شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية 1937-12-18 |
الرد على البطريرك عريضة: مسائل السيَاسة القومية جزء 3 |
السلطة الروحية والسلطة الزمنية نعتقد، من العناية الشديدة التي تناول بها الحزب السوري القومي الاجتماعي، إن غبطته يوجه الكلام إلى الحزب السورية القومي الاجتماعي خصيصاً حين يقول: "اعترض علينا البعض، إننا، ونحن الرئيس الروحي، نتدخل بالأمور الزمنية" فنشكر غبطته بهذا الاعتراض الذي دفعه إلى جوابه وفسح لنا المجال للجواب، بدورنا عل جواب غبطته وإيضاح ما لابد من إيضاحه بهذا الصدد. إليك أيها القارئ العزيز جواب غبطته: "إن الأمور الروحية، وإن كانت غايتها خلاص النفوس بحفظ الإيمان، والشرائع الإلهية، فلها مساس عظيم بالجسد، لأن الإنسان ليس هو روحاً بسيطاً كالملاك ولا جسداً مستقلاً، بل هو مزيج من الاثنين، والجسد، إذ هو الجزء الأدنى، يجب أن يخضع للنفس. لأنها الجزء الأشرف من الإنسان وهو ليس إلا آلة تستعملها النفس لأغراضها. والأعمال الروحية إنما تتم بواسطة الجسد، ولما كان أساس الدين المسيحي قائماً بالمحبة لله تعالى وللقريب توجب على الرئيس الروحي أن يعاون الشعب بكل الأمور، روحية كانت أم زمنية، التي تعود لخيره الروحي أو الزمني. يقسم جواب غبطته إلى قسمين: قسم من شؤون اللاهوت البحت وقسم من شؤون نظر اللاهوتيين في الأوضاع الزمنية. فالقسم الأول هو ما تعلق بالروح والجسد والقسم الثاني هو ما تعلق بواجب الرئيس الروحي تجاه الأحوال الزمنية. لا نريد أن ندخل هنا في أي بحث لاهوتي صرف. باعتبار أن الروح من عند الله وأن الجسد من التراب وأن الاثنين مستقلان الواحد عن الآخر في الأصل، ولا في مناقشة علمية لهذه الاعتبارات اللاهوتية، بل نريد أن نقبل، جدلاً، هذا الترتيب اللاهوتي لعلاقة الروح بالجسد. ثم نناقش النظرية اللاهوتية بعد حصول المزيد من الروح والجسد وحصول الإنسان الذي لا يكون كيانه الجسماني سوى آلة تستعملها النفس لأغراضها، إذ "الأعمال الروحية إنما تتم بواسطة الجسد". كل إنسان، إذن "يولد مستكملاً الشرطين العلوي والسفلي: الروح والجسد" وبحصول المزيج يصبح الإنسان تاماً، روحاً وجسداً، ونصرف النظر هنا عن شروح علم النفس وعن التحليل النفسي وعن التفاعل بين النفس والجسد أو بين ما هو سيكولوجي وما هو فيزيولوجي ونجيب على نظرية غبطة البطريرك اللاهوتية من كلامه عينه فنقول أنه لما كان "مساس الأمور الروحية العظيم" مستمداً من علاقة الروح بالجسد ولما كان الإنسان ذا روح بعينها وذا جسد بعينه فكل إنسان له روح تهتم بتصريف شؤون جسدها. ولما كانت غاية الأمور الروحية "خلاص النفوس بحفظ الإيمان والشرائع الإلهية" مهما كان مساسها بالجسد عظيماً يجب أن نخرج من دائرة الروح إلى دائرة الجسد فتثقيف النفوس في "حفظ الإيمان والشرائع الإلهية" هو أمر ديني من أمور الروح يجب أن لا يتعدى هذا الحد إلى الأجساد لأن إن تعداها أبطل ذاتية الروح الخاصة واستقلال الفرد وحريته في تصريف شؤون جسده وفاقاً "للإيمان والشرائع الإلهية". فواجب الرئيس الروحي أن يقتصر على تعليم الإنسان أموره الروحية حتى إذا أكمل تعليمه "الإيمان والشرائع الإلهية" أصبح قادراً من تلقاء نفسه، على السير في أحكام الإيمان والشرائع الإلهية مع الاحتفاظ باستقلاله عن رئيسه الروحي في الشؤون الزمنية التي تتطلب معرفة الزمنيات المعقدة من علوم وفنون اختصاصية تحتاج إلى ثقافة أخرى مبنية على العلوم والفنون الزمنية، لا يمكن أن تغني عنها "الشرائع الإلهية" التي غايتها "خلاص النفوس" لكي لا تذهب بعد الموت إلى جهنم. فالعلم الروحي يمكنه أن يعلم "الشرائع الإلهية ويرشد إلى الصلاح النفسي وفاقاً لهذه الشرائع" ولكنه هو نفسه مختص بالروحيات لا يمكنه أن يعلم العلوم المادية وفن الإحصائيات وعلوم الطب والكيمياء والهندسة والاقتصاد وما تنطوي عليه من علوم ومسائل فرعية لأن هذه الأمور ليست موجودة في "الشرائع الإلهية" الثابتة وهي أمور تتطور وترتقي بالاكتشافات والاختراعات بينما تظل "الشرائع الإلهية" ثابتة جامدة بطبيعة النقل. نقول أن واجب الرئيس الروحي ألا يتعدى دائرة الروح إلى دائرة الجسد لئلا يقع فيما يوجبه هذا التعدي من تطبيق أحكام الدائرة الجسدية عليه هو نفسه فيصبح "كواحد من الناس"، لأنه متى خرج إنسان من الروحيات من دائرة الروحيات إلى دائرة الزمنيات أصبح المقياس الذي يقاس به: مبلغ معرفته وخبرته العلوم والأحوال الزمنية، لا مبلغ حفظه "الإيمان والشرائع الإلهية". أما الاستنتاج من علاقة الروح بالجسد اللاهوتية إنه بما أن الجسد خاضع للروح فالأجساد يجب أن تخضع لسلطة زمنية للرئيس الروحي فهو استنتاج لو حصل لكان ضلالاً بعيداً عن شؤون الروح والجسد معاً، لأنه لا يعني خضوع الجسد للروح فقط، بل يعني خضوع كل الأجساد لروح واحدة تعطل مواهب الأرواح الأخرى وتنقض غرض الروح المرسلة من عند الله، فإذا كانت الروح مسؤولة عن الخضوع "للإيمان والشرائع الإلهية" فهي ليست مسؤولة عن ترك شؤون جسدها الزمنية لروح واحدة هي روح الرئيس الروحي. الروح نفسها غير مسؤولة عن الخضوع للرئيس الروحي إذ هي مسؤولة عن "حفظ الإيمان والشرائع الإلهية" فقط، فكم بالحري الجسد الذي هو "آلة تستعملها النفس". وأما قول غبطته "ولما كان أساس الدين المسيحي قائماً بالمحبة لله تعالى وللقريب توجب على الرئيس الروحي أن يعاون الشعب بكل الأمور التي تعود لخيره الروحي أو الزمني، "روحية كانت أو زمنية" فينقصه شرط بقاء المعاونة ضمن دائرة اختصاص الرئيس الروحي غايتها "حفظ الإيمان والشرائع الإلهية" فلا تتعدى إلى إدارة الدولة وسياستها وتصريف الشؤون الزمنية، التي تحتاج أموراً أخرى غير "حفظ الإيمان والشرائع الإلهية". وأما التشبث بالسلطة الزمنية فكلام مبني على التقاليد الكنسية لا على حاجة الحياة ومطالب الحياة الزمنية. .... للبحث صلة، نشر هذا البحث التحليلي في جريدة "النهضة" الصادرة في بيروت، وذلك ابتداء من العدد 58 تاريخ 18 كانون الأول سنة 1937
|
جميع الحقوق محفوظة © 2025 -- شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه |