يفتحُ الاشتباك الكندي – السعودي حول انتهاك حقوق الإنسان في السعودية ملف العلاقات التاريخية بين الغرب الصناعي و«عرب الخليج» «الريعيين النفطيين» الذي اتكأ منذ العام 1945 على أولوية المصالح الاقتصادية على ما عداه من مساواة اجتماعية واقتصادية وسياسية وثقافية.
خلال هذه المدة الطويلة، بدا وكأن الغرب غربان «اثنان»، نموذج أول كثير الديمقراطية لا يُطَبقُ الا في داخل حدود بلدانها عدالات سياسية واقتصادية واجتماعية أدّت مع الزمن الى اندماج مجموعاته الداخلية بشكل كامل، وحققت تقدماً اقتصادياً هائلاً واستقراراً سياسياً دائماً قام على أساس سماح الطبقات العليا بتوفير ظروف اقتصادية لتطوير أحجام طبقات وسطى عريضة لاتزال تشكل حالياً ألغاز الازدهار السياسي والاقتصادي في العالم الغربي.
النموذج الغربي الثاني والآخر هو الذي ذلك الوحش التاريخي الذي أباد من أجل هيمنته الاقتصادية نصف سكان الأرض في أفريقيا وآسيا وأميركا الشمالية والجنوبية.. والدليل واضح كم بقي من 27 مليون هندي أحمر هم سكان أميركا الأصليين: الجواب محزن لأنه يشير الى نجاة بضعة آلاف فقط، كذلك مئات آلاف اليابانيين الذين قضوا بقنابل أميركا النووية وملايين الصينيين والعرب الأفغان والأفارقة… لم تنجُ منطقة واحدة من النموذج الثاني الغربي الذي أعاد تركيب العالم منذ مطلع القرن الماضي على وقع مصالحه الاقتصادية فقط ضارباً تاريخ الشعوب بعرض الحائط ومفبركاً دولاً جديدة بوظائف نفطية واستراتيجية الخليج والأردن ، حصرية.
في المقابل منع هذا الغرب بشكل قاطع أي تعرّض سياسي لهذه النماذج السياسية القرون – أوسطية، ولم يسمح لمؤسساته السياسية بالتعرّض لها لجهة نأيها عن الحداثة المعاصرة، فرقصات السيف والعرضة والهُجُن ِ كانت تتلقفها وسائل الإعلام الغربية وتعرّضها كمواضيع نادرة تعكس الأصالة في جزيرة العرب.. ونسي هذا الإعلام أن يسأل الخليجيين: ماذا لديكم غير هذا الموروث الذي لا علاقة لكم به؟
يتبين من خلال هذه العلاقة أن الغرب الأميركي وعلى هديه الأوروبي نظموا علاقة مع قبائل عربية حاكمة على أساس النفط مقابل الحماية…
وهي حماية تشمل الدفاع ضد الهجمات الخارجية وإحباط أي انتفاضات داخلية ومنع أي نقد أو تجريح أو إساءات لأنماط الدول الخليجية الموجودة وحكامها وعائلاتهم.
لقد أصبحت هذه الدول محمية من أجهزتها الأمنية وفوائضها المالية الناتجة عن تراكم بيع النفط، والدين المتمثل بالحرمين الشريفين ونشر المذهب الوهابي والحمايات الأميركية الكاملة عسكرياً وسياسياً وإعلامياً وثقافياً… لذلك كان مثيراً للاستغراب أن تتمكّن صحف ومجلات فرنسية ودنماركية في أوقات سابقة من نشر مواد تسيء إلى الإسلام بصورته السعودية النمطية، وهنا يكمن الاستثناء الغربي… فهناك إعلام معارض لديه هامش في النشر لا يُثير غضب المؤسسات الغربية الحاكمة كثيراً بل ربما رأى فيها أحياناً رسائل خفية للمزيد من سجن حكام الخليج في نظام الحماية الأميركي الخاص بهم، فما الذي يجري اليوم حتى تنتقد المؤسسات السياسية الرسمية في كندا انتهاك آل سعود لحقوق الإنسان في بلادهم واعتقال ناشطين غردوا على التويتر منتقدين خطة محمد بن سلمان..
يجب وضع اندلاع الهجمات على النظام السعودي مع بدء الاجتياح الإرهابي الكبير للبلدان العربية في الجزائر وتونس ومصر والعراق وسورية وأفغانستان وبلدان كثيرة، وكان الرئيس الأميركي السابق أوباما أول من كشف عن الدور السعودي في نشر الفكر الإرهابي وتمويل اجتياحاته الأخيرة وتلته المستشارة الألمانية ميركل التي كشفت عن 120 مليار دولار جرى إنفاقها على بناء معاهد للفكر الإرهابي الوهابي في أوروبا.
واشارت الى مشاركة قطر وتركيا وبلدان أخرى في هذا التحشيد الإرهابي غير المسبوق.
من جهته أدى اندلاع الخلاف بين السعودية وقطر الى اعتراف رئيس وزراء قطر السابق حمد بن جاسم بأن قطر والسعودية وبلداناً أخرى تلقت إشارة أميركية بضرورة دعم منظمات المعارضة في سورية والعراق، مُقِراً بأنهم اكتشفوا فيما بعد أنها منظمات إرهابية مواصلين دعمها بإيحاءات أميركية ايضاً.
إن هزيمة هذا الإرهاب ضعضع المكانات الهامة لداعميه ومشغليه وجرى تحميلهم مسؤوليات حشده وإرساله الى الميادين السورية والعراقية. كما جرى فوراً الربط بين العقائد الدينية والسياسية لبلدان الخليج ومشاريع الإرهاب المتشابهة ما أثار ذعراً كبيراً في أوروبا والأميركيتين وآسيا من عودة هذا الإرهاب العالمي الى بلدان انطلاقه.
فاستفادت التيارات الحرة من هذه الاتهامات لتتولى تسديد اتهامات إلى التورط الخليجي التركي مع ربطه بالدين الإسلامي وتوجيه إساءات إليه على مستوى التاريخ والعقيدة.
هناك لغز آخر أثار حفيظة بلدان الخليج..
لقد كانت هذه الدول تعتقد ان دعمها للإرهاب هو الخطوة الأولى في هجوم غربي عام تقوده واشنطن لضرب إيران وسورية والعراق وإعادة تجديد مكانات دول الخليج، وفوجئت بأن إرهابها اندحر في ميادين سورية والعراق ولم يفعل الغرب شيئاً، حاولت التفاوض معه، لكنها اكتشفت ان هذا الغرب يخوض حروبه الخاصة غير مكترث بمشاريع الخليج الصغيرة.
فحاولت إثارته لإعادة جذبه… بانفتاحها على روسيا والصين و«إسرائيل»… فجاءها ترامب بعصاه قائلاً لها بصوت مزعزع: أنتم لا تستطيعون الاستمرار من دون حمايتنا لأسبوع واحد فقط. فدفعت له السعودية 500 مليار دولار لشراء صمته وضرب إيران…
هذه هي الظروف المستجدة التي أدت الى ازدياد الانتقادات المتوالية التي تصيب نظام آل سعود وحلفائهم في الخليج… ألم تسحب باكستان قواتها من الحدود السعودية اليمنية لأنها لم ترغب بتقاسم الهزيمة مع الرياض؟ ألم تُقَّنّن مصر من حجم تورّطها في البحر الأحمر وحدود اليمن للأسباب نفسها؟… وماذا نفعها التأييد الإسرائيلي لنزاعها مع إيران وخسارتها في سورية؟… فقد وجدت «إسرائيل» نفسها مرغمة على الانسحاب الى خط وقف إطلاق النار في العام 1974، وها هي إثيوبيا تلقن دولة الإمارات دروساً في قيم الإسلام وتقول للخليج إنه بعيد عن الاسلام دين الرحمة «وليس ديناً» للإرهاب كما حوّلتموه.
أما ماليزيا فسحبت في البداية كتائبها من اليمن وسرعان ما سحبت كامل قواتها من السعودية. وانتقدت تلك الحرب الهمجية التي لا تقتل الا المدنيين في اليمن.
لجهة الانتقاد الرسمي الكندي، فلا شك في أن له خلفياته، لأن هذا البلد معروف بانسجامه الكامل مع السياسة الأميركية، فقد يتعارض معها حيناً من دون أن يصل حدود التناقض، لذلك فهناك اعتقاد أن الهجوم الكندي على السعودية بذريعة عدم احترامها لحقوق الإنسان مثير للاستهجان، لأن النظام السعودي السياسي يتّجه من سيئ إلى أسوأ منذ 73 سنة على الأقل، فما الذي استجدّ حتى اكتشفته كندا الآن؟ فهناك شعب بكامله مجرد من حقوق الإنسان الطبيعية وما الحادثة الأخيرة باعتقال ناشطين حقوقيين إلا عينة بسيطة.
أما إذا كان الكنديون ينفّذون تعليمات أميركية لإثارة قلق آل سعود، وذلك بسبب انفتاحهم على روسيا والصين… فهذا أمر يشير الى تدني المستوى السياسي الكندي. ويبدو أن هذا ما فهمه آل سعود الذين استصدروا عقوبات شديدة على كندا أعلى من حجم انتقاداتها حول غياب حقوق الإنسان.
الخليج الى أين؟ وهل بدأ انفراط عقد الحماية مقابل النفط؟ لن تتدهور الأمور بسرعة، لأن الحاجة الغربية الى الخليج لا تزال موجودة، وقد تزداد بمقدار سرعة العصر في ولوج عصر الغاز، لكن استهداف الأنظمة القرون أوسطية في الخليج لن يتوقف. وقد تكون واشنطن بصدد إنتاج أنظمة خليجية أكثر تطوراً للزوم الاستيلاء على الغاز في العصور المقبلة بوسائل تُقدِّمُها على أنها ديمقراطية.
|