إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

أنطون سعاده: الحزب والنهضة رؤية حوارية

نزار سلّوم - البناء

نسخة للطباعة 2018-03-01

إقرأ ايضاً


شارة تمهيدية

يقدم أسعد أبو خليل في مقالته أزمة الحزب السوري القومي الاجتماعي: النهضة مجدداً ـ جريدة الأخبار، السبت 11 آذار 2017، صفحة رأي، العدد 3125 ، مقاربة تتجاوز في مضمونها مناقشة ما يفترض أن يعنيه مصطلح «أزمة الحزب» ليتناول شؤوناً مختلفة تتعلّق بأنطون سعاده وشخصيته وبعض كتاباته وخصوصاً كتاب «نشوء الأمم»، كما تناول نواحي من سياسات الحزب ومواقفه وخريطة علاقاته وبعض أساليبه السياسية والثقافية، ناقداً أحياناً ومثنياً في أحيان أخرى.

يمكن القول: إن الكاتب قدّم «رؤية ما» إلى سعاده والحزب، وإن كانت في سياق مقال صحافي، غير أنها اكتنفت ملامح نقدية/ معرفية وإن لم تأت وفق أسلوب أكاديمي أو نقدي محض، إلا أنها في النهاية نمّت عن جدية واهتمام ملحوظ بالحزب وسياساته وأزماته ومصيره. وعلى ذلك، لا يجب النظر إلى ما سنقدمه في هذا النص على أنه ردّ تقليدي على مضمون مقالة أسعد أبو خليل، ولا بأي معنى، بل هو «إضافة ما» مختلفة في رؤيتها لسعاده والحزب بما يمكن اعتبارها نوعاً من الحوار العالي الصوت، الذي آمل أن يستمر محسّناً أدواته المنهجية إلى الوقت الذي يمكن فيه التيقّن من إنتاج مناخ حوار فكري، مفقود راهناً؟، في حقل الفكر السياسي خصوصاً، الذي يطغى عليه مناخ ثقافة سياسية شديدة الابتذال في عناوينها ومرجعياتها ومنهجياتها فضلاً عن لغتها ومصطلحاتها.

وفي سبيل إعداد «منصّة» حوار لائقة وواضحة المعالم، عمدت إلى منهَجَة العناوين المتعدّدة التي انطوت عليها مقالة أبو خليل في مقدمة وحقلين رئيسين. وبينما تقوم المقدمة على سؤال تأسيسي حول حق النقد من موقع الاختلاف، جاء الحقل الأول خاصاً بأنطون سعاده وفكره وشخصه، فيما عُني الحقل الثاني بالحزب ووضعه وسياساته ومواقفه. تهمّني الإشارة أخيراً إلى أن العديد من الأفكار المطروحة في هذا النص، اعتمدنا في شرحها أحياناً على كتابنا «أهل السورية وخصومها» الصادر في العام 2005 عن دار أبعاد في بيروت.

مقدمة

هل لكاتب أو مفكّر الحق في تناول ونقد عقيدة لا ينتمي إليها، لا بالمعنى الحزبي الرسمي ولا بالمعنى الفكري/ الثقافي، وربما يكون منتمياً إلى غير عقيدة؟

وعلى ذلك، هل لأسعد أبو خليل الحق في تناول ونقد الحزب السوري القومي الاجتماعي، في عقيدته وسياساته ومرجعيته بما فيها مؤسسه وزعيمه أنطون سعاده؟ أم أنّ مقالته هذه قد تكون، حسب قوله، تطفّلاً على شؤون الحزب من خارجه؟ .

لا شكَّ في أنَّ هذا التساؤل يطاول تاريخ الفكر السياسي والحقل النقدي منه خصوصاً، ذلك لأن النقد السياسي غالباً ما يأتي مدججاً بـ«حمولات» دوغمائية ناتجة من سياق الخصومات السياسية التي تصل في احتدامها أحياناً إلى مرحلة «العداوة» التامة. ومن المؤكد أن تاريخ النقد السياسي الخاص بحياتنا الحزبية والعامة لا يشير إلى محاولات متعددة ومرموقة ومتحرّرة من ضغط تلك «الحمولات»، بل إن هذه المحاولات تكاد تكون نادرة جداً.

يمكن القول: إن الصراع الذي حكم علاقات الأحزاب السياسية منذ ما قبل الاستقلالات الكيانية – الوطنية في أربعينيات القرن العشرين وما بعدها، لم يكن لأسباب «فكرية – معرفية» بالدرجة الأولى وإن تمّ الإيهام بذلك في أحيان كثيرة. وعلى ذلك جاءت الأدبيات النقدية، خصوصاً الحزبية، في أغلبها، متخمة بالاتهامات الشعاريّة والأفكار النمطية العمومية التي قصد منها التأثير على موقع الحزب محل النقد ومكانته في الحياة العامة. على سبيل المثال، لا يوجد، برأينا، أي سبب فكري يسّوغ اتهام الحزب السوري القومي الاجتماعي بـ«النازية» وباعتبارها مرجعية فكرية لـ«عقيدته»؟! بل إنّ الموقع السياسي للحزب الذي وضعه في مواجهة الانتداب الفرنسي تلقفها خصومه من الأحزاب الأخرى، ومنهم الحزب الشيوعي مثلاً، واستخدموها في صراعهم معه.

ما يصحّ منهجياً على الحزب السوري القومي الاجتماعي، في هذا المجال، يصحّ أيضاً على الحزب الشيوعي وعلى غيره. وبمعنى ما، وعلى نحو تساؤلي: هل شهدنا مواجهة بين العقيدتين: القومية الاجتماعية والماركسية، بالمعنى الفلسفي/ الفكري؟؟ لا شكَّ في أن هذه المواجهة جاءت في منتصف القرن الماضي في منسوب متدنٍ لها، فيما جاءت المواجهات السياسية ـ الإعلامية بين مؤسستي الحزبين في منسوب عالٍ جداً. وبطبيعة الحال، إذا كان «الفكر» غائباً عن مضمون هذه المواجهة، وهي مثال، فإن المفكّر سيكون غائباً بالتأكيد، وما يوجد ليس سوى نص إعلامي وإن استعار أو حاول الإيهام بالمضمون الفكري ـ الفلسفي الذي لم يظهر إلا في وقت متأخر من ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، وإن سجلنا هنا أن النصّ الصادر عن كتّاب قوميين اجتماعيين مثل هنري حاماتي أو إنعام رعد أو وسيم زين الدين أبو واجب ، على سبيل المثال لا الحصر، كان أكثر التزاماً بالمنهجية الفكرية ويحمل نضجاً حوارياً ومعرفياً، من ذلك النص الصادر عن كتاب ماركسيين أو مستعيرين المنهج الماركسي أو غيره من المناهج مثل لبيب زويا «القومي سابقاً» وحازم صاغية العصي راهناً على الترسيم الفكري أو المنهجي؟!

يعود منشأ الحذر الذي يشعر به المفكّر أو الكاتب إزاء تناوله «عقيدة» لا يؤمن بها ولا ينتمي لها، إلى تاريخ الخصومات السياسية الذي أفقر الحياة السياسية النقدية، ورفع السواتر والجدران السميكة العازلة التي حالت دون وجود «التفاعل الخلاق» وغذّت بالمقابل عمليات الضرب الخاطف أو «القذائف النقدية العشوائية» التي تتساقط من فوق تلك الجدران.

تتمثل المفارقة المذهلة، هنا، في أنّ صحافياً؟؟ مثل حسن صبرا يكتب ما لذّ له وطاب وما هو مطلوب منه أن يكتبه عن الحزب السوري القومي الاجتماعي ٍللصابرين فقط على الركاكة اللغوية والفكرية وعلى الأخطاء المعلوماتية فضلاً عن الضحالة في المستوى الصحافي وفنياته، نقترح عليهم مراجعة مجلة الشراع في عدد أيار 2016 .

يكتب تلك الترّهات الكاريكاتيرية وهو منتشٍ، فيما يشعر كاتب صحافي وأكاديمي مثل أسعد أبو خليل بأنه «متطفّل»؟

يمكن الاستدلال، من هذه المفارقة، إلى ذلك الحضور المتواضع للنصّ النقدي وأصحابه في مشهد الثقافة السياسية السائدة.

من جانب آخر، يمكن التساؤل إن كان ثمة «محميات فكرية» لا يجوز لأحد الاقتراب منها؟ وهل يعني ذلك أن هذه «المحميّات» يتم تنصيبها واستلهام وجودها واستيلادها من حرمة النص المرجعي المقدس الذي يحال بينه وبين أدوات النقد ومنهجياتها، حيث تمنع من الاقتراب منه ومقاربته تحت أية ذريعة أو حيثية مفروضة من علاقته بالواقع ومصير المجتمع والإنسان الذي يزعم مسؤوليته عنه؟!

إن أي فكر يتناول حياة الناس ومصيرهم، أي فكر كان ومهما كان، لا يمكن له أن يرفع جدران الحمائية المقدسة، لأنه لا يصادر بذلك العقل وحسب، بل يصادر الحياة من بابها إلى محرابها، أي يصادر ما هو حي ومتحرّك ويحوّله ساكناً وجامداً، فليس لأحد مهما كان ومَن يمثل ممارسة هذا الحق، بل إن هذا الحق غير موجود في قاموس المصير الانساني؟!

الحزب السوري القومي الاجتماعي، بمرجعيته العقيدية، بفكره، بفلسفته، بمؤسساته، بسياسته، بمواقفه هو كائن حيّ يتحرّك وغايته المجتمع وارتقاؤه وانتصاره في معركة وجوده، ولأنّه كذلك، ولهذا السبب بالضبط وقبل أي سبب فكري، بابه مفتوح ومشرّع أمام المفكّر والناقد الذي ليس فقط له حق في دخول ذلك الباب والإقامة في جنبات المنزل الفكري خاصته، بل من واجبه كمفكّر التعاطي مع هذا «الكائن – الحزب» الذي يستهدف تغيير الواقع القائم، مستخدماً أدواته النقدية والمنهجية مقارباً ومتفاعلاً مع فصوله المرجعية ومواقفه المستجدّة ومختلف حالاته.

ذلكم، هو السبيل لإنتاج حقل النقد الخلاق الموازي للنص المرجعي الخلاق وتطورات فعله في الواقع.

في ذلك كله مسؤولية كبرى.

الحقل الأول

أنطون سعاده: مفكّراً… زعيماً؟

ثمة إشكالية، تبدو ملازمة للكيفية التي تتم وفقها قراءة شخصية أنطون سعاده. وهي إشكالية منهجية يعبّر عنها التساؤل التالي: هل أنطون سعاده مفكّر؟ باحث؟ فيلسوف؟ أديب وصحافي؟

أم أن أنطون سعاده: سياسي وقائد؟

لا شكّ في أنَّ وصف أنطون سعاده بـ«المفكّر» و«الفيلسوف» قد أغرى العديد من مريديه وقرّائه على السواء، لما تحمل هذه الصفة من ميزات شديدة الخصوصية «نخبوية» تحديداً. وقد تمنّى بعض منهم لو اقتصر عمل سعاده على الجانب الفكري/ الفلسفي وحسب، دون أن يكون مؤسساً لحركة وحزب!! وبمقدار ما يريد أصحاب هذا الاتجاه تمييز سعاده، باعتباره مختلفاً عن مؤسسي وقادة الأحزاب السياسية الأخرى، ويريدون أيضاً «تنزيهه» عن الأخطاء التي يرتكبها حزبه أو ارتكبها خلال تاريخه، حسب رؤيتهم، فإنهم في الوقت نفسه يعيدون إنتاج سعاده على نحو استبدادي، حيث يُخرجونه من تاريخه ومن ذاته ويدخلونه في مخبر معرفي ويحاصرونه في صورة تؤطّره كفيلسوف أو مفكّر، وهي صورة مأخوذة على نحو افتراضي حتماً.

يؤدي إدخال سعاده إلى «مخبر معرفي» تحت ضغط الإشكالية المشّرحة لشخصه، إلى إنتاجه كـ«مفكر / فيلسوف» ولكن إلى عزله عن ميزاته ـ، صفاته الأخرى، وهي رئيسة، كما إلى نسف الواقع الذي عاشه وحكم فكره وأدواته وخياله.

منذ نشأته وبداية عمله، لم يهتمّ سعاده بتمييز نفسه كـ«مفكّر» أو فيلسوف أو كاتب، كان سعاده مكرّساً كل جهوده العقلية لخدمة قضية كبرى، اقتضت منه في لحظة فاصلة أن يقدّم نفسه شهيداً لها، فكان ذلك فصلاً استثنائياً لا يخصه أو يخص حزبه فحسب، بل يميّز تاريخنا السياسي عموماً.

منذ أن طرح على نفسه ذلك السؤال التأسيسي: ما الذي جلب على شعبي هذا الويل؟ عندما كان يافعاً في ريعان الشباب، خلال الحرب العالمية الأولى 1914 ـ 1918 ، أوضح قاطعاً دون أي التباس: وبديهي أني لم أكن أطلب الإجابة على السؤال المتقدم من أجل المعرفة العلمية فحسب. فالعلم الذي لا يفيد كالجهالة التي لا تضر. وإنما كنت أريد الجواب من أجل اكتشاف الوسيلة الفعّالة لإزالة أسباب هذا الويل…» ويتابع قائلاً على نحوٍ لا يقبل أي تأويل «.. وفي أثناء درسي أخذت أهمية معنى الأمة وتعقّدها في العوامل المتعددة تنمو نموها الطبيعي في ذهني. وفي هذه المسألة ابتدأ انفرادي عن كل الذين اشتغلوا في سياسة بلادي ومشاكلها القومية. هم اشتغلوا للحرية والاستقلال مطلقين فخرج هذا الاشتغال عن العمل القومي بالمعنى الصحيح، أما أنا فأردت «حرية أمتي واستقلال شعبي في بلادي». والفرق بين هذا المعنى التعييني والمعنى السابق المطلق المبهم واضح ـ من رسالة سعاده إلى المحامي حميد فرنجية ـ المحاضرة الثالثة من المحاضرات العشر .

بهذا المعنى، لا يبدو سعاده مهتماً بإظهار نفسه كـ«مفكّر»، بل يبدو مهتماً بإظهار «قضية بلاده» الذي هو مؤسسها وباني عمارتها العقائدية من بابها إلى محرابها، بما يعني أن صفته الرئيسية العامة هنا، كمؤسس، تتجاوز صفته الخاصة كمفكر. هذه الصفة العامة المتعددة الأبعاد والمركّبة تعبّر عنها كلمة «الزعيم» التي اختارها سعاده نفسه، ولم تكن لقباً شائعاً أُطلق عليه بقصد المديح والتعظيم، اختارها لأنها منهجياً تحمل قدرة مركَّبة تنطوي على صفات الرجل الفرد المؤسس والتي منها: الفكر والعقيدة والقيادة. وستبقى هذه الصفة محصورة بـ«المؤسس» بما يمنحها موقعاً خاصاً واستثنائياً في نسيج القضية التي أسسها، ولكن هذا الموقع نفسه جاء مقيّداً وفق النظام المؤسسي الحقوقي الذي وضعه سعاده نفسه.

ورغم استثنائية هذا الموقع وإيحائه «الفرداني»، لم يعمد سعاده كما لا يبدو مهجوساً بتمييز نفسه كـ«فرد»، بل كان منكّباً على إيجاد الخصائص والحقائق التي يمكن الاستناد إليها لتمييز الخط الإبداعي السوري عبر التاريخ، والذي تشكّل النهضة السورية القومية الاجتماعية حلقته الراهنة والحديثة. إن أية إشارة من سعاده إلى سعاده، في مختلف المجالات أتت بكونه مؤسساً للحزب، لا بكونه فرداً عبقرياً متشاوفاً على رفقائه ومريديه وشعبه. لقد جرّد «موقعه» عن «شخصه»، فكان حين يشير إلى سعاده على سبيل التخصيص أو للإشارة إلى اجتهاد أو إبداع أو للإحالة إلى مرجع، يشير بصفة «الغائب» لا بصفة المتكلّم، فيقول: قال سعاده أو قال الزعيم، ولا يقول: قلتُ وأبدعتُ وو….

كان همّه الأول إزالة تلك الطبقات السميكة التي تحجب الشخصية القومية، وتبيان خطها العقلي خلال التاريخ، فسعاده برهان «فرد» على حقيقة تاريخية تخصّ المجتمع السوري والأمة السورية.

إنّ المسؤولية الموكلة لـ«سعاده» باعتباره «الزعيم – المؤسس» منحته الصفة المرجعية التي مكّنته من القول مثلاً إن كتاب نشوء الأمم هو أول عمل في علم الاجتماع منذ ابن خلدون، ومكّنته أيضاً من لفت نظر جورج عطية أن أنطون سعاده هو مَن أدرج عبد الرحمن الكواكبي في سياق الخط النهضويّ السوري الحديث، ومكّنته أيضاً من توجيه نقد شديد لـ«سعيد عقل» الذي تباهى بإبداعه الشعري في «بنت يفتاح»، فيما المطلوب وفق سعاده استلهام التراث السوري لا التراث التوراتي!!

على أن هذه المرجعية ذات وظيفة نقدية واضحة، بحيث يمكن الوقوف على تراث نقدي مرموق عند سعاده خصّ به عمله وعمل حزبه. يعتبر خطاب الأول من آذار 1938 رائداً في حقل «النقد الذاتي» وهو مصطلح سيكلّف خسارة فلسطين 1948 وهزيمة 1967 حتى يرى النور في الأدب السياسي الشعاراتي المدائحي الهجائي..!!

ووضوح الوظيفة النقدية لمرجعية سعاده جعلته وبكل ثقة يصحّح موقع الحدود الشرقية للأمة معدّلاً طبعة المبادئ الأساسية للحزب عام 1946، معيداً هذا التصحيح إلى الاكتشافات البحثية العلمية التي توصل إليها، لا لدوافع رغبوية، وهذا التصرّف «غريب» على عالم الرؤساء والمؤسسين وأصحاب العقائد والقضايا الذين ما أن يتفوهوا بكلمة حتى يتم تطويبها كـ«نص مقدّس» غير قابل للمراجعة ولا تحت ضغط أية اكتشافات أو أبحاث أو رؤى جديدة؟!

إن ثقافة الخصومات العمياء دفعت أحد منظّري الفكر القومي العربي ـ آنذاك ـ ساطع الحصري للنظر إلى تجاوز سعاده لذاته باعتباره عيباً فكرياً، فيما هو في الواقع ميزة استثنائية .

إنَّ الصفة المرجعية لسعاده، لا تعمل وفق آلية تفترض أن حضورها يلغي غيرها، ولا «تجبّ» دونها من الصفات أو المواقع الأخرى، بل هي تندرج في إطار نظام مؤسسي يقيدها بصلاحيات محددة. والأمثلة كثيرة ومتعددة التي تم فيها «امتحان» هذا النظام أثناء حياة سعاده، ولعل أكثر الأمثلة وضوحاً يتمثل في الطريقة التي احترم فيها مؤسسات الحزب، وهو في المغترب بعيد، مع تأكده ويقينه أن القيادة الحزبية آنذاك كانت تحرف الحزب بعيداً عن معناه وعقيدته وغايته.

سعاده، لم يكن كاتباً، ولا مفكّراً، ولا باحثاً، ولا فيلسوفاً.. هذه مزايا فيه كان يفعّلها عندما تحتاج القضية التي كرّس حياته لأجلها.. هذه وغيرها صفات جزئية للصفة المرجعية الأساس: الزعيم.

نشوء الأمم

إن «نشوء الأمم» كتاب اجتماعي علمي بحت تجنّبتُ فيه التأويلات والاستنتاجات النظرية وسائر فروع الفلسفة، ما وجدت إلى ذلك سبيلاً، وقد أسندت حقائقه إلى مصادرها الموثوقة. واجتهدت الاجتهاد الكلي في الوقوف على أحدث الحقائق الفنية التي تغيّر داخلية المظاهر الاجتماعية وتمنع من إجراء الأحكام الاعتباطية عليها ـ أنطون سعاده ـ من مقدمة كتاب نشوء الأمم .

يضع سعاده كتاب «نشوء الأمم» في حقل العلم، ويُبعده عن حقل الفلسفة ما أمكنه ذلك، وهذا يعني دون أدنى ريب أنه يخضع مادته للمنهج العلمي من جهة، ولمرجعية المعلومات الوثائقية والاكتشافات المفتوحة دائماً، أي أن «نشوء الأمم» بما هو نصّ علمي فهذا يعني استطراداً أنه مفتوح على مصاريعه للمعطيات المستجدّة منهجياً ومعلوماتياً. تناول العديد من المفكرين الكتاب على نحوٍ فلسفي مثل عادل ضاهر في كتابه: المجتمع والانسان، كما أن الدكتور أحمد برقاوي رأى فيه فلسفة للتاريخ بموازاة الفلسفة الماركسية للتاريخ .

سعاده نفسه، يقول إنه لم يتمكّن من مراجعة مخطوط الكتاب ويدققه على نحوٍ وافٍ، وقد دفعه للطباعة، دون ذلك، لحاجة الحركة القومية الاجتماعية إلى كتاب من هذا النوع، وفي قول سعاده الواضح هذا يمكن تلمّس «الحذر العلمي» الذي هو من سمات المؤلفين والمفكرين الباحثين في شؤون الإنسان ومصير المجتمعات والأمم.

يعتبر «نشوء الأمم» الكتاب المتكامل الأول الذي وضعه سعاده وفق منهج محكم وواضح. لكن، هل يمكن اعتباره كتاباً عقائدياً؟ أي خاصاً بالعقيدة السورية القومية الاجتماعية؟ وبالتالي، كتاباً ملزماً بمضمونه للقومي الاجتماعي، أو للمقبل على اعتناق العقيدة؟؟

من المؤكد أنَّ السوريّ كي يصبح قومياً اجتماعياً، لا يقع تحت شرط معرفة «نشوء الأمم»، بل يجب عليه أن يؤمن بمبادئ الحزب وغايته ويضع نفسه في إطار مؤسساته الدستورية ونظامها الحقوقي. وهذا يعني استنتاجاً، وكما قال سعاده إن «نشوء الأمم» هو كتاب علمي بحت، غير أن الحركة القومية الاجتماعية تحتاج إليه بوصفها نهضة ذات نواة: عقائدية – علمية في آن. وهذه النواة هي ما تجعل من مجالات النهضة وأفلاكها واسعة مفتوحة تتجاوز في تأثيراتها فلك «الحزبي الملتزم» لتصل إلى فلك الحقل العام وإلى أقصى دائرة اجتماعية مفترَضة. وإذا كان «نشوء الأمم» كتاباً علمياً، وغير مفروض الأخذ به ومعرفته كشرط ملزم وإجباري للمقبل على عقيدة سعاده، فهل يعني ذلك أننا يمكن أن نستبعده من فضاء النهضة وإرثها ومرجعياتها ونظامها الفكري؟!

الجواب: لا قاطعة.

لأن سعاده، لم يأتِ بأفكار متناثرة وعشوائية، دون نسق أو منهج، هو جاء بـ«فكر» ليخدم قضية، ويصح القول أكثر إنه شكّل «نظاماً فكرياً» وعلى ذلك لم يكن يريد أن يقول للمجتمع السوري، على نحو تعسّفي، إنه يشكّل أمة، دون أن يحدد، وفق علم الاجتماع ووفق معطياته الأخيرة، ما هي الأمة؟ وكيف تطوّر المجتمع البشري واكتسب في مراحله المتتابعة الصفات والمزايا التي أوصلته إلى حالة ودرجة الأمة.

تحت ضغط هذه الحاجة العلمية، بدا سعاده على عجلة من أمره لإصدار الكتاب، وعندما أنشأ الندوة الثقافية المركزية وأوكل إدارتها لفخري المعلوف، كان برنامجها الأول هو دراسة كتاب «نشوء الأمم».

لكن، هل يغامر سعاده إذ يضع لعقيدته جذراً علمياً خاضعاً لمبدأ النسبية وللمعطيات القابلة للتجدد الدائم؟!

هل سعاده مغامر حقاً؟!

برأينا، ولهذا السبب بالضبط، فإن سعاده وضع عقيدته في فلك آمن. فهو إذ يغرس هذا الجذر العلمي عميقاً في نواة العقيدة، إنما يضعها في النسق المتحرّك من التاريخ، فلم يكتبها كنص مغلق ويلصقها على مسار الزمن، حيث توهّم بالحركة فيما هي جثة هامدة ينقلها الزمن من قبر إلى قبر آخر؟

إن الأمان، ها هنا، يتأتى في مستواه الأول، من حضور العلم منهجاً ومعطيات، وليس من غيابه قطعاً. واستطراداً يكون النقد أحد لزوميات المنهج العلمي، وأحد أهم الأسلحة التي تمكّن العقيدة من الدخول في عملية تشكيل التاريخ والتفاعل مع أحداثه عبر الزمن والتأثير في حركته، فيما قطار النصوص المغلقة يعبر الزمن على خطٍ موازٍ فلا يرى التاريخ أبداً.

لا يعيب «نشوء الأمم»، ولا بأي معنى، أن منهجيات علم الاجتماع يُصار إلى استحداثها، أو أنَّ معطيات جديدة تفرض نفسها عليه، كما بالطبع لا يعيب «مقدمة ابن خلدون» أن علم اجتماع عملاق تجاوز معطياتها، ذلك لأنه وفي الحالات كلها ثمة مكانة لـ«المقدمة» الخلدونية لا يمكن تجاوزها في سياق التدرج في فهم تاريخ وفصول علم الاجتماع، كما بالتأكيد ثمة مكانة لـ«نشوء الأمم» لا يمكن تجاوزها علمياً، وإن كانت مقموعة لأسباب سياسية ولأحقاد ودوافع «لا فكرية» سوداء.

هل يغيب كتاب «نشوء الأمم» عن مناهج الكليات والمعاهد الجامعية لأسباب علمية؟! بالتأكيد: لا.

إن «نشوء الأمم» كتاب اقتحم الثقافة الديماغوجية بالمنهج العلمي، فهل يخاف النقد؟

قطعاً، لأنه لا يخاف من نفسه.

سعاده: اليهود.. اليهودية!!

هل ثمة تحقيل خاص بـ«اليهود واليهودية» عند سعاده؟ أي، هل تناول سعاده ما سُمّي في الأدب السياسي الأوروبي «المسألة اليهودية» على نحو منهجي مستقل، مناقشاً وباحثاً في فصولها وحيثياتها ومقدماً تصوراً خاصاً أو رؤية محددة لها؟ طبعاً: لا.

وهذه الـ«لا» تؤشر على نحو مؤكد إلى أنَّ لا وجود لـ«المسألة اليهودية» في تاريخنا، خصوصاً الحديث منه، على التوازي مع الحضور البارز لها وعلى نحو إشكالي في التاريخ الأوروبي عموماً بما فيه الروسي، خصوصاً في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، بما يمكننا من تحقيل «المسألة اليهودية»، كما أصبح معروفاً، في الإطار الأوروبي واعتبارها مسألة أوروبية في منشئها، كما في سياق تطورها، كما في مآلها الأخير وشكل وكيفية تصديرها وتوضيعها كـ«مشروع صهيوني» في فلسطين. يُفترض الانتباه هنا، إلى أن «المسألة اليهودية» هي المصطلح الأم، فيما «الصهيونية» هي مصطلح مستولد منها، ولهذا التعاقب الزمني أهمية نابعة من كون «الصهيونية» هي «المشروع» الذي توضّعت وفقه «المسألة اليهودية» وارتسمت «دولة مركزية» في فلسطين، ذات مرجعية متفاوتة الحضور على «الشتات اليهودي» في العالم.

وبالنظر لتمايزها في حقل خاص، بدت «المسألة اليهودية» مألوفة و«تحت يد» العديد من المفكرين الأوروبيين الذين تناولوها بحثاً وأبدوا تصوراتهم حولها دون أية تحفظات يمكن إشهارها في وجههم، كما يحدث الآن، فما كتبه دويستوفسكي الأديب الروسي الأشهر مثلاً في هذه المسألة، لو كتبه الآن لما كنا قرأنا رواياته الخالدة وربما لم يكن ليتسنّى له طباعتها، ولنال مصير روجيه غارودي الذي تطاول في كتابه «الأساطير المؤسسة لدولة إسرائيل» على المسموح به في هذا المجال!! كارل ماركس نفسه كتب بحثاً مستقلاً بعنوان المسألة اليهودية وغيره العديد من المفكرين الأوروبيين.

وإذا كان سعاده قد تناول أحياناً اليهودية كدين في معرض بحثه في المسيحية والمحمدية مقارناً، فإنه لم يأت على بحث «مصير اليهود» في التاريخ ولم يقدّم أية رؤية مستقلة بذلك.

إذن، كيف قارب سعاده وجاء على ذكر «اليهود» ولماذا؟!

القضية المركزية والوحيدة التي شغلت سعاده وكرّس لها كل جهوده هي قضية الشعب السوري ومصيره، وفي إطار بحثه في هذه القضية وما يرتبط بها ويدور في فلكها، تاريخياً والآن، جاء سعاده على ذكر اليهود ولاحظ أن «الاثنية اليهودية» التي تمت المحافظة عليها بفعل التعاليم الدينية ظلت على مسافة من النسيج الاجتماعي السوري الذي تفاعلت مكوّناته وتوحدت في إطاره. المسألة هنا تقع في حقل «علم الاجتماع» وليس في حقل السياسة ومصطلحاتها وقاموسها.

كان سعاده رائداً واستشرافياً في التحذير من خطر المشروع الصهيوني منذ أن كان في مغتربه شاباً إلى جانب أبيه، منذ العام 1925، بل إنه تنبّأ بأن ما تقوم الحركة الصهيونية في فلسطين سيتوقف مصير العالم برمّته عليه، كان ذلك في رسالة مفتوحة وجهها إلى رئيس وزراء بريطانيا لويد جورج في العام 1931.

من المؤكد أن المبادئ التي طرحها سعاده والخاصة بوحدة المجتمع، تقوم أساساً على نفي تحقيل المجتمع باعتباره «جماعات» ترتبط بجسور قابلة للتدمير لأوهى الأسباب، بل يعتبر أن الشعب السوري مجتمع واحد. وفي هذا عدم استثناء أي وجود يعرّف نفسه كجماعة اثنية أو دينية بكونه متعضّياً في نسيج هذا المجتمع.

مبدأ سعاده واضح لا لبس فيه: توحيدي انصهاري.

المشكلة إذن في «الجماعات» التي تواظب على النظر إلى نفسها كوجود خاص مستقل لأسباب إما إثنية أو دينية – مذهبية وتشكّل ثقافة خاصة بها تمنعها من الاقتراب من ذلك المصهر التوحيدي.

إن الخصوصية التي توصف بها «الجماعة اليهودية» في التاريخ ليست من عنديات سعاده، بل إن هذا الوصف والتمييز لها مؤسس في أدبياتها نفسها، كما في مرجعياتها الدينية المقدّسة، كما في الأدبيات التي تعاملت معها مثل الأدبيات الأوروبية التي ناقشتها تحت عنوان: المسألة اليهودية.

إذاً، «الجماعة» هي مَن تصف نفسها بما هي.

و«الأوروبيون» هم مَن بنوا على هذا الوصف ما يؤكده.

وسعاده جاء على ذكر هذا الوصف في إطار بحثه في قضية شعبه، ولم يبحثه على سبيل التخصيص.

هذا هو المفصل المنهجي المميز، الذي يجنّب الباحث أو المفكّر إساءة فهم سعاده، والركون إلى استعراض عبارة «تعبوية» استخدمها ذات مرة، وترك منهجه العام الذي حكم تفكيره ونظامه الفكري، والذي يؤكد دون أدنى ريب ألا وجود للمسألة اليهودية كتحقيل خاص مستقل عنده، وأن القضية هي قضية الصراع مع المشروع الذي أنتجته هذه المسألة وهي الصهيونية ومرتسمها دولة «إسرائيل»، حيث الصراع معها ليس اثنياً ولا دينياً فالمسألة الفلسطينية، كما يؤكد سعاده ليست مسألة إسلام ويهود، بل مسألة قومية من الطراز الأول.

خلاصة: سعاده: داخل / خارج: النقد؟

إنَّ سيرة أنطون سعاده 1904 ـ 1949 مميّزة وخاصة، بما انطوت عليه من فصول متعددة حافلة بإنجازات استثنائية فكرية وعملية، وصولاً لاكتسابها طابعاً ملحميّاً وصل ذروة حضوره في فجر استشهاده يوم الثامن من تموز 1949. وبمقدار ما تحمل هذه الملحمية من خاصية تعبوية وملهمة جعلت من سعاده دائم الحضور في حزبه وعلى علاقة دائمة ومستمرة واستثنائية مع مريديه، فإنها بالمقابل شكّلت وتشكّل «ثقلاً ضاغطاً» يكاد لا يحتمل على العديد ممن يعملون في الحقل العام السياسي منه خصوصاً، فضلاً عن الثقافي والفكري.

وإذا كانت هذه «الملحمية» مسؤولة، على نحوٍ ما، من إبقاء سعاده في خيال مريديه قصياً وبعيداً عن حقل النقد، فإنها في الوقت نفسه، وبسبب من ثقلها الضاغط، شكّلت «عبئاً» رازحاً في خيال نقّاده وخصومه بوجه خاص. لا يُخفى أبداً، أن بعض النقد، بل أغلبه، الذي تمّ توجيهه لسعاده، تأسس على رغبة مسبقة بمحاولة تحطيم «الغلاف الملحمي» الطاغي في شخصيته.

هل يعني ذلك أننا نضع سعاده خارج حقل النقد؟ لا، أبداً. لكننا نحاول التحذير من تلك «الرغبوية» النقدية المسبقة التي تحرّكها دوافع لا تبدو على علاقة بالمسائل المعروضة على مشرحة النقد.

لا يُخفى، أيضاً، ومن جهة أخرى، أن «الملحمية» تنتج صورة «لا اعتيادية» عن الشخصية المعنية على نحوٍ يقرّبها من «المقدّس». وفي هذه الحالة يُفترض بالنقد، كي يتمكّن من أن يكون مقنعاً ومجرداً، أن يحسّن أدواته ومنهجه ويمتشق أفضل أسلحته لا أسوأها ولا أكثرها اعتيادية.

لكن، ما هي وظيفة الناقد بالأصل؟ وما هي غاية النص النقدي؟ وهل الناقد هو الأستاذ المصحّح لـ«نص» قدّمه تلميذ وإن كان بمرتبة مفكّر؟ وهل الناقد استطراداً، هو مَن يمتلك القراءة الأخيرة الصحيحة.. المطلقة؟

تساؤلات مثل هذه، قد تحتاج، إلى أبحاث مطوّلة، لكننا ومن ضمن نطاق البحث الذي نحن فيه، نرى أن الناقد هو قارئ خاص يمتلك أدوات ومنهجاً وقاموساً تختلف عن تلك التي يعتمدها القارئ العام، وعلى ذلك فإن قراءته للنص تأتي في سياق خاص لكن دون وظيفة تصحيحية إلا في الأخطاء المنهجية والمعلومات والتوثيق وشؤون تحرير النصوص. بهذا المعنى، تشكل القراءة النقدية نصاً موازياً ومتمّماً أحياناً للنص المقروء محل النقد، بل نصاً ضرورياً له كي يتموضع على نحوٍ أكثر رسوخاً في مخيلة أو عقل القارئ العام. وعلى ذلك لا يجب أن يكون الشغل الشاغل للناقد التنقيب عن خطأ ما وقع فيه المفكّر أو الكاتب أو الفيلسوف، في أحد نصوصه وفي مناسبة ما، لا قيمة فعلية له في السياق العام لفكر هذا المفكر وعقيدته ومنهجه. لو اقتطعنا من كتاب المسألة اليهودية الذي وضعه كارل ماركس عبارة: المال إله اليهود، ماذا كنا سنقول عن ماركس: لاسامي، عنصري؟!!

وفق هذه المنهجية، يفترض بقارئ سعاده سواء أكان ناقداً أو باحثاً أو تلميذاً «سعادياً»، ألا يؤسس قراءته لنصوصه باعتباره «مطلقاً»، بل بكونه رجلاً ومفكراً «نسبياً»، وتميّزه واستثنائيته إنما مستمدة من هذه النسبية نفسها، وهو الذي أكد بوضوح أن «كل مطلق هو نسبي مهما قيل عنه أنه مطلق..»، وبذلك نعيد التأكيد أن النسبية هي التي توفر عوامل الأمان الضامنة لقدرة عقيدة سعاده على الاستمرار والارتقاء وتأكيد أطروحتها في الواقع.

إن تأسيس قراءة سعاده، أية قراءة وبأي مستوى نقدي، إلى كونه «مطلقاً»، سيؤدي حتماً إلى توسّل الوقوف على خطأ ما.. أي خطأ، ربما وقع فيه، حتى ولو كان إملائياً أو نحوياً، وسيصار إلى انتشال هذا الخطأ المفترض من مكانه، وعزله وإعادة بسطه وحيداً وعرضه على منصّة مرتفعة وتكبيره وتضخيمه ليملأ المنصة ويفيض عنها فلا يُرى شيء غيره!

فيما القراءة المؤسسة على «النسبية» تتجه نحو مضمون عقيدة سعاده وفلسفته ومنهجيته لتكشف جوانب فيها غير معروفة أو غامضة، وتراجعها وتقدم رؤية خاصة بها وتقرأها في ضوء مستجدات الواقع وعلاماته وظواهره.

لم يكن سعاده من أصحاب «الترصيع اللغوي»، ولم يكن مهووساً بصياغة فقرة أو نص «إعجازي»، ولم يكن لديه الوقت الكافي الذي امتلكه مثلاً الأديب الفرنسي غوستاف فلوبير كي يقضي ليلة بطولها لصياغة جملة واحدة من روايته «مدام بوفاري»!

كان سعاده في لجّة حركة الواقع وأحداثه، وكتاباته وأطروحاته جاءت في هذا الحقل تماماً، ولم تخرج من مكان معزول عن الحركة وبعيدة عن إيقاع التاريخ، لأنها لو كانت كذلك وإن جاءت متخمة بالإعجاز الأسلوبي والفيض المعلوماتي، فإنها لن تكون إلا «كالجهالة التي لا تضرّ»!! كما قال سعاده.

الحقل الثاني

النهضة والحزب وأزمته

هل الحزب في أزمة؟ ومنذ متى؟ ولماذا؟ وما هي طبيعة هذه الأزمة؟

نعم، الحزب السوري القومي الاجتماعي في أزمة. والسبب: لأنه لم ينتصر بدعوته، وبالتالي بمجتمعه، على نحوٍ نهائي حاسم. وبسبب من طبيعته الخاصة، لازمته الأزمة منذ تأسيسه، ما دفع سعاده إلى حلّه وإعادة تأسيسه لأن واحداً من الخمسة الأوائل لم يتمكن من فهم فحوى الحزب تماماً، وسيظل هذا «القصور في الفهم» ملازماً لمسيرته جنباً إلى جنب مع محاولات متعدّدة لإبعاده عن «حالته النهضوية» وأخلاقها وقيمها ومثلها وغايتها النهائية العظمى.

بنيوياً، ثمّة أزمة تتمثل في العلاقة بين الحزب والنهضة، ما يؤدي للتساؤل الإشكالي التالي:

هل الحزب هو النهضة؟ أو لا يعدو كونه «أداة» لتحقيقها وإنجازها؟ وما هي وجهة الاختلاف بينهما؟

في إرث سعاده ثمّة مصطلحات ثلاثة، كان يستخدمها في الاتجاه نفسه: النهضة، الحزب، الحركة. وإن كان استخدامه للحزب سائداً أكثر من استخدامه للحركة أو للنهضة التي أكثر من استخدامها بُعيد عودته من مغتربه القسري في 2 آذار 1947.

كانت محاضرات الندوة الثقافية في النصف الأول من العام 1948، والتي جمعت لاحقاً وصدرت بكتاب يحمل عنوان «المحاضرات العشر». هي النصوص التي أسهب سعاده من خلالها شارحاً معنى النهضة ومآلها والحزب وخصوصيته. من المؤكد أن مغترب سعاده القسري والطويل 1938 ـ 1947 وابتعاده عن القيادة المباشرة للحزب في الوطن في تلك الحقبة الهامة، كان السبب الرئيس الذي سمح وسهّل لقيادة الحزب، آنذاك، العمل على تطبيع الحزب سياسياً وثقافياً مع ما يتفق مع «الواقع اللبناني». وفي هذه المحاولة بدت أزمة الحزب في إحدى أشدّ لحظاتها احتداماً. حينها، بدا الحزب غير ذاته، كما بدا بعيداً عن النهضة التي أرادها سعاده لشعبه.

في شروحه العقائدية، صاغ سعاده سردية متكاملة للتدليل على أن الحزب «غير اعتيادي» وفق مصطلحه هو. أي لا يشمله تعريف الأحزاب السياسية الموجودة في الواقع. فالحزب بحسب سعاده «فكرة وحركة تتناولان حياة أمة بأسرها»، فيما النهضة هي «خروجنا من التخبّط والبلبلة والتفسّخ الروحي بين مختلف العقائد إلى عقيدة جلية صحيحة واضحة نشعر أنها تعبّر عن جوهر نفسيتنا وشخصيتنا القومية الاجتماعية. إلى نظرة جلية، قوية، إلى الحياة والعالم. المحاضرة الأولى». ثم يعود سعاده ليؤكد أن الحزب هو الوسيلة التي «تؤمّن حماية النهضة القومية الاجتماعية الجديدة في سيرها» ويتابع قائلاً «فأسست الحزب السوري القومي الاجتماعي ووحّدت فيه العقائد القومية في عقيدة واحدة.. من رسالته إلى المحامي حميد فرنجية ـ المحاضرة الثالثة».

من الصعوبة إيجاد مسافة ما بين «الحزب» و«النهضة»، ومن الصعوبة التفريق بينهما، فطالما أن جواب السؤال التالي: هل توجد نهضة وتستمرّ وتنتصر دون الحزب؟ وهل يكون الحزب السوري القومي الاجتماعي نفسه دون النهضة؟ فطالما أن جواب هذا السؤال سيظلّ: لا. لا. لا. فهذا يعني أن الحزب هو «مرتسم» النهضة وهو «كينونتها» وهو «حركتها»، وبالمقابل هي روحه وفلسفته ومضمونه، ولذلك يكون الحزب هو «الأمة السورية مصغّرة» وفق الحقيقة الحرفية المجردة، كما أكّد سعاده.

إن نفي صفة الاعتيادية عن الحزب واعتباره «لا اعتيادياً» لا يعرّفه بمضمونه وجوهره ومآله. غير أن هذا النفي يؤكد أن الحزب يقع خارج حقل الأحزاب السياسية الاعتيادية الموجودة، وهذا يعني أنه خارج هذا الحقل بالتعريف، فما هو، إذن، هذا الحزب غير الاعتيادي؟

بكل تأكيد هو حزب النهضة، التي لا يمكن أن تتجسّد واقعاً دونه، والذي يفقد «لا اعتياديته» إذا غادرها.

تأسيساً على هذا التوصيف، يمكن التساؤل:

ما الذي جرى، ويجري، في تاريخ الحزب ومسيرته، وأنتج مثل هذه الأزمة التي يتمّ التعبير عنها دائماً بأن الحزب بعيد عن النهضة؟

منذ الاستقلالات الكيانية في أربعينيات القرن العشرين «الشام ـ لبنان»، واجه الحزب معضلة تطبيعه مع الواقع السياسي الناشئ والقائم. وهذه المعضلة ناتجة بالأصل من كونه حزباً «غير اعتيادي» ويفترض في الوقت نفسه، خضوعه للشروط التي تخضع لها «الأحزاب الاعتيادية» حتى يكون مقبولاً ومكوناً من مكوّنات هذا الواقع.

لا شكّ في أن سعاده، بُعيد عودته في العام 1947، أسقط محاولة تطبيع الحزب على مقاس الواقع اللبناني، وأعاده «غير اعتيادي» ليكون حزب النهضة، ثم حاول سعاده التعاطي مع الواقع السياسي اللبناني والشامي وفق ما يسمّيه هو منهج «المدرسة السياسية الدقيقة الفكر» التي تتميّز بالمرونة على حد قوله، محاولاً الانخراط في أحداث الواقع القائم الذي ترسم سياسته الأنظمة القائمة، غير أن ذلك الواقع برمته كان متعضياً في بنية نظام إقليمي – دولي لا يملك من السعة ما يمكنه من قبول منهجية سعاده «غير المألوفة»، ما أدى إلى تلك المواجهة التي دفعت سعاده لتقديم نفسه صبيحة الثامن من تموز فداء لنهضوية الحزب.

في تلك الموقعة التراجيدية، انتصر الحزب ضد محاولات تطويعه وتطبيعه وربح نهضويته وأكّدها ورسّخها، ولكنه بالمقابل خسر معركته ضد الواقع القائم الذي بدا شديد التعقيد.

ومنذ ذلك التاريخ، بدت هذه المعضلة جاثمة أمام الحزب، مستمرة ودائمة. فكان على قياداته المتعاقبة أن تعمل على حفظ نهضوية الحزب من جهة، وعلى تأمين انخراطه في الواقع القائم مرة جديدة، من جهة مقابلة.

بعد ضرب الحزب وقواعده وبيئته في العام 1955 في الشام، إثر اغتيال العقيد عدنان المالكي، وبعد ضربه على التوازي في لبنان إثر فشل محاولته الانقلابية على النظام اللبناني في العام 1961، بدا وكأن الحزب قد لحقت به خسارة استراتيجية لا يمكن تعويضها بسهولة، في إطار معركته لتغيير الواقع السياسي في أي من كيانات الأمة، وتأسيس واقع بديل نهضوي. بالمعنى العملي، بدأ الحزب يتخذ وضعية دفاعية في محاولة منه لإيجاد فسحة له في هذا الواقع الذي أراد أن يغيّره؟

هنا، تماماً، بدت إشكالية افتراق الحزب واتخاذه مسافة افتراضية عن معنى النهضة، تتضح على نحوٍ جلي. فكيف لحزب يعرّف نفسه:

بالنفي: بأنه ليس حزباً اعتيادياً مثل بقية الأحزاب.

بالإيجاب: بأنه نهضة شاملة تنهي الفوضى والبلبلة والغموض وتنتج الوضوح واليقين بعقيدة واحدة موحّدة جامعة وشخصية قومية واحدة للأمة.

كيف لهذا الحزب أن يجد لنفسه فسحة/ مكاناً في الواقع؟

أي، كيف لحزب أن يكون جزءاً من واقع سياسي، هو نفسه غير راضٍ عنه ومنقلب عليه ويعتبره نقيضاً له ولنهضته؟ فما هو «غير اعتيادي» يجب أن يكون «اعتيادياً» إذا أراد أن يكون مقبولاً في «الواقع القائم» ومكوّناً من مكوناته.

ثمة أحداث كبرى وقعت، ابتداءً، من منتصف ستينيات القرن العشرين، لعبت دوراً ملحوظاً في الكيفية التي أعاد فيها الحزب إنتاج ذاته وتقديمها، إثر خسارته الكبرى في لبنان، كما في الشام:

1 ـ تأسيس المقاومة الفلسطينية وانطلاق شرارتها الأولى في العام 1965، وحضور هذه المقاومة المتزايد في الواقع السياسي للكيانات والأنظمة السياسية خصوصاً في لبنان والشام والأردن والعراق.

2 ـ هزيمة 1967، وخروج «إسرائيل» من خريطة 1948 وتقدمها على جسد الكيانات المجاورة، وصولاً إلى اجتياحها لبنان في عامي 1978، 1982، ونشوء المقاومة الوطنية اللبنانية، ومن ثم تطوّر الصراع معها ووصوله إلى ما هو عليه راهناً.

3 ـ اتخاذ دمشق مكانة مركزية إقليمياً، مع وصول الرئيس حافظ الأسد إلى السلطة، وإنجاز حرب تشرين 1973، ومن ثم التدخل في لبنان 1976، بعيد بداية الحرب الأهلية ذات الامتدادات الإقليمية – الدولية، ومن ثم رسوخ دمشق كمركز لإدارة الصراع مع إسرائيل من خلال اعتماد استراتيجية مركبة سياسية ومقاومة في آن.

ستوفر هذه الأحداث العوامل التي ستمكّن الحزب من إعادة ترسيم نفسه في الواقع القائم.

ولكن أي واقع هذا، هل هو نفسه الذي كان سائداً قبلها؟

من المؤكد أن إعادة تموضع للقوى السياسية حدثت بعد هذه المتغيرات، كما أن قوى جديدة برزت وأخذت مكاناً لها فيه.

غير أن هذه الأحداث جعلت من حضور «العامل الإسرائيلي» في هذا الواقع، متقدماً على نحوٍ غير مسبوق، ما مكّن الحزب من تأكيد أطروحته بصدد الصراع مع «المشروع الإسرائيلي»، واعتماده قاعدة أساسية في إطار تموضعه في شبكة الواقع، ما جعل الموقف من هذا الصراع هو المقياس الأول الذي يبني فيه الحزب عمارته وعلاقاته مع قوى هذا الواقع.

وإزاء صراع وجودي من هذا الطراز، واعتباره أولية للحزب، بدت العناوين الاجتماعية والاقتصادية وحتى الثقافية متراجعة في برامج الحزب. ويمكن القول إن حقبة تعايش مع «الواقع القائم» بدأت على نحوٍ رسمي في لبنان مع تنفيذ اتفاق الطائف ابتداءً من العام 1990، وفي الشام مع دخول الحزب في إطار «الجبهة التقدمية الوطنية» ابتداءً من العام 2005، وبالتالي بدا الحزب «اعتيادياً» مثل غيره، بالمعنى السياسي.

تتمثل الإشكالية هنا في كون الأولوية التي هي من مرتبة وجودية وتطاول مصير المجتمع والأمة هي ما تحكم خيار الحزب واتجاهه وتموضعه، وبالتالي إن الأثمان المدفوعة في سبيل تكريس هذه الأولية ستكون هي عنوان الأزمة التي ليست سوى رؤية مسافة أو فراغ ما بين الحزب والنهضة؟!

إزاء المتغيّرات التي أعادت ترتيب القوى والأحزاب السياسية، تأسيساً إلى رؤيتها للصراع مع «المشروع الإسرائيلي»، أعاد الحزب تموضعه، وسط شبكة تحالفات لا تُعجِب أسعد أبو خليل، كما لا تُعجِب العديد من المفكرين، بل وأيضاً العديد من القوميين الاجتماعيين ، كما وسط نسق خصومات مع أطراف وأحزاب، منها ما هو قديم، ومنها ما هو مستحدث وأحد إفرازات الهزيمة أمام «إسرائيل»، والحقبة النفطية الخليجية، فضلاً عن الليبرالية الرأسمالية المتجددة طبعاً يعيب أسعد أبو خليل على الحزب طريقة تعاطيه مع أخصامه بتخلّيه عن سياسة ردع الخصوم وعدم أخذه بالثأر لمجزرة حلبا، في الوقت الذي كان قد استلفت انتباهه كيف أن سعاده في نشوء الأمم اعتبر أن عادة الثأر عند العرب ناتجة من كون التشكيل القبلي لا يقيم وزناً للفرد إلا بكونه قيمة عددية تراكمية، فيما أسعد أبو خليل يقول بأنه نوع من الشرطة الذاتية بغياب الدولة! فكيف يستقيم أن يعمل الحزب بمنطق الثأر الذي «يحقّره» سعاده من جهة، والذي يعتبره أبو خليل ضرورياً لغياب الدولة، في وقت يفترض الحزب فيه أن الدولة قائمة وهو شريك فيها؟

الحزب، أي حزب، وبمعنى ما، هو «كائن: سياسي – اجتماعي»، وهو افتراضاً يتوضّع إلى جانب «كائنات» من جنسه. أي أنه محاط بقوى يقترب من بعضها ليصل إلى مرحلة التحالف ويبتعد عن بعضها الآخر ليصل إلى مرحلة الخصومة. فالتقارب والتباعد والتحالف والتخاصم هي حالات تحكم وجود «الكائن» الحي الفاعل والمؤثر عبر حركته في خريطة الواقع القائم.

لا التحالف السياسي يفترض تطابقاً عقائدياً أو فلسفياً ولا حتى أخلاقياً، حتى يستهجن أسعد أبو خليل تحالف الحزب مع «النظام السوري» ذي النزعة القطرية وصاحب القومية العربية، وحتى يشترك في الحكومة اللبنانية ما يعني قبوله باتفاق الطائف ونهائية الكيان اللبناني؟!

كما أن الخصومة السياسية من جهة مقابلة لا تفترض نفياً شاملاً وعداوة وجودية.

ثمة أسباب تفرض التحالفات،

كما ثمة أسباب تؤدي إلى الخصومات.

من المؤكد أن التحقيل الكلاسيكي الأوروبي للأحزاب بتصنيفها يميناً ويساراً وإقحام بعضها في الوسط، ومن ثم يمين ويسار الوسط ويمين اليمين.. إنّ هذا التحقيل لا يمكن اعتماده، ولا بأي أسلوب في مقاربة توضّع الحزب السوري القومي الاجتماعي، ولا حتى الأحزاب الأخرى إلى جانبه أو على خصومة معه. وإن البحث عن تجانس عقائدي كامل يبرر التحالف، كما البحث عن تناقضات عقائدية تفسّر الخصومة، لا يستقيم هنا تماماً، فطالما أن الأولية الحاكمة لمنهج الحزب تتمثل بالصراع الوجودي المصيري مع «المشروع الإسرائيلي» ومع مشاريع مستحدثة ومساندة له وتتمثل راهناً بـ«التنظيمات التكفيرية» وما يدور في فلكها، فإنه من الطبيعي أن يتموضع الحزب إلى جانب القوى والكيانات التي تعتمد الأولية نفسها.

لذلك الحزب إلى جانب دمشق،

وإلى جانب بغداد،

وإلى جانب القوى الفلسطينية التي تواصل مواجهة «إسرائيل».

وإلى جانب لبنان في جناحه المقاوم.

وعلى خصومة مع لبنان في جناحه المتواطئ.

هل من تجانس عقائدي بين الحزب وحزب الله، وهما يتوضعان راهناً جنباً إلى جنب؟ هل يتجانسان في معنى الهوية؟ أو في مضمون الخطاب الاجتماعي؟

ماذا نفعل بـ«العلمانية»؟

وهل الحزب مع القومية العربية البعثية أو الناصرية؟

لكن، هل الشام مع القومية السورية؟

هل الحزب مع ولاية الفقيه؟

لكن، هل حزب الله مع مبادئ سعاده الإصلاحية؟

أو حتى مع النسخة التخفيفية للعلمانية في دمشق؟

أسئلة وتساؤلات كبرى، مهمّة، وضرورية. لكن في لحظات الخطر الوجودي المصيري، وللحفاظ على هذه الأسئلة ذاتها، يقوم ذلك «التحالف المقاوم» الذي يضمن استمرارها حيّة للمستقبل، ذلك لأن الأسئلة الكبرى لا تموت مع المقاومة التي تحرسها وتصونها، فيما يتمّ سحلها بالهزيمة والاستسلام.

وفي ذلك كله وغيره، نتساءل:

هل تخلّى الحزب عن عقيدته أو حرّف فيها أو غيّرها؟

هل تخلّى الحزب عن مبادئه؟ ورضخ لمبادئ الواقع الذي يشارك فيه؟

هل تخلّى الحزب عن غايته؟

هل تخلّى الحزب عن مشروعه التغييري الكبير؟

رغم الأعباء الكبرى التي تقع على كاهله، ورغم التمزقات التنظيمية التي طاولته ولازالت، ومحاولات تطويعه وتطبيعه كحزب اعتيادي، إلا أن الحزب ظلَّ محافظاً على نفسه وظلّ يقدم عقيدته النهضوية ودعوته لشعبه أن يأخذ بها، ولكنه لم يتمكن من إيجاد المرتسم «السياسي» لهذه العقيدة التي لا تحتمل التطبع مع الواقع القائم بأي شكل من الأشكال.

هنا، والآن، تكمن أزمة الحزب بنيوياً، وفي هذا المجال يفترض بمفكريه ومرجعياته أن تعمل جاهدة وتستنبط الحلول التي تزيل ذلك الفراغ المحسوس بين الحزب والنهضة.

هل يكمن مفتاح الوصول إلى هذه الحلول في ذلك الباب الذي أسماه سعاده: مدرسة الحزب الدبلماسية الدقيقة الفكر، والمرنة؟!

ما هي هذه المدرسة؟

ذلكم تساؤل نضعه أمام العقل القومي الاجتماعي.

خلاصة أخيرة: اقتراح منهجي ودعوة

تعرّض سعاده والحزب معه لقراءات متعددة متغايرة وذات مناهج مختلفة، وبسبب من الثقافة السياسية المبتذلة اللغة والقاموس والغاية، التي أشهرت في وجه الحزب وسعاده لأسباب سياسية محضة، بما جعل الدراسات والأبحاث الجدية والمرموقة لا تظهر إلا ابتداءً من سبعينيات القرن الماضي. بسبب من ذلك، ظلّت الكتابات عن سعاده والحزب، تلك التي يمكن أن تشكل نصوصاً نقدية موازية للنص المرجعي في قيمتها، محدودة جداً ونادرة.

ومن المؤكد أن التحرّر والانعتاق من الأفكار المسبقة هو الحالة الضرورية التي تمكّن الباحث من إنتاج نص نقدي مجرد.

برأينا الشخصي، نرى ضرورة ملحّة في قراءة سعاده من قبل تلامذته، أو من قبل المفكرين المستقلين مهما كانت مواقعهم، كما في قراءة واقع الحزب وآفاقه، وفي هذا الوقت بالذات، انطلاقاً من الجملة التساؤلية التالية:

في ضوء الحالة التي وصل إليها مجتمعنا، ووصلت إليها أمتنا، وفي ضوء الأحداث الكبرى التي تعصف بمصيرنا ووجودنا، وفي ضوء المتغيرات العالمية المتسارعة:

هل ثمة حاجة لأنطون سعاده، وفلسفته وعقيدته؟

هل يشكّل الحزب السوري القومي الاجتماعي حاجة مصيرية لهذا المجتمع ولهذه الأمة؟

كيف؟ ولماذا؟ وبأي معنى؟

هذه دعوتنا.

 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024