شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية 1933-06-04
 

بعث الأدب السوري

أنطون سعادة

قد يذكر القارئ أني قلت في مقال نشر في عدد متقدم من "المجلة" أن النزعة التي سيطرت على عهد تنبهنا الأدبي الأول كانت نزعة "فحولية". وقد كانت هذه الصفة العربية الأصل صفة مدح عند العرب. فهي مشتقة من الجمل الفحل وكان لا يزال شيئاً جميلاً عند العرب أن يقلد الشاعر الخطيب "الفحل" فيهدر ويطلق "شقشة لسانه" كما يفعل الفحل، والسوريون كانوا قد فقدوا صلتهم بأدبهم ونفسيتهم الظاهرة في آثارهم العمرانية والفنية، وأساطيرهم الميثولوجية استفاقوا مما منوا به من خمول بتأثير الحروب الكثيرة التي كانت بلادهم مسرحاً لها، وكان أول شيء وقعت عليه أعينهم كتباً "قليلة" مبعثرة هنا وهناك، خلفها عهد النزعة العربية التي بذل السوريون جهداً كبيراً لإكسابهم عمق نفسيتهم وسمو عقليتهم فلم ينجحوا إلا في العهد الأموي. وكان عهداً قصير الأمد لم يتمكن من استغراق النفسية السورية، فلما جاء العهد العباسي قل التأثير السوري وكثر التأثير الفارسي، والآن بعد قرون من الانفصال نلقي نظرة على النفسية السورية و"الأدب العربي" و"المدنية العربية" فنرى أن ما أخذه العرب من كنوز المدنية السورية أخذوه قطفاً خطفاً فلم يتأثروا به إلا تأثيراً سطحياً، لأن مزاجهم الحاد المكتسب من طبيعة بلادهم الحارة، ذات الرمال المحرقة، لم يكن ليتفق مع هدوء النفس السورية النامية في محيط معتدل لطيف تتغير فصوله تغيراً منتظماً فلا ينزعج الفكر في مجراه، ولا تضطرب النفس في طمأنينتها، ولو أن العهد الأموي طال ورسخ الملك في سورية لكانت النفسية السورية استطاعت أن تلين من جفاف النفسية العربية وأن تكسبها العمق النفسي والسمو الفكري المجتمعين في النفس السورية. ولكن العرب تقلبوا في الملك كما تقلبوا في الحالات النفسية وكان طبعهم القديم مخالفاً للعمران والاطمئنان إلى راحة الضمير فما أنشئوا شيئاً حتى انتقلوا منه إلى غيره، ولم ينشئوا شيئاً من العمران استطاع البقاء كبعلبك وتدمر وبيبلوس وغيرها من الآثار السورية الحاملة صفة الطموح إلى الخلود واعتناق الصفات الخالدة إلا قليلاً ضئيلاً. فانفصلوا عن سورية وظلت لهم نفسيتهم وبقيت للسوريين نفسيتهم.


ومرت على سورية أحقاب كانت مليئة بالمصائب والنكبات. فشغلت الأمة بتقلبات الحوادث عن المثال الأعلى وكانت اللغة القومية الجديدة قد طمت على اللغة القومية القديمة وحالت بين النفسية السورية وبين مثلها العليا المتجلية في رموزها الإلهية كرمز الإله أدونيس الذي تفسر أسطورته بنظام الحياة إذ يذهب أدونيس إلى برسفون ابنة نريوس فيكون الشتاء وكمون النباتية، البذور ثم يعود إلى أفروديت "عشتاروت أو عثر عاذة السورية، آلهة الطبيعة" آلهة النبات ويجلب معه الربيع والصيف فصل النمو والأثمار.


وهكذا كانت رواية الحياة التي مثلتها الآلهة السورية بين سهل جبيل وهضاب لبنان، شعرية، فنية، روائية، إلهية، شعرية في دقة معانيها، فنية في روائها وسحرها، روائية في جمال مشاهدها وأسرارها، البهية في كمال موحياتها وبهجة إلهاماتها. ومن أسطورة الإله أدونيس بين تاياس – الملك السوري العظيم يدرك المرء الدرجة الرفيعة من الجمال التي تبوأتها النفسية السورية، ومنها اكتسبت النفسية المصرية إلهها أوزيريس والنفسية الإغريقية الإله السوري نفسه.


زفاف أدونيس إلى برسفون فراق ووحشة وفراغ وأسى: الشتاء البارد العاري، وزفافه إلى أفروديت عرس وفرح وامتلاء وبهجة: الصيف المنور، المثمر الممتلئ حياة! هذه هي الرواية السورية الإلهية للكمون والنمو والإنتاج. هذه هي الأسطورة الجميلة التي جمعت بين سر الكمون والاستتار وعلانية الحركة والظهور بين سمو التفكير وعمق الشعور، وهذه هي النفسية السورية ببساطتها وغرابتها.


وإذا أجلنا نظرنا في الميثولوجية السورية وجدنا مظهر آخر من مظاهر النفسية الجادة في العمران، هو المظهر الذي خصت فيه المرأة السورية ببطولة المران، هم مظهر حجر الحبلى الذي أقطعته من مقلعة امرأة سورية كانت حاملا ثم ألقته لدنو مخاضها فبقي حيث هو، قرب هياكل بعلبك ليخلد المرأة السورية أعظم نصيب من العمران! هذه هي النفسية السورية في صور أخرى.


الإنتاج والعمران: صفة امتاز بها السوريون وأتوا على يدها بأعمال عظيمة قيل أنها من أعمال السحر والجن يشهد على ذلك قول النابغة في تدمر


ألا سليمان إذ قال الإله له


قم في البرية فأحددها من الفند


وجيش الجن أني أذنت لهم


يبنون تدمر بالصـــــفاد والعمد


فتابع الذين وهموا أن سليمان اليهودي بنى تدمر بأمر الإله الذي سخر له الجن لبنائها. وبديهي أن النابغة لم يكن مؤرخاً ولا قاصداً الحقيقة التاريخية لبناء تدمر العظيمة بل أراد إبداء إكباره ذلك البناء الضخم، ولو كان النابغة شاهد بعلبك في أوجها لما شك أنها عمل جند الله أو جبابرة خصهم الله بمقدرة لا تضاهى، خصوصاً حجر الحبلى الذي اقتلعته امرأة سوري حامل أو أم ولد على ما جاء في رواية أخرى ولعل هذه الرواية هي (الأصح).


الإنتاج والعمران: هما الحياة للسوري وهو لا يعرف للوجود قيمة أو معنى إلا بهما. وهذه الحقيقة تعرف عن السوريين الذين عاشوا قبل التاريخ المعروف كما تعرف عنهم بعده. فالتمدن قديم جداً في سورية، وأجيال البشرية التي حيت هنا قبل التاريخ كانت أرقى في الإنسانية من معاصرتها الأوروبية كما ثبتت حقيقة ذلك الآثار العادية المكتشفة حديثاً. ومنذ ذلك الزمان البعيد والنفسية السورية تزداد رسوخاً في المدنية حتى تمكنت من التأثير على الأمم التي حولها، وإعطائها عدداً من الآلهة الرامزة إلى نظام الحياة وتقديم موارد ميثولوجية لا نضوب لها للإغريق والأساطير الإغريقية حتى ليمكن القول أن الإغريق يقفون بقسم كبير من مدنيتهم على أكتاف السوريين.


فتح السوريون أعينهم بعد تقلبات الدهر وصراع الأيام فما وقعت إلا على كتب قليلة من "الأدب العربي" فكانت الكتب المستند الوحيد الذي لجاؤا إليه وما أوهاه مستنداً !! أبيات من الشعر تارة تمثل الشعور الجامح (الحماسة والفخر) وطوراً تمثل الإحساس المنفعل تحت تأثير عامل قوي (الغزل والتشبيب) ونماذج من الكرم البدوي والحكم السخيف، وبعض أخبار قواد العرب وأمرائهم، وهذا كان الثروة الروحية التي ورثوها عن العرب. أما حقيقتهم هم وثروتهم الروحية الكبيرة فلم يكن لها ذكر البتة. وكان من وراء ذلك أن السوريين توهموا أن هذا الميراث الضئيل هو ميراثهم الوحيد وأن البكاء على الطلول والتغزل والتشبيب تضمن المثال الأعلى الذي عليهم أن يحققوه. فحدا كثيرون منا العيس وبكوا على الأطلال في شيء كثير من الانخداع. وأما أدونيس إله "نظام الإنتاج" وأتارغاس آلهة "قوة الإنتاج" فلم يكن لهما ذكر عندهم، ومر منهم نغر بحجر الحبلى المطروح على بعد قليل من هياكل بعلبك ولكن سرعة المزاج العربي في التنقل شغلتهم عن التعمق في فلسفته فلم يروا فيه إلا الحجر الضخم!!


ولكن النفسية السورية ما لبثت أن ابتدأت تتململ في ذلك النطاق الأدبي الضيق تململ السجين في سجنه. ابتدأت تشعر أن هذا الأدب يقيم حاجزاً بينها وبين الحياة ونظام الحياة وقوة الحياة – بينها وبين أدونيس وتاياس وأتارغاس وعشتروت وحجر الحبلى!


أخراً جاء دور الاتصال بالغرب والآداب الغربية فلمس السوريون في هذه الآداب آثاراً من أساطيرهم السابقة ومثلهم العليا وسرعان ما تحول الفكر السوري الجديد عن الانقياد إلى المثل العليا الضئيلة التي خلفها الأدب العربي إلى البحث عن المثل العليا المعبرة عن النفسية السورية، فعثر بعضهم في أثناء تنقيبه على أثر من تلك المثل الضائعة في "الزهرة وأدونيس" لشكسبير، ومر آخر بأبيات ملتن الخالد الذي يشير إلى حكاية تخضب نهر أدونيس "نهر إبراهيم اليوم" مرة كل سنة بدم أدونيس الذي جرحه خنزير بري كان هو يطلب صيده في هضاب لبنان:


“While smooth Adonis from his native rock


Ran purple to the sea, supposed with blood


Shakespeare; Venus and Adonis


Of Thammuz yearly wounded.”


و"تموز" ليس إلا اسماً آخر لأدونيس، ورأى ثالث في جملة ما رأي نبذة تاريخية لسورية عرف منها أن سورية أقدم من الفتح العربي والعصر العربي. وأن لها أدباً وأساطير قديمة تتجلى فيها النفسية السورية بحقيقتها. فابتدأ حينئذ، الفكر السوري يستعيد استقلاله الذي تشعر به في كل ناحية من نواحي الأدب السوري الجديد وزال الوهم أن الأدب العربي يمثل النفسية السورية.


وهكذا نرى أن الأدب السوري قد بعث ليكون مرآة نقية تنعكس عنها الصورة الحقيقية لمكنونات النفس السورية وقد ابتدأت طلائع هذا الأدب في مؤلفات جبران والجداول والمراحل وعل بساط الريح والأحلام وفاجعة حب وفي عدد غير قليل من المؤلفات الأدبية والمرسحية. وحدثت جدتها في الفنون الموسيكية والتلوينية فصار لنا بداءة أوبرا ومنظومات موسيكية جديدة وصور ملونة لملونين يظهر فيهم الذوق السوري.


ولست أدري في أي مؤلف من المؤلفات التي ذكرتها في الفقرة السابقة قرأت هذه النبؤة: "سيجيء اليوم التي تصير فيه النفسية والعقلية السوريتان الغنيتان بمواهبهما الطبيعية معينين ينهل منهما الأدباء وأهل الفنون والعلماء والفلاسفة الذين يخرجون من صميم الشعب السوري".


إن بساطة هذه العبارة التي تبدو للقارئ عادية، تعمقاً نفسياً غير عادي، أن فيها حقيقة تلمس ذلك السر العجيب الذي رافق الروح السورية منذ القديم وجعلها تتحرك وتنهض من بين أنقاض الزمان!


إنها تعني بعث الأدب السوري الذي سيستخرج حقيقتنا من داخلنا ويضعها أمام أعيننا وأمام العالم فنفهم أنفسنا ويفهمنا العالم!



نشر هذا المقال في مجلة "المجلة" بيروت العدد الرابع، حزيران 1933.



 

جميع الحقوق محفوظة © 2024 -- شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه