إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

التأسيس... حركة صراع ومسيرة بناء لنهضة الأمة وقيام نظامها الجديد - 1

توفيق مهنا - البناء

نسخة للطباعة 2016-12-05

إقرأ ايضاً


من وقت إلى آخر، وفي محطّات سياسية معيّنة، ولأغراض تندرج في سياق الحملات المعادية للخط القومي، وتحت ذرائع السيادة المنتقصة، يستعيد بعض الأقلام والجهات استحضار بعض الوجوه لتزيين صورتها وتظهير دورها في إنجاز استقلال لبنان، وتقديمها إلى الرأي العام كشخصيات «خارقة» في بطولاتها وأعمالها، في وقت تُفصح هذه الأقلام عن حقد اتجاه الحزب السوري القومي الاجتماعي ومنهجه الثوري، وهو الحزب الذي استهدف بناء دولة حديثة في لبنان، وخاض نضالاً بطولياً ضدّ الاستعمار ونال أبطاله أوسمة الشرف القومي سجناً واعتقالاً وتنكيلاً ونفياً.

وفي محاولة للإضاءة على مفهوم الثورة المستند إلى التأسيس، تنشر «البناء» ردّاً كان الأمين توفيق مهنّا نشره في جريدة «الحياة»، وممّا جاء فيه:

العودة إلى التاريخ ضرورة حيوية لكلّ أمّة يتطلّع شعبها إلى بناء مستقبله وصيانة مصيره وضمان تقدّمه وتطوّره. فالتاريخ ووقائعه ليس كتاب الماضي وسجلّ حوادث ومجريات عرفت نطاقاً محدوداً في الزمان والمكان فقط، وإنما هو أيضاً قبس ضوء وقنديل نور يكشف اتجاه المستقبل وصيرورته. وضمن هذا الإطار وحده، يعنينا قراءة أحداث التاريخ ووقائعه، فالعودة إليه عندنا، لا تعني نبش أحداث أو نكأ جراح، وكأنّ مشاغل الحاضر غير جديرة باهتمامنا.

أوَليست من الخطورة التي تفرض على كلّ مفكر أو أديب أو كاتب أو بحاثة أو كاتب مقال أن يوليها العناية الفائقة لشمولها على ما يهدّد وحدة المصير القومي ويستهدف المجتمع بأسره ويطرحه تحت رحمة الإرادات الاستعمارية الخارجية وفي قبضة المخطط الصهيوني الاستيطاني الذي يقضم الأرض ويهدّدها ويطرد الشعب ويفنيه ويزرع في جسد الأمة هجرات غازية متداخلة تحلّ محلنا من فلسطين إلى لبنان إلى الجولان. وإلى حيث تتمكن أن تفرض بالقوة مدى اغتصابها ونطاقه.

وفق هذه الرؤية، كنا، نتوخى أن تأخذنا عودة الأستاذ وضاح شرارة إلى هذا البعد حول تاريخ لبنان وأحداثه وصراعاته وانعكاسات أسبابها ونتائجها، لكن ما وقع تحت ناظرنا في جريدة «الحياة» وفي إصدارين متتاليين بتاريخ 11 و12 آب 1991 يشذّ عن هذه القاعدة في استقراء أحداث الماضي وجنوحه عن اعتماد المنهج العلمي والموضوعي إزاء مرحلة حساسة، ليصبّ كل ما كتب في خانة نكأ الجراح، ونبش الملفات بانحياز ظاهر وغير مستور واعتماد روايات أو أخبار لا يصحّ بتاتاً أن تشكل مستنداً لتشكيل موقف تاريخي، أو حكم تاريخي.

وفي سياق ردّنا على اتهمات الأستاذ شرارة ضدّ الحزب السوري القومي الاجتماعي وزعيمه انطون سعاده لن نقع في دائرة نكأ الجراح، ونبش الملفات، وإنما نحصر موقفنا في إسقاط التحامل الذي طغى على المقالتين المذكورتين. وليس همّنا بتاتاً، أن نفتح سجالاً حول ما حصل في الماضي وإنْ كنا حاضرين له، وغير هيّابين لاقتحام غماره، لأننا نعتقد وهي قناعة راسخة لدى كلّ أهل الرأي والحكم وفي أوساط الشعب الواسعة أنّ سعاده زعيم الحزب السوري القومي الاجتماعي قد قضى بفعل مؤامرة دينئة. وقف وراءها التحالف الرجعي العربي اللبناني، مدعوماً من الدوائر الاستعمارية الأميركية والصهيونية. وإنّ الحكم اللبناني وأركانه، آنذاك، نفذوا الحكم بالإعدام دون محاكمة واتخذوا القرار الذي يندى له جبين كلّ قومي حرّ وكلّ ديمقراطي نزيه، وكلّ تقدّمي أصيل، وقد دخل سعاده التاريخ كقائد أول ثورة عقائدية سياسية شعبية يقودها حزب منظم في المنطقة العربية، في مواجهة نظام الإقطاع والطائفية والرأسمالية، واحتلّ سعاده مكانه في التاريخ زعيماً مفدّى. ختم رسالته بدمه ورسم معالم الطريق لحزبه وشعبه، للخلاص من النظم الطائفية والعشائرية والقبلية والإقطاعية ومن نظم الاحتكارات والمصالح الخصوصية والمنافع، من نظم كانت هي ورجالها ثمرة أيادي الأجنبي بقيت احتياطه الدائم في المنطقة. وأخذ سعاده مكانته في التاريخ كرائد في الثورة القومية ومنارة بالوعي القومي الثوري، غير الراضخ لمفاعيل التجزئة في مؤامرة سايكس بيكو والداعي إلى الوحدة القومية التي تجمع الشعب السوري العربي في كلّ سورية الطبيعية على قضية واحدة يجد فيها الشعب مصالحه الحقيقية وتاريخه وحضارته كما يجد فيها المستقبل الزاهر والمضيء. والوحدة التي دعا إليها وكافح لأجلها هي فعل إرادة الشعب الذي أخذ يخضع لبث الدعوات الانفصالية والانعزالية، ويصوّر له أنّ الخلاص هو في الانعزال والتقوقع ضمن نطاق الكيان ومعاداة العرب والبيئة القومية. وأنّ القطع مع العرب هو الممرّ إلى صيانة الاستقلال، مما رسخ في أذهان الشعب الوحدوي التطلع تاريخنا إلى الالتزام بقومية الأفكار الانعزالية الانسلاخية التي أدّت في سياق التطور التاريخي إلى تفجير لبنان وإلى الحرب الأهلية الدموية التي دفع الشعب ثمنها باهظاً.

إنّ جنى الشعب اللبناني المرّ طوال الحرب المدمّرة هو من غرس تلك الأيادي التي زيّنت النزعة الانفصالية والاستقلالية، لقاء مصالح لها في الحكم. وأنّ أبطالها لمعروفون جيداً في الحياة السياسية اللبنانية. إنّ أبطال الاستقلال بدعواتهم الانعزالية الانسلاخية، لبنان ذو وجه عربي، وليس عربياً، ولا للعرب ولا للغرب وأبطال القطيعة الاقتصادية، وصانعو الميثاق الطائفي على قواعد 6 و6 مكرّر، يتحمّلون وحدهم وزر ما صنعت أيديهم بحق الشعب اللبناني. وقد صدق سعيد تقي الدين الأديب القومي الكبير عندما قال»من يزرع الريح يحصد العاصفة»، كما صدق المسيح حين قال: «من ثمارهم تعرفونهم».

وبالعودة إلى المقالتين نودّ أن نفنّد ما ورد فيهما لكي تتضح الحقائق والوقائع المتصلة بتلك المرحلة التاريخية الهامة من تاريخ لبنان والمنطقة. وإننا نتوخى من ردّنا تسجيلاً صحيحاً لأحداث التاريخ يجنّب الأجيال الوقوع في الأخطاء ويصونها من الاستنتاجات الضارّة لذوي الغايات الذين يقاربون وقائع التاريخ لا كما هي بل كما تخدم أغراضهم ومصالحهم، أو كما تروق لهم وتنسجم مع رغباتهم وميولهم.

ولأنّ هذا قصدنا فإننا نتجاوز تلك المرافعة الشخصية لسيرة رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رياض الصلح، ونركز على المواقف التي لها صلة مباشرة بقضية نضال الحزب السوري القومي الاجتماعي وثورة تموز الأولى بقيادة زعيمه بتاريخ 3 و 4 تموز 1949 ومؤامرة إعدامه من قبل الحلف المصري السوري اللبناني حلف فاروق ـ حسني الزعيم ـ الصلح. ولا بدّ أن نلفت إلى أنّ الأمانة التاريخية كانت تفرض على الكاتب أن يتناول سيرة مؤسّس وزعيم الحزب السوري القومي الاجتماعي الشخصية، لا أن يغفلها، وهي السيرة الزاخرة بالنضال القومي البارز. من كفاح مستميت ضدّ الاستعماريين الفرنسي والانكليزي. سجون وتشريد في زنازين الانتداب نفي واغتراب قسري ووقفات عز في وجه المحاكم المختلطة، ومشاركة ميدانية في الثورات القومية في فلسطين ضدّ العصابات الصهيونية، واستبسال في معارك الاستقلال في لبنان والشام.

إنّ مسيرة الرجال الكبار، لا تنكر أو تستبدل بسير خريجي المدارس التركية «والعثمانية» ولا في سير من تخرّج من أحضان الإرساليات وتشرّب ثقافتها وأفكارها وتطبّع بإراداتها السياسية، وأنّ لمن السذاجة أن تتجيّر نضالات الشعب اللبناني وقواه الحيّة، وفي طليعتها الحزب السوري القومي الاجتماعي في خوض معارك التحرّر من الانتداب طوال سنوات لاقوا فيها الاضطهاد والتنكيل والسجن والتشريد إلى رجالات أهل الحكم وأعوان الانتداب آنذاك. وإنها لمجانبة للحقائق التاريخية أن يعزى الاستقلال إلى شخص أو إلى فريق أهل الحكم، وأن تغفل التحركات القومية التحرّرية وتضحياتها في هذا الصدد، ويكفي ان نلفت إلى أنّ اعتقال رجال الدولة اللبنانية في 11 تشرين 1943 ووضعهم قيد الاعتقال في قلعة راشيا قد سبقه ملء السجون بالمئات من المناضلين القوميين الاجتماعيين لمحاربتهم الانتداب وتحدّيهم لسلطاته وانخراطهم في القتال ضدّ قواته. كما حصل في بشامون التي جبل ترابها باستشهاد بطل الاستقلال اللبناني الوحيد سعيد فخر الدين السوري القومي الاجتماعي.

كان لا بدّ من هذه الإضاءة لتصبح قراءة التاريخ وأحداثه سليمة وصحيحة وغير منحازة، وتفسيراً لما جاء في المقالتين نورد الايضاحات التالية:

1 ـ يبدأ الأستاذ شرارة مقالته بحادث مقتل رئيس الوزراء اللبناني رياض الصلح على طريق مطار عمّان بعد مقدّمة يتناول فيها الدور المميّز للصلح في إنجاز استقلال لبنان، ويعرض لمواقف الصلح التي شكلت الرافعة الأساسية لانتصار فكرة الاستقلال اللبناني في دولة ذات سيادة ومعترف بها. ويشير إلى فقرات وردت في البيان الوزاري الأول.

«قلنا في فقرة سابقة إننا لن نتوقف عند السيرة الشخصية لرئيس الوزراء الأسبق، ولا عند مواقفه ومفاهيمه السياسية ودوره الفريد في تكريس الكيان اللبناني مع الرئيس بشارة الخوري، دولة مستقلة عن سورية.

لكن اختيار الكاتب البدء بحادث الاغتيال، يعرض فيه نبذة تاريخية عن الأشخاص الذين قاموا به وتجاوز الأسباب الحقيقية التي وقفت وراء عملية الاغتيال والقفز على الدوافع الفعلية التي تدخل في نطاق السياسة والتوجهات والتطلعات وتتخطى أعمال الثأر، يدلل على أنّ الكاتب قد تعمّد قصداً شطب معاني الثورة القومية الاجتماعية الأولى التي قام بها زعيم الحزب السوري القومي الاجتماعي، وإغفال المؤامرة التي سبقت إعلان الثورة السورية، وهي المؤامرة التي تجد جذورها في يوم عودة أنطون سعاده إلى لبنان من مغتربه القسري عام 1947 وفي ردّة فعل الحكومة على الخطاب التاريخي، خطاب العودة الذي ألقاه في الجموع الغفيرة التي فاقت الثلاثين ألفاً في استقباله. فما أن وطأت أقدام سعاده أرض لبنان وأعلن في خطابه أنه في حالة الاستقلال الحاضرة خرجت الأمة من «القواويش» التي كانت فيها. خرجت الأمة من الحبوس في داخل البناية التي أعدّها لها الاستعمار ولكنها حتى الآن لا تزال ضمن السور الكبير الذي يحيط ببنايات السجن… «نحن الآن خارج القواويش لكننا لا نزال ضمن السور».

ويقول في مكان آخر «لم يكن عملكم في الساعات الهينة من تاريخ هذا الاستقلال، إنّ عملكم لم يكن انتهازياً، لم يكن تحت حماية الحراب البريطانية أنتم ناضلتم عن هذه الأمة وحيدين وأنقذتم شرف الأمة وحيدين، يوم كان رجالكم قائدو النهضة في السجون مكبّلين». ويحدّد «أنّ الكيان اللبناني هو وقف على إرادة الشعب اللبناني… وإنّ الكيانات يجب أن لا تكون حبوساً بل معاقل تتحصّن فيها الأمة وتتحفز للوثوب منها على الطامعين في حقوقهم». ويضيف: «لعلكم ستسمعون من سيقول لكم انّ في إنقاذ فلسطين حيفاً على لبنان واللبنانيين وأمراً لا دخل للبنان فيه. إنّ انقاذ فلسطين هو أمر لبناني في الصميم كما هو أمر شامي في الصميم كما هو أمر فلسطيني في الصميم. إنّ الخطر اليهودي على فلسطين هو خطر على سورية كلها… إنّ كلمتي اليكم أيها القوميون الاجتماعيون هي العودة إلى ساحة الجهاد…»

إنّ هذه المواقف الواضحة من الاستقلال والكيان اللبناني ومن معركة فلسطين دفعت الحكومة اللبنانية إلى اصدار مذكرة توقيف بحق أنطون سعاده وقضت بملاحقته. فالمؤامرة لها جذور وجذورها هي الهواجس التي انتابت أركان الحكم من قوة الحزب السوري القومي الاجتماعي، واستشعار الخطر من مواقفه القومية الواضحة في المسألة اللبنانية وفي القضية القومية.

وفي هذا السياق عينه، منعت الحكومة اللبنانية الحزب السوري القومي الاجتماعي من الدعوة إلى التظاهر في 2 تشرين الثاني 1947 في ذكرى وعد بلفور، وجاء في البيان الذي أصدره سعاده حول قرار الحكومة بمنع التظاهر: «لم نكن في حرب معلَنة مع الحكومة اللبنانية، ولم نكن نقصد غير التعبير عن إرادة الأمة السورية كلّها في مصير أرضها الجنوبية، فلسطين، وجاءنا تبليغ الحكومة مفاجئاً، ويجب أن نعترف بأنّنا لم نكن نتوقّع مثل هذه المفاجأة المنكرة، لأنّه لم يخطر في بالنا أنّ الأمر يبلغ بخصوصيات الحكم إلى هذا الحدّ». إنّ الحكومة اللبنانية هي التي منعت تسليم السلاح للحزب القومي للمشاركة في القتال في فلسطين، ويكشف القائد فوزي القاوقجي في مذكّراته أنّ منع الحزب القومي من التسلّح كان نزولاً عند رغبة رئيس الحكومة اللبنانية الذي نُقل عنه قوله: طبعاً أن يتفرّغ الحزب القومي من القتال في فلسطين، سيعود ويقاتلنا في لبنان.

إنّ المؤامرة استهدفت القضاء على البعد القومي والثوري لمواقف الحزب القومي، والدافع وراء ذلك عزل لبنان عن القيام بواجباته القومية في معركة فلسطين، واعتبار المسألة الفلسطينية شأناً لا يخصّ اللبنانيّين، فالمؤامرة استهدفت الحزب القومي لأنّ عقيدته وبُنيته التنظيمية تجاوزت حدود التجزئة المرسومة في معاهدة سايكس بيكو، ودعوته للوحدة القومية هي تمرّد على كيانات التجزئة ودُعاتها، وتحدّ لحكومات الانفصال والقطيعة التي جاءت لتكرّس العزلة بين أبناء الأمة الواحدة تلبيةً لرغبات الإرادات الاستعمارية ولمصالح الفئات الإقطاعية والطائفية وأرباب العائلات الحاكمة.

2 ـ إنّ المؤامرة التي تعرّض لها زعيم الحزب السوري القومي الاجتماعي والحزب الذي أنشأ، تجد جذورها أيضاً في خوف أهل الحكم الطائفي والإقطاعي وأرباب الميثاق الطائفي، ميثاق 1943 من الوعي القومي الوطني والنهضوي الذي أخذ بالانتشار والاتّساع في كلّ مناطق لبنان، مخترقاً كلّ الطوائف ومحطّماً كلّ السدود ومؤلّباً الجيل الجديد وقوى الشعب حول الفكر الجديد وتطلّعاته لبناء استقلال حقيقي، وعلى أسُس صحيحة وغير فاسدة وبالية وعتيقة. وقد شكّل هذا التقدّم للفكر القومي العلماني التقدّمي اللاطائفي في أوساط كلّ الفئات المسيحية منها والمحمدية تحدّياً للقوى الطائفية التقليدية وللعائلات السياسية المستمدّة نفوذها من العهد العثماني ومن الانتدابين الفرنسي والبريطاني، وشعرت بأّنّ أنطون سعاده وحزبه يهدّدان مصالحهم وزعاماتهم، ويسحب البساط من تحت أقدامهم. ولذلك كانت تعدّ الخطط لسحقه والتخلّص منه والقضاء على تحدّيه للنظام الطائفي الإقطاعي وأربابه.

ويسجّل التاريخ الحديث للاستقلال اللبناني كيف تآلبت كلّ القوى والنظام الرجعي الطائفي لتزوير الانتخابات النيابية عام 1947، وهي أول انتخابات جرت بعد الاستقلال، وكيف نزلت الدولة اللبنانية بكلّ قوّتها لمنع مرشّحي الحزب القومي من الفوز، فزوّرت وهدّدت، ممّا دفع المراقبين آنذاك لأن يتحدّثوا عن تزوير للإرادة الشعبية التي لم يعرفها بلد من قبل.

فالمنهاج الانتخابي النيابي الذي خاض على أساسه الحزب القومي وأنصاره الانتخابات جاء معبّراً عن حاجات الشعب وتطلّعاته إلى قيام دولة عصرية وبناء مؤسّسات حديثة على أساس تفكير قومي ينسف الأساس الطائفي للحياة السياسية اللبنانية في النظام، وتعميم نظام المواطنين والعدالة والمساواة. وقد ركّز المنهاج على وضع القواعد الاقتصادية والسياسية للاستقلال، وأرسى الإصلاح الاجتماعي والاقتصادي والزراعي والصناعي لتنهض البلاد وتتقدّم، ووضع قواعد الإصلاح السياسي والقضائي والإداري.

لقد طرح المنهاج الانتخابي النيابي تصوّراً شاملاً لدولة عصريّة لبنانية جديدة مغايرة للنظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي القائم، وقد ارتعدت فرائص أهل الحكم للإقبال الشعبي على تأييد منهاج الحزب القومي ومنح مرشّحيه الثقة. فما كان إلّا أن انخرط أهل الحكم جميعاً، من الإقطاع الطائفي المسيحي إلى الإقطاع المحمدي في معركة شرسة لإسقاط مرشّحي الحزب. ومنذ ذلك الحين أخذ أرباب النظام يخطّطون للخلاص من الخطر المحدق بمواقفهم.

وقد حاك حزب الكتائب بالتعاون مع السلطة اللبنانية خيوط المؤامرة في حوادث الجمّيزة التي كانت الشرارة لملاحقة الحزب وقيادته وزجّ رجاله وقياديّيه في السجون. وهو ما أملى على سعاده أن يتّخذ قراره بالثورة القومية الاجتماعية دفاعاً عن الحزب، ورفعاً للاضطهاد والظلم الذي يحدق به.

وقد اعترف الأستاذ جوزف أبي خليل في مقالة له في جريدة «السفير» اللبنانية بتاريخ 12/8/1991 بجريمة حزب الكتائب وافتعالها حوادث الجمّيزة وقال: «ثمة إحساس بالذنب يلازمني منذ أحداث العام 1949، التي انتهت باعتقال أنطون سعاده ومحاكمته وإعدامه في غضون ساعات. وأتساءل اليوم كيف لم أستفظع تلك المحاكمة، على الأقلّ بيني وبين نفسي، وخصوصاً أنّ ملاحقة الزعيم جاءت في أعقاب حادثة الجمّيزة المعروفة وقد كنت أحد المصفقين لأبطالها».

إنّ هذا الاعتراف كاف لدعوة الأستاذ شرارة أن يعيد قراءة تلك المرحلة بمنظار جديد ورؤية مختلفة، لأنّ حقائق التاريخ يجب أن تحلّ محلّ الرغبات والأمنيات.

ونلفت أيضاً إلى كتاب «لعبة الأمم» لمؤلفه كوبلند الذي يكشف أنّ حسني الزعيم الذي سلّم أنطون سعاده إلى الحكومة اللبنانية كان عميلاً للمخابرات الأميركية. ونقتطف النص التالي للدكتورة نجاح محمد من كتابها: الحركة القومية العربية في سورية 48 67 : «لقد سلّم حسني الزعيم سعاده للإعدام مع أنّه في البداية قدّم له الرجال الرجال والأسلحة، وشجّعه على الثورة في لبنان ضدّ رئيس الوزراء رياض الصلح الذي كان صديقاً حميماً للقوتلي، والذي كان يشكّ في أنّه يتآمر لإسقاطه. ولا شكّ أنّ دعمه لثورة سعاده في البداية قد سبّبت تخوّفاً من قِبل فرنسا والولايات المتحدة وإنكلترا وإسرائيل التي لا ترضى بأن يحصل أيّ تغيير في لبنان».

إنّ التغيير في لبنان لا يُسمح به، والدول المذكورة لها مصلحة في إبقاء نظام الحكم القائم، ولذلك عاد حسني الزعيم وسلّم أنطون سعاده بعد تلقّيه أوامر اسياده بالتسليم للحفاظ على النظام وأهل الحكم في لبنان. إنّها وقائع تاريخية، وعند وجود النص يبطل الاجتهاد.

3 ـ والغريب، كيف يعتبر الأستاذ شرارة الصلح هو أشجع رجل سياسي عربي قدّم رابطة الدولة الوطنية على العصبية الأهلية، وكلّ وقائع التاريخ تنقض ذلك التقدير. ونتوقّف لنتساءل ما هو معنى الدولة الوطنية؟ هل المقصود بالدولة الوطنية نشوء الدولة اللبنانية؟ ويعطي فضل نشوئها للصلح الذي تخلّى عن العصبية الأهلية التي كانت تنادي بالوحدة السورية، أم المقصود أنّ الصلح أرسى دعائم الرابطة الوطنية والنظام الوطني، على حساب العصبية الطائفية والمذهبية؟

إذا كان الأستاذ شرارة يقصد المعنى الأول، فإننا نوافقه لأنّ الصلح بالفعل تنكّر إلى الوسط الذي ينتمي إليه، وكان يرفع لواء الدعوة للوحدة مع سورية، ودعا إلى قيام دولة لبنانية جديدة معزولة عن الأمّة السورية التي كان الصلح أحد الدُّعاة لها طوال حياته السياسية، وهذا ما دفع برئيس الوزراء السوري خالد العظم إلى أن يدوّن في مذكّراته: «إنّ الصلح تخلّى عن الدعوة إلى الوحدة السورية، لقاء كرسي الوزارة في لبنان».

أمّا إذا كان المقصود بناء النظام الوطني المتخطّي روابط العائلية والعصبية الأهلية، فهذا لا يمكن لأحد أن يدّعيه للصلح الذي أرسى دعائم النظام الطائفي وصيغة الميثاق الطائفي. صيغة 1943 و6 / 6 مكرّر، التي كرّست تقاسم الحكم ومناصبه بالوظائف بين الفئات الطائفية والإقطاعية، ومن دون مراعاة لقواعد النهوض الحقيقية وروابط المواطنية والوطنية التي لا تقوم دول حديثة تقدّمية وعصرية إلا على أساسها.

وإنّ صيغة الحكم التي أرساها الصلح مع الخوري كانت هي السبب وراء قيام كلّ الثورات والانتفاضات والخضّات في لبنان منذ ثورة 1949 وصولاً إلى الحرب الأهلية التي اندلعت عام 1975، ونأمل أن تكون قد انتهت رغم أّنّ الصيغة الجديدة، صيغة اتفاق الطائف هي نسخة منقّحة عن ميثاق 1943 مع بعض التعديلات في الصلاحيات لمؤسّسات الحكم. لكنّها تقوم على نفس القواعد، وتكرّس نفس الأسُس. وهذا ما جعلنا نبدي تخوّفاً بأنّ «اللغم» لم يُنزع بعد من الحياة السياسية اللبنانية. الطائفية هي اللغم الموقوت، وإذا لم يُنتزع فتيلها نهائياً من عمق النظام لقيام نظام آخر، فإنّ الشعب اللبناني سيدفع ثمن صيغة الطائف ما دفعه ثمن صيغة 1943.

ولذلك نتساءل، هل الشجاعة هي في الإقدام على خطوة انفصالية بقيام دولة وطنية وإدارة الظهر لمطلب الوحدة السورية، وتأسيس دولة وطنية تتلاقى مصالحها مع مصالح لبنان الحقيقية في الوحدة والتفاهم والتنسيق مع البيئة السورية، كما كان يطمح إلى حصوله سعاده وحزبه؟

 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024