضيع إلى أن سمعنا هدير آليات عسكرية تتّجه شمالا نحو جونيه؟ تبادلنا النظرات معاً وابتسمنا: الموضوع ليس الأمينة الأولى، إنما هو إنقلاب عسكري يشترك به الحزب ؟؟!! . لم تطل إبتساماتنا ولم يدم فرحُنا عندما بدأت مجموعات من القوميين تفد الى المنفذية تودّ الوصول الى ديك المحدي، دارة الأمين اسد الأشقر. علمت منهم وأنا أقودهم في سيارتي صعداً ان مهماتهم في خطف الضباط قد نجحت إلى حد كبير لكن بعض الزمر اصطدمت بحواجز أمنية أفشلت الخطة. عدت إلى مكتب المنفذية وتداولت مع الرفيق أديب أن يذهب هو ويتوارى ريثما نرى ما يحصل بعدئذ. بقيت وحيداً كي أنجز مهمة إتلاف الملفات والمحاضر والأسماء والإيصالات وما يمكن أن يستفيد منه من يريد إساءة للحزب وأعضائه. وبعد أن تيقنت من فشل الإنقلاب عدت إلى بيتي في الزلقا وحاولت التسلّل عند بزوغ ذلك الفجر دون ان أحدثَ ضجة مخافة إيقاظ أفراد العائلة، لكني تفاجأت بوالدتي تصلي بمسبحتها وتنتظر وصولي: "وين كنت كَ إبني إنشغل بالي عليك؟" (إنها عاطفة الأمومة). أعلمتها بالأمر وقلت فلنسمع الإذاعات، وإذ بالخبر السريع: محاولة إنقلابية للقومي فشلت وقوى الأمن تلاحق أعضاء الحزب، والداخلية ألغت الترخيص والجيش يقيم الحواجز ويعتقل القوميين . تواريت عن الأنظار مدة ثلاثة أسابيع عند أحد أعمامي الذي لا يثير الشبهات، ورحت أتتبّع الأخبار اليومية حيناً على الراديو وحيناً بقراءة الصحف التي تأتيني خفية. بعد أن تمّ اعتقال جميع رفقائي القوميين أعضاء مديريتَي الزلقا الأولى والثانية، رحت أسائل نفسي عما إذا كنت غيرهم في تحمّل المسؤولية وعليّ أن أسلّم نفسي إسوة بهم، ومخافة أن ألحق الضرر ببيت عمي من جرّاء إيوائي، قرّرت العودة إلى مزاولة مهمتي التعليمية في كلية جبل لبنان لصاحبيها هنري جحا وجورج خوري، إنتظاراً لإعتقالي. وفي اليوم التالي 24 كانون الثاني 1962، وبينما كنت اشرح درساً لتلاميذي فتح ناظر المدرسة جورج جحا باب الصفّ وهمس في أذني ان ثمة رجالَ أمن يطلبوني وهم في مكتب المدير؟ فقلت أن يستمهلهم خمس دقائق ريثما أنهي الدرس. ركبت في تلك الفولسفاكن مع ثلاثة من المكتب الثاني وأنزلوني في مخفر الجديدة ومنه الى ثكنة صربا ثم الى ثكنة هنري شهاب فالمحكمة العسكرية حيث أمضينا الليلة وقوفاً لاكتظاظ الغرفة. في صبيحة اليوم التالي حشرونا في شاحنة عسكرية إلى ثكنة الفياضية. كانت الغرف هناك أشبه بعلب السردين مضغوطة بالموقوفين بالكاد يتمكن الواحد منّا من السير عدة أقدام أويتنفّس بعض هواء نقي، أما الخدمات الصحّية فكانت عبارة عن (تنكات) كاز مفرغة لقضاء حاجاتنا وعندما تمتلىء إحداها يطلب شاويش الغرفة من احدنا نقلها إلى الخارج بعد استئذان الحارس، حامل العصا، وكم كنّا سعداء بحمل تلك المستوعبات لأنها تتيح لنا الخروج من القواويش إلى رحاب الثكنة فنستغل المناسبة للذهاب الى المراحيض ونغتسل ونسلم على من نلتقيه هناك من الرفقاء إن كانت لنا بهم معرفة شخصية أم لا. بعد عدة أيام، نقلونا جماعات جماعات إلى مجمّع المدينة الرياضية إلتقيت هناك بالكثير من الرفقاء والأمناء والمسؤولين، وكذلك التقيت بأكثرية رفقائي في مديريتي الزلقا. بين الحين والآخر، كان مكبّر صوت يطلب حضور أحدنا؟، وإذ بالضابط المناوب، خليل كنعان، ينهال على الرفيق المعني باللكم والضرب ويطيح به أرضاً ويكمل مهمته بالرفس والركل والإيذاء حتى يسيل الدم، فيحمله الجنود الى الكميون باتجاه ثكنة "المير بشير". بعد عدة ايام، وخلال الأسبوع الأول من شباط 1962، فرزونا إلى قسمين: الأول، المكوّن ممّن ورد إسمهم بالتحقيق أو يتحملون مسؤولية في الإدارة الحزبية محلية أو مركزية. الثاني، من لم يتكوّن حوله شك باشتراكه، فلا داع لإبقائه موقوفاً. نقلونا إلى "مضافة المير بشير" في بيروت ووزّعونا على مساكن الضباط والجنود وسمّوا الأمكنة بالقواقيش. حللتُ ضيفاً على القاووش رقم 11. كان أحد الرفقاء – تيسير قانصوه - شاويشه، فرحّب بي وعيّن لي الركن الذي سأتمدّد عليه متقاسماً سمالة غطاء مع احد الرفقاء حيث انه كان ممنوعاً علينا الإتيان بفرشة (يطق) أو حرام أو شرشف أو منشفة أوما كنا نعوزه لحاجاتنا. طُلبتُ إلى التحقيق عند أبو احمد (أنطوان عازوري) لُقّب بجلاد المير بشير، كان رجلا عملاقاً يلتحي لحية خفيفة ضخم البنية مفتول العضلات. بادرني بالترحيب ثم أعلمني أنه يحمل (توصية) من أحدهم كي يهتمّ بأمري، لكن عليّ ان أتعاون لتسهيل مهمته بالتحقيق. شكرته على التوصية دون ان اسأله عن صاحبها كما انه لم يفصح عن إسم ما، ثم قلت له عمّاذا يعني بالتعاون قال: عليك أن تخبرني عمّا تعلم عن المحاولة "من طقطق للسلام عليكم". قلت: ماذا تعني بهذا؟ قال: شو مهمتك وشو مسؤوليتك، ونحنا منعرف عنّك كل شي. اعلمته أنني اتحمّل مسؤوليتين إداريتين: ناموس منفذية ساحل المتن ومذيع مديرية الزلقا، لكنني أنكرت معرفتي بالإنقلاب ولم أكلّف بأي مهمة تنفيذية بالمحاولة. قال: وما هي البيانات التي كنت مكلفاً بإذاعتها في حال نجحت المحاولة؟ قلت: أنا مذيع في هيئة مديرية الزلقا مسؤول عن شرح مبادىء الحزب وغايته ونظامه وتوجيه الأعضاء على الأخلاق بالتعاطي والتصرّف والأداء والمعاملة لأن الأخلاق من صميم الثقافة القومية الإجتماعية، ولا شأن لي ولا علم لي ببيانات الإنقلاب ومن كان مسؤولا عنها. قال: وما هي الأسلحة التي تسلمتها وأين هي؟ قلت: لم أتسلّم أسلحة ولا أملك سلاحاً ذا قيمة، إنما عندي مسدس بكرة عيار6 م. (كان الرفيق علي هولو عرضه عليّ إحتياطاً اثناء تنقلاتي الحزبية الليلية). قال: أين كنت ليلة المحاولة؟ قلت: مجتمعين مع العائلة عند شقيقتي، ماري حجل، في جل الديب، بمناسبة عيد إحدى بناتها، ومن هناك عدت مع أهلي الى المنزل في الزلقا. قال: أريد ان اصطحبك إلى بيتك لإستلام المسدس الذي أعلمتني عنه. اقلني بسيارته الى البيت فاستقبلتنا والدتي باشة وكانت قد خرجت من الإعتقال بموجب إخلاء سبيل، معتقدة أنه تمّ إخلاء سبيلي أيضاً، لكنها تجهّمت عندما أعلمتها أنني جئت مع المحقّق لتسليمه المسدّس الذي أملك. طلبتُ منه أن يسمح لي بتبديل ملابسي في الوقت الذي يحتسي القهوة التي راحت والدتي تعدّها وهي تتمتم غاضبة. أعادني إلى الثكنة وأعلمني أنه لم يعد بمقدوره متابعة ملفي كوني لم أخبره بما أعلم وبما قمت به وليس متمكناً من حمايتي أو التقليل من الضغط الذي سألاقيه من الذي سيستلم ملفي (فاروق رمضان). قلت في سرّي ربما يشفع إسمي (فاروق) لدى المحقّق الجديد، لكن، لا التوصية الأولى التي اعتقدت أنها من رفقائنا (عازوري) من مديرية الجديدة، أفادتني، ولا تشابه الأسماء زادني مكرمة. كرّر المحقّق رمضان ذات الأسئلة وسمع نفس الأجوبة. قال: لا جدوى من المماطلة. ثمّ أمر بالفلق. تبسّمت إبتسامة عريضة لفتت إنتباه الجلاد (رمضان) وسألني متعجّباً وأنا ما عليه من حرج، فأجبته أن هذا ما جرى مع والدي منذ عشرين عاماً ويجري معي الآن، فهزّ رأسه وبدأ بالجلد. وأنا في هذا الوضع التاعس، تذكّرت أبيات قصيدة نظمها والدي يصوّر فيها ما جرى معه اربعينات القرن الماضي عندما تعرّض لفلق مماثل، وبعد خروجه من السجن صادف جلاده في أحد شوارع بيروت فبادره هذا بأنه يعرف هذا الوجه من سجن القلعة فسارعه ابو فاروق: "إنتَ ما بتعرف هل الوجه إنتَ بتعرف هل الإجرين!!!". ربما تتكرّر الأحداث متشابهة، ففي هذه الحال التي أنا فيها، راودني بيت لعنترة: ولقد ذكرتك والرماح نواهل مني وسيوف الهند تقطر من دمي ووددت تقبيل الرماح لأنها لمعت كبارق ثغرك المتبسّم وفي خضمّ الأفكار المتلاطمة، حضرني بيتُ شعرٍ لأسد رستم: ولقد ذكرتك والحمار معاندي وسط الشريط وقد أتى البابور* (*) الشريط يعنيه سكة الحديد والبابور الترام مدّدوني أرضاً ورفع إثنان قدميّ وانهال (سميّي) عليهما جَلداً ولم أتمكّن من اللّحاق بتعداد الضربات، حتى أني لم أعد أشعر بها، من شدّتها ومن قساوة السوط، لكنّ شيئاً ساخناً بدأتُ أحسّ به يسيل من متن القدمين نزولا من علٍ نحو الساقين والى الأسفل. * كان ذلك الدمّ خارجاً من قدميّ اللتين تمطتا، فتفجّرت شرايينهما من جرّاء الضرب القوي الذي حمل حقداً وبغضاً وكراهية. سمحوا لي بدخول مرحاضٍ لغسل الدماء السائلة ورحت أعرج بحراسة الجنديين إلى قاووشي فتمدّدت حتى اليوم التالي حين استدعاني لإعادة الأسئلة وسماع ذات الأجوبة، فسمعته يهمس للكاتب بأن لا جدوى معي. وقّعتُ على المحضر وعدتُ الى القاووش وأنا أعرج. بعد عدة ايام تلاقيت بالرفيق جان دايه عندما خرجنا من القواويش فسألني عن الغرفة التي أنا فيها فأجبت الرقم11. في اليوم التالي ناداني الحارس وأعلمني أنني منقول الى القاووش 14. توسّط لي الرفيق جان، فتمّ نقلي. في القاووش 14 أمضيت كامل فترة إعتقالي. كان المكان معداً لإقامة عشرين مجنّداً، فكنّا فيه حوالي الثمانين معتقلاً، نفترش الأرض في ذلك الفصل البارد وننام (رأساً وكعباً) لضيق المساحة. وخرجتُ من المعتقل، حاملا علة في جسدي، كما غيري، فأعلمني الطبيب أن هناك قصوراً في أداء وظيفة كبدي. كنا مجموعة من الأمناء والرفقاء، يترأسنا الأمين الياس جرجي الذي أعدّ برامج منوّعة تشمل دروساً في العقيدة والنظام وشروحاً للمبادئ والغاية وتفسيراً لمواد دستور الحزب والفلسفة المدرحية. كما كانت هناك عدة مواضيع توزّعت على الرفقاء كل حسب مهنته وما يُجيده ويبرع به: - الأمين الياس للحلقات الإذاعية. - الأمين الصيدلاني خليل ابو عجرم للشرح عن الأمراض والأوبئة والنظافة والأدوية – إفادتها وضررها – ومضار التدخين وغير ذلك. - الأمين الشاعر الصحافي محمد العريضي عن الصحافة وعلمها ونظم القصائد وإلقاء الشعر والخطابة. - الرفيق جان دايه تعيّن مسؤولا عن مراقبة غسيل ثياب نزلاء المضافة. - فاروق ابوجودة حكواتي القاووش، إشتهر بالقصص والروايات والأفلام والنكات وبضحكته المدوّية... وهكذا توزّعت الأدوار على الرفقاء ممّا خفّف وطأة السجن والإعتقال والتحقيقات. كان المدمنون على تدخين السجائر يجترحون الأساليب للحصول على واحدة منها، إن بإغراء الحراس أو بتجميع أعقابها عندما يخرجون الى الباحة للتفتيش أو لرشّ القواويش خوفاً من الأوبئة. كان يوم الأحد مميّزاً إذ يقدّمون لنا مع رغيف الخبز قطعة من راحة الحلقوم فنعمد الى مَغْطِها حتى تصبح على طول الرغيف ونلفها متلذّذين بطعمها وحلاوتها. تمكّن أحدهم من الحصول على شمعة وعلبة ثقاب للإحتفال بذكرى الأول من آذار عيد مولد سعاده، حيث أعدّ الأمين الياس برنامجاً يحدثنا فيه عن صاحب العيد ويلقي الأمين محمد العريضي قصيدة وكذلك الرفيق الشاعر فؤاد ذبيان، وذلك عندما تُطفأ الكهرباء عن القواويش الساعة العاشرة. حوالي الساعة التاسعة والنصف فُتِح باب القاووش بعنف ودخل جنديٌ منادياً على أحد الرفقاء قد يكون الرفيق (معروف الغصين)، وساقوه الى التحقيق فعاد بعد نصف ساعة مشلّعاً أشبه بشلوٍ ممزّق مدمّى ورموه بيننا كقطعةٍ من اللحم لا حراك فيها. ألغي برنامج الأول من آذار، لكنّ البرامج التثقيفية العقائدية بقيت على حالها، ويمكنني الإفصاح أننا استفدنا في تلك الأوقات أكثر مما استفدنا خارج الأسر. في إحدى الحلقات الإذاعية، وعندما جاء دور الحوار والنقاش والإستفهام، ألحّ أحدهم بأسئلته ولجّ بطلب التحديد ويعيد السؤال ثم يعيد غيره دون ترك مجال لرفيق آخر، مما أزعج الأمين الياس المعروف بسعة صدره وجميل صبره وقدرة استيعابه وسرعة بديهته، فسأله مستوضحاً: مين حضرة الرفيق ؟ فانتصب هذا متأهباً (وهذا إحترام تعوّدناه في الحزب خصوصاً مع حضرة الأمناء) وأخذ التحية القومية: - أنا الرفيق سليم الأعور من مديرية قرنايل! تبسّم الأمين الياس وقال: حضرة الرفيق: الهيئة إنك أعور أكتر منّك سليم !! وذهب القول نكتة رافقت الرفيق سليم. * وأتى عيد القيامة (العيد الكبير) هذه السنة مضمخاً بالدماء والدموع والآلام فحضرتني هذا المقالة دوّنتها بعد خروجي من الإعتقال: بمناسبة العيد الكبير – عيد القيامة(*) كتابة لم تنشر، بعيد الحركة الإنقلابية التي فشلت، فسُحِلَ الناس وتشرّدوا واعتُقلوا وتهجّروا وطُردوا من وظائفهم واغتيل ثلاثون منهم تحت التعذيب، وأتى العيد ذلك العام في ظل هذه الأجواء المقيتة فكانت هذه الكلمة: ذكرى العيد . هو عيد كبير في العالم. إنه عيد المحبة والسلام على الأرض. عيد التضحية والفداء. عيد التسامح بين البشر. هو مأساة تكرّرت مرتين في أمتي !!. إنه عيد الإنسان المتفوّق كالآلهة. عيد العظمة في التاريخ. عيد انتصار الموت على الموت. عيد المسيح على الصليب. عيد الطهارة والخلود. عيد المرّ والعلقم. عيد الشوك والدماء والعواصف والزلازل. عيد تتفتح له القلوب. عيد تلبس الأرض فيه سواداً. عيد وخزة في ضمير الإنسانية. أما عيد هذه السنة فهو غيره عن بقية السنوات إذ اقترن بالحقد والكراهية والبغضاء، عيد جاء إكليلا أضفر على ضريح الحرّية المذبوحة بنصلة صدئت بدم الشرايين. عيد تحجّر العقل. عيد الوحشية تذبح محبة الإنسان لأخيه الإنسان. عيد عاد فيه الإنسان إلى أحط درك من البربرية والهمجية والوحشية ... فماذا أقول لك أيها المصلوب على عليائك وأنا واقف أمامك خاشعاً متألماً لأقول: " لا تغفر لهم يا أبتاه لأنهم يدرون ماذا يفعلون". ثكنة المير بشير بيروت - 22 نيسان 1962 " (*) ملاحظة: في بدء تحصيلنا العلمي (مدرسة الراهبات في الزلقا وبعدها معهد الرسل جونيه) كنا نخضع لدروسٍ دينية منها عيد الفصح يسبقه صوم كبير لمدة اربعين يوماً. ومع وعينا القومي وثقافتنا النهضوية اعتمدنا على عيد القيامة بدلا من عيد الفصح – فاقتضى التوضيح . * لم نكن نملك قلماً أو ورقة لتدوين ما سمعناه وتلقّناه مدة زمن الإعتقال فاعتمدنا على الذاكرة فحسب، خصوصاً تلك القصيدة (الخنفشارية) التي نظمها شعراء القاووش واصفين كلا منّا بما يتميّز به، فبقيت ذكرى جميلة بعد خروجنا من المعتقل. وفي صبيحة الرابع والعشرين من نيسان من تلك السنة 1962، سمعنا بمكبّر الصوت نداءً للتنبّه على سماع أسماء المُخلى سبيلهم. كانوا أربعة عشر، بينهم الرفيق جان وأنا. بعد خروجي عمدتُ الى كتابة تلك القصيدة التاريخية فدوّنتها بدفتري الخاص وعمّمتها كي لا تضيع وتُنسى مع توالي الأيام، وهاكها: من ذكريا ت السجن: في مثل هذا اليوم 24 كانون الثاني من سنة 1962 إعتقلني جهاز الأمن العام اللبناني بسبب إنتمائي الحزبي إثر فشل الثورة الإنقلابية الثانية التي قام بها الحزب القومي على عهد الرئيس فؤاد شهاب. أمضيت ثلاثة أشهر بالتمام والكمال بدءاً في الغرفة رقم 11 في ثكنة المير بشير، ثم انتقلت إلى القاووش رقم 14، بوساطة الرفيق جان دايه. كان الحرّاس يحملون العصي بدلا من البنادق وعلى رأسهم من لقّبناه "الغبروش". نظم عدد من الأمناء والرفقاء منهم الأمين محمد العريضي والرفيق فؤاد ذبيان قصيدة "خنفشارية" تصف كل واحد من المعتقلين في ذلك القاووش (14) جاء فيها: إن أنسى لا أنساك يا قاووشُ والباب والجدران والشاويشُ والحارس الليلي في يده العصا إن انسى لا أنساك يا غبروشُ والفؤاد يطق من فرط الأسى من صوتك المبحوح يا درويشُ أنطون جلبط جنبه متشقلقاٌ والراسي قلبق مخّه المدووشُ أما سليمان بن عزام الفتى بضجيج عبود غدا مطووشُ غسان شركس في الزوايا قابعاً هو للدخان يلمّ كالقاشوشُ وبزمرة الإخوان ذبيان التقى وديع وجواد في التدفيشُ وجنيد يركض في الممرّ مهرولا ومعنطظاً وكأنه ملطوشُ أما علي ياسين في زلعومه خرم عتيق ينطفي ويجوشُ وحسين رحمة والمراحم فطّمت من أجله وتعطّل الفركوشُ يا مصطفى ما لي اراك منرفزاً فهل قرضت ربّك عشر قروشُ وعصام ينتظر المحارم حالماً ليشمّ فيها عطرها المرشوشُ وزعيتر قد زعترت افكاره بالله أين الزعتر المنقوشُ وسعيد ذبيان للمخافر فاتحاً أين المخافر قال معرفتوشُ عزام قد خارت عزائمنا به هو للمشاكل دائماً بلبوشُ يا عبد للرحمن صلِّ لأجلنا كلوانا درداري مع القدوشُ قل لي بربك هل مررت برامز بين الميامن والشمال يحوشُ فاروق ضحكته كطلقة مدفع صور لهوليود بدون رتوشُ يا جان قد أضحى القميص موسّخاً فنظّفه بصابونك المبروشُ يا لاعب الشطرنج يا معروفنا لعبنا لحدّ الان ما شفتوشُ والياس شيتي ليس شيتك يا فتى لكن إن حكيت يطوشُ وسليم أعور بين عميان رأى في نفسه ملكاً غدا مغشوشُ وحسيب تحسبه لأول وهلة بالزعفران مضمّخاً مرشوشُ وسليم منصور وليس بناصر لرئيسه مستوحشاً موحوشُ إدمون نصر قد تطاول للعلى هو والسلالم صار خوشاً بوشُ وجواد رجليه كماعوص لوت فإذا مشى يتوقّف الفركوشُ بالله يا حسن تبسّم ضاحكاً الهمّ حولك حائماً مفلوشُ ونصير إن غنّى ليطرب نفسه باكٍ بذكرى شعره المحلوشُ يا شاكراً ومنيراً انت ضجيعه بالله أين الرفش والمنكوشُ وأديب سعد يا سعادتنا به نحكي هنا فيجيب في يحشوشُ يا رعد يا شليطا يا أرض اخسفي من صوته من طبعه الحرحوشُ حنا القياصرة الألى استحيت به قزم قصير جال بين هروشُ وفؤاد شاعرنا المزيّف قد بدا لناظريه عميلق مقطوشُ وبديع أتحف صحبه بيصَلْعَةٍ مصنوعة وتقلبق الطربوشُ ومحمد هذا أمين بشعره مع شعرنا بيسواش خمس قروشُ جبران أضحى بالصحون معربطاً وكأنه يقتات عند مروشُ وخليلنا متكتّم في صمته فإذا حكى يحكيك بالفرموشُ وأميننا الياس المقنزح قد بدا بالفكر رائد شعرنا المفلوشُ تيسير أوهم أنه غدا ملكاً لما تعيّن عندنا شاويشُ وفؤاد عبود بخطبته التقت كل المصائب وابتدا التدفيشُ ومنير لا ألقاه إلا نائماً وكأنه ملكاً بدون عروشُ يا شاكراً ما لي أراك معلقاً كالحورة العلياء بدون شروشُ ووديع ليس وديع فهو مذيعنا القاري بصوت العرب للتشويش - كان الرفيق حسين الدرويش رخيم الصوت أعذبه. - الرفيق أنطون قره بت كان عضوا في الزمرة التي خطفت الضابطين جلبوط والراسي. - الرفيق محمد جنيد يمضي نهاراته مشياً في القاووش وبسرعة الرياضيين. - الرفيق علي ياسين كان متهدّج الصوت من كثرة التدخين. - الرفيقان مصطفى العريضي وعصام العريضي نجلا الأمين محمد الأول ترك عائلته والثاني خاطبٌ مشتاق لخطيبته. - الرفيق سعيد العريضي كان مكلفاً مع زمرة لمهاجمة مركز الفرقة 16. - الرفيق رامز يعقوب محام من القبيات عكار. - فاروق ابوجودة كان حكواتي القاووش يخبر قصصاً ويسرد مرويات وأفلاماً سينمائية وعندما يضحك تنطلق ضحكته مدوّية. - الرفيق جان دايه استغل علاقته بالضابط الزميل فبات عاملا في غرفة غسيل ملابس المساجين. - الرفيق معروف الغصين كان لاعب شطرنج عنيداً. - الرفيق سليم الأعور من قرنايل المتن الأعلى. - الرفيق سليم منصور كان سائق سيارة الأمين الدكتور عبدالله سعادة . - الرفيق ادمون نصر كان من ذوي القامات الفارعة. - الرفيق جواد كانت رجلاه مقوّستين قليلا. - الرفيق نصير غضب عندما جُزّ شعره وهو يافع مغروم. - الرفيقان شاكر ومنير الحوزي من جوار الحوز قرب كفرسلوان. - الرفيق حنا قيصر كان من القامات القصيرة اقرب الى الأقزام حجماً. - الرفيق فؤاد ذبيان كان قصير القامة ومن الشعراء المبدعين. - الأمين بديع أحوش كان أصلع الرأس يلبس قلنسوة إخفاءً لصلعه. - الأمين محمد العريضي كان شاعراً مبدعاً لا يقاس بجودة قصائده ومطولاته . - الأمين جبران جريج توسّط لدى أحدهم فبات غسالا للصحون يروي لنا تاريخ الحزب. - الأمين خليل أبو عجرم صاحب صيدلية عجرم، كان يكرز علينا بالوقاية والنظافة ويشرح محاسن الأدوية ومضراتها. - من شعر الأمين الياس جرجي قنيزح: الليل ليل والنهار نهار والكرّ كرّ والحمار حمار الصبح صبح والمساء مساء والأرض أرض والسماء سماء ليت هنداً أنجزتنا ما تعد كنا هلّق في دمشق نستعد - الرفيق تيسير قانصوه كان شاويش القاووش . - صدف أن يكون موعد خطبة الرفيق فؤاد عبود نفس الليلة التي استُنفر فيها الى المنفذية فترك الحفلة وذهب ولم يعد إلا بعد خمس سنوات. * عدت إلى وظيفتي التعليمية، فأقام لي طلابي حفلة صغيرة للإحتفاء بعودتي من الإعتقال. وفي نهاية العام الدراسي أواخر حزيران، قمنا برحلة آخر السنة مع أساتذة وطلاب المدرسة إلى ربوع لبنان الجميلة. في نهاية الرحلة ألقيت كلمة وداع وأعلمت الحاضرين أني عازم على السفر خلال شهر تموز. هذان الرسمان يمثلان عدد من طلابي للعام الدراسي 1961-1962 وصباح السابع منه توجهت بمرافقة النقيب جان قزي نحو امن عام المطار للسماح لي بالخروج من البلاد وركبتُ الطائرة الى عالم جديد مجهول، لأعود من إفريقيا بعد ثلاثين سنة (1994) بشكل نهائي. وفي يوم الثامن من تموز، أتى رجال من المكتب الثاني يسألون عني فقيل لهم أني سافرت خارج البلاد. وعن يومياتنا في "مضافة الأمير" والقاووش رقم 14، طبع الرفيق المؤرّخ جان دايه كتابه الوافي عن هاتيك الأيام. * سيرة الأمين فاروق ج. ابوجودة الذاتية: • مواليد الزلقا تاريخ 2 كانون الأول 1940 . • والدي جريس طانيوس ابوجودة . والدتي ميليا ضومط زينون . • تعلّمت عند الراهبات – الزلقا- ثم الرسمية – جل الديب حتى الإبتدائية ، ومنها الى معهد الرسل حتى البريفه . • انتميت الى الحزب في مديرية الزلقا شهر تشرين الأول 1958 على يد الرفيق منير زينون وشهادة الرفيقين اديب ابوجودة ومحمد علول . • سريعاً ما تحولت المديرية الى مديريتين : الزلقا الأولى جئت فيها ناموسا والزلقا الثانية مذيعا . • عند إنشاء منفذية ساحل المتن 59/61 تعينت ناموساً لها والأمين إدغار عبود منفذاً عاماً . • درّستُ أستاذاً في مدرسة " الجهاد " العام الدراسي 1960 – 1961 . • وانتقلتُ أستاذاً في " كلية جبل لبنان " لصاحبيها هنري جحا وجورج خوري 1961 – 1962 . • إثر الإنقلاب الذي فشل ليلة رأس السنة 61/62 تم اعتقالي وامضيت ثلاثة اشهر حتى 24 نيسان 1962. • سافرت الى جمهورية الكاميرون 7 تموز 1962 والتحقت بمفوضيتها المركزية . • وسراعاً ما تحوّلت المفوضية المركزية الى مديرية مستقلة كنت مديرها . • أنشأنا مفوضيتين تابعتين في كل من مدينة دوالا ومدينة نانغا ايبوكو . • تعينت مندوباً مركزياً على دول المنطقة : التشاد والكاميرون والسنترافريك والغابون وغينيا الإستوائية والكونغو برازافيل . • أنشأنا مدرسة مجانية لتعليم اللغة العربية لأبناء المغتربين وأبناء بعض الجاليات العربية . • أنشانا نادي النهضة الرياضي الثقافي وكنت رئيساً له . • انتخبت رئيساً لفرع الجامعة اللبنانية الثقافية في العالم هناك باكثرية ساحقة : 49 مقابل صوت واحد لأحدهم وورقتين بيضاوين • تعينت نائباً لرئيس الصليب الأحمر الكاميروني على منطقة الساحل . • مُنحتُ رتبة الأمانة سنة 1978 . • بعد عودتي الى الوطن سنة 1994 تعينت ناموسا لمديرية الزلقا وناظراً للإذاعة زمن الأمين كميل صليبا . • تعيّنت عضواً في المجلس الإقتصادي الإجتماعي عن المغتربين . • أنشأنا مستوصفاً ناجحاً في الزلقا ودار حضانة وعيادة طب اسنان ولجنة نسائية من 30 امرأة من اهالي الزلقا . • عُينتُ مفتشاً في عمدة الداخلية . • استلمت الأمانة العامة المركزية للجامعة اللبنانية الثقافية في العالم من 2003 حتى 2013 . • تعينت عضواً في المندوبية السياسية المركزية على جبل لبنان الشمالي . • تعيّنت عضوا في المحكمة الحزبية المركزية . • حزت على درع البيئة بمناسبة يوم البيئة العالمي لرائدها الدكتور بديع ابوجودة . • وتعّينتُ مديرا لمديرية الزلقا بتاريخ 20 شباط 2017 • تعيّنت ناموساً في هيئة منفذية المتن فقدمت استقالتي من المحكمة الحزبية المركزية .
|
جميع الحقوق محفوظة © 2025 -- شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه |