إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

الانشقاق الأرثوذكسي: سلاح واشنطن لمحاصرة موسكو

ليا القزي - الاخبار

نسخة للطباعة 2018-10-19

إقرأ ايضاً


بعد المواجهات العسكرية والاستخبارية والسياسية والاقتصادية، انتقلت الولايات المتحدة الأميركية إلى استخدام الكنيسة، لمحاصرة روسيا. ملف انفصال الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية عن بطريركية موسكو، أرادته واشنطن سلاحاً لضرب الأمن القومي الروسي. استعانت بالبطريركية القسطنطينية، صاحبة «الثأر» القديم مع شقيقتها الروسية، فكان الاعتراف بكنيسة أوكرانيّة مستقلة (يوم 11 تشرين الأول الجاري)، مكمّلاً للانقلاب (2014) الذي أطاح رئيساً أوكرانياً منتخَباً، حليفاً لموسكو. اعتراف سينقل الخلاف بين روسيا وأوكرانيا إلى مستوى أكثر خطورة من المواجهة. المؤثرون في «القسطنطينية» يكرّرون الخطاب السياسي الأميركي في مواجهة موسكو وحلفائها، وتلقى خطواتهم الدعم من ساسة في واشنطن، لكنهم، بطبيعة الحال، ينفون أن تكون خطوتهم الرامية إلى إضعاف الكنيسة الروسية ذات طابع سياسي. الأمر، في نظر موسكو، شديد الخطورة إلى حد ترؤس فلاديمير بوتين اجتماعاً لمجلس الأمن القومي لبحث الشأن الكنسي، بعد يوم واحد من إعلان الانفصال.

اعتراف بطريركية القسطنطينية بكنيسة أرثوذكسية مستقلة في أوكرانيا، ليس أقلّ من ضربة أميركية ضدّ روسيا، وتأتي في إطار سعي واشنطن الحثيث لفرض حصار على موسكو، في المجالات كافة. فروسيا هي الـ«فزاعة»، كما يُقدّمها الإعلام الأميركي السائد، وهي الدولة التي أعادت الولايات المتحدة الأميركية التعامل معها بوصفها عامل قلقٍ، ورفعتها مجدداً إلى مصاف التهديد العسكري. ببساطة، لا تريد واشنطن لموسكو أن تستعيد عافيتها، ولا أن تجد لنفسها موقعاً في «عالم الكبار». سُبل المواجهة مُتعدّدة، إن كان من خلال توسيع حلف شمال الأطلسي، إلغاء المنطقة العازلة بين روسيا والاتحاد الأوروبي عبر إدخال أوكرانيا إليه، تشكيل تحالفات تضمّ معظم دول الاتحاد السوفياتي سابقاً وتسليحها، الاستمرار في فرض العقوبات الاقتصادية على موسكو، وصولاً إلى «إسقاط اللعنة» على الكنيسة الأرثوذكسية بعد أن «اكتشفت» الولايات المتحدة مدى تأثيرها السياسي والنفوذ الروسي فيها. فإدارة واشنطن تُريد أن تبسط سيطرة كاملة على منطقة شرق أوروبا، فلا يبقى أي مجال (سياسي، ديني، عسكري، اقتصادي...) خارج نفوذها. إنّها معركة جيوسياسية تخوضها الولايات المتحدة، ووجدت في البطريركية القسطنطينية - بقيادة البطريرك برثلماوس - «حصان طروادتها» كنسياً. فبرثلماوس، «المُغتاظ» من فرض البطريرك كيريل (بطريركية موسكو) نفسه «الأرثوذكسي الأول» ذا العلاقة المميزة مع الدولة الروسية، يرغب في أن يكون «بابا» الأرثوذكس في العالم، وفي أداء دور أكبر من حجم بطريركيته التي أصبح وجودها في تركيا «رمزياً»، إن كان بحجم أتباعها أو التضييق المُمارس عليها من قبل السلطات التركية.

** يقول متروبوليت مسكوني إنّ المشكلة مع روسيا في «طموحها أن تُصبح الكنيسة الأولى أرثوذكسياً» **

يُعَدّ إنشاء كنيسة مُستقلة في أوكرانيا، «انفصالاً قاسياً» في تاريخ الكنيسة الأرثوذكسية، وسيكون له تبعات روحية خطيرة. ولكنّ الأخطر في الموضوع، هو الشقّ السياسي منه. فلا يُمكن مقاربة القرار إلا من زاوية «تهديد الأمن القومي الروسي»، من قبل الولايات المتحدة الساعية منذ مدة إلى تقسيم الكنيسة الأرثوذكسية، وخلق مناطق نفوذ لها فيها، لتُحاصر روسيا. عبّر عن ذلك وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، خلال مقابلة مع «روسيا اليوم» و«لو فيغارو» و«باري ماتش»، حين اتهم واشنطن مباشرةً بتشجيع الانقسام، مُستنداً إلى «ترحيب المبعوث الأميركي الخاص إلى أوكرانيا بقرار برثلماوس. وكلّ التقديرات تُشير إلى أنّ الاستفزاز الذي يُمارسه بطريرك المسكونية يلقى دعماً من واشنطن». ويزيد مصدر دبلوماسي روسي في حديث إلى «الأخبار» أنّ «ما يحصل جزءٌ من مؤامرة تفكيك الدول والفصل بين الشعوب، وبالتحديد بين الروس والأوكران، اللذين يُعدّان شعباً واحداً». وثمة معلومات واستنتاجات بأنّ «البطريركية القسطنطينية أداةٌ بيد الولايات المتحدة في هذا الخصوص. الخطير أنّ خطواتها تأتي على حساب الشعوب ووحدتها». وكانت «القسطنطينية» قد عقدت اجتماعات مع سياسيين أوكرانيين، تمهيداً لدعم خيار الفصل من البرلمان في كييف، ما عُدّ تسييساً واضحاً للقرار.

ولكنّ متروبوليتاً من «القسطنطينية» (رفض الكشف عن اسمه) ينفي ما تقدّم، مُعتبراً أنّه «لا يُمكن الاعتراف باستقلالية كنيسة، إذا لم تقبل السلطة السياسية ذلك، وهذا لا يعني تسييس الموضوع». يقول لـ«الأخبار» إنّهم «بطريركية دينية في بلد مُسلم ولا مصالح سياسية لنا، على العكس من نظيرتنا في موسكو التي تُعتبر كنيسة الدولة وتُمارس دوراً سياسياً». ويعتبر المتروبوليت أنّه إذا كانت «روسيا تعترف باستقلالية الدولة الأوكرانية، فعليها الاعتراف بالكنيسة المستقلة. لكنّ المشكلة مع البطريركية الروسية طموحها أن تُصبح الكنيسة الأولى أرثوذكسياً، هذا هو السبب الحقيقي خلف كلّ النزاعات»، يقول المتروبوليت الذي يُعدّ أحد صقور السياسة الأميركية في «القسطنطينية». تُستَفَز البطريركية المسكونية من فكرة أنّ «موسكو تسعى إلى السيطرة على ما كان يُعرف بأراضي الاتحاد السوفياتي. أوكرانيا اليوم دولة مستقلة، لها الحق بكنيسة». لا بل إنّ القسطنطينية تعتقد أن «دورها يُحتم عليها معالجة المشاكل الأرثوذكسية، ولا سيّما بعد أن حاولنا الحوار مع موسكو مراراً لمعالجة المسألة الأوكرانية، وآخرها المجمع المسكوني في كريت الذي قاطعته بطريركية روسيا، مُشكِّلة تحالفاً مع ثلاث كنائس أخرى». واحدة من الثلاث هي بطريركية أنطاكية، «التي لا نلومها، بل نتفهّمها لأنّها وسوريا، حيث مقرّ الكرسي البطريركي، تحت الاحتلال الروسي، وبالتالي لا يُمكن أنطاكيةَ أن تُعارض توجهات كنيسة روسيا».

لا أحد يعلم من الذي فوّض إلى البطريركية المسكونية التدخل في شؤون بطريركية ثانية. صحيح أنّها «المُتقدم بين متساويين»، نظراً لكونها أقدم بطريركية، إلا أنّ ذلك لا يمنحها امتياز التصرف، وكأنّ «شقيقاتها» غير متساويات معها. وفي الملف الأوكراني تحديداً، تُخالف «القسطنطينية» القوانين اللاهوتية، لأنّ الكنيسة الأوكرانية تقع تحت السلطة الكنسية الروسية. ويُعتبر دعمها للفصل، بدء التأسيس لجبهة كنسية في مواجهة بطريركية موسكو. «هذا ليس صحيحاً! أولا، لا مصلحة لدينا لتنظيم جبهة لأننا الكنيسة الأولى وفي المقدمة ولا يوجد طموح أبعد من ذلك. التي لديها نيات للحلول مكان القسطنطينية هي بطريركية موسكو». والأمر الثاني الذي يتحدث عنه المتروبوليت «أنّ أوكرانيا هي الكنيسة الأم لروسيا، والأخيرة أساءت استخدام القانون الكنسي الصادر عام 1686 الذي منحها حقّ تسمية متروبوليت كييف، لذلك ألغيناه خلال المجمع الكنسي الأخير». لا يُقنع هذا الكلام موسكو، التي تعتبر أنّ الفصل الكنسي أمرٌ يمسّ أمنها القومي. يردّ المتروبوليت بلا مبالاة، مُعتبراً أنّ القسطنطينية «غير مسؤولة عن الأمن القومي الروسي، ولا نعتقد أنّ كنيسة قد تُهدد الأمن القومي لأي بلد». تنفي إذاً أي دور لواشنطن في الموضوع؟ «أكيد. لا أعتقد أنّ الحراك الأرثوذكسي أمرٌ مثير للاهتمام الأميركي».

مصادر «القسطنطينية»: سوريا و«إنطاكية» تحت الاحتلال الروسي، لذلك نتفهم مواقف البطريركية الإنطاكية!

الحديث عن مؤامرة أميركية ضدّ الكنيسة الأرثوذكسية وروسيا، ليس وهماً، و«اعتقاد» المتروبوليت يتكفل المسؤولون الأميركيون بتبديده. بدايةً مع السفير الأميركي لدى اليونان جيفري بيات، الذي بذل كلّ جهوده بهدف إنشاء الكنيسة المستقلة في أوكرانيا. وفي 18 أيلول، نشر المسؤول السابق عن الشؤون الروسية في مجلس الأمن القومي الأميركي مايكل كاربنتر صورة مع رئيس الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية البطريرك فيلاريت، كاتباً أنّ «الأوكرانيين يستحقون وجود كنيسة مستقلة، كما يستحقون الحصول على وطن سيّد». ثمّ أعلن المبعوث الأميركي الخاص إلى أوكرانيا، كورت فولكر أنّ الرئيس فلاديمير بوتين «خَسِر أوكرانيا من الناحية السياسية»، مُتفاخراً بأنّ كييف «تتجه اليوم أكثر فأكثر نحو أوروبا وحلف شمال الأطلسي، نتيجة تدخل روسيا في شؤونها وقتل المدنيين (...) يجب أن نواصل فرض العقوبات على روسيا لأنّها لم تسحب قواتها من أوكرانيا». كلّ المؤشرات تدلّ على أنّ الهدف الأميركي من «استقلال» الكنيسة الأوكرانية، إقصاء موسكو عن لعب أي دور في المنطقة، وتسجيل نقطة عليها في الصراع الأوكراني الممتد منذ عام 2014. «إنها مسألة تتعلق باستقلالنا، وأمننا القومي»، قال الرئيس الأوكراني بيترو بوروشينكو، راسماً إطار الصراع، قبل أن يُعلن اقتراح قانون للبرلمان، لإلحاق عائدية مبنى كنيسة أندراوس في كييف، ببطريركية القسطنطينية، في إشارة رمزية إلى الوحدة مع «الكنيسة الأم» ورفع مستوى التحدّي. كلّ ما يريده الرئيس الاوكراني، تجميع «أوراق رابحة» تُخوله الفوز في السباق الرئاسي في آذار المقبل.

التصعيد الكنسي والسياسي والاقتصادي ضدّ موسكو، يترافق مع تصعيد من طبيعة عسكرية - أمنية. فبعد إعلان الانفصال، ارتفعت الضغوط في بحر آزوف (شرق أوكرانيا - جنوب غرب روسيا - شمال شرق شبه جزيرة القرم)، ذي الأهمية الاستراتيجية الفائقة. زادت روسيا من وجودها هناك، في مقابل إجراء كييف لمناورات عسكرية تُشارك فيها مشاة البحرية الأوكرانية والدفاع الجوي، ووحدات مدفعية البحرية الأوكرانية، ووحدات من الحرس الوطني وحرس الحدود. إضافة إلى مناورات جوية، وُصفت بالأكبر منذ الاستقلال، تُشارك فيها الولايات المتحدة وبلجيكا وبريطانيا والدانمارك وهولندا وإستونيا وبولونيا ورومانيا. واللافت، حرص الأميركيين على تظهير صورة الجيش الأوكراني المتماسك والقوي، للإيحاء بأنّه قادر على الدخول بمواجهات عسكرية مع روسيا. فأشاد القائد في الحرس الوطني الجوي الأميركي كلاي غاريسون، بأفراد القوات الجوية الأوكرانية، «المحترفين جداً». أما بوروشينكو، فأعلن إنشاء فرق عسكرية جديدة، مؤكداً أنها ستوجد في «مختلف الاتجاهات التي تُشكل خطراً محتملاً على أوكرانيا».

تعي روسيا أنّها أمام تحديات كبيرة، وقد بدأت تُعدّ نفسها لها. الشأن الكنسي يدخل في إطار هذه التحديات، فعقدت، يوم 12 الشهر الجاري، اجتماعاً لمجلس الأمن القومي برئاسة الرئيس فلاديمير بوتي، لبحث وضع الكنيسة الأرثوذكسية في أوكرانيا. ويقول المصدر الدبلوماسي لـ«الأخبار» إنّ الوضع في المرحلة المقبلة «سيكون صعباً جداً، من دون أن تكون ملامحه واضحة تماماً»، رغم أنّ موسكو ستبقى متمسكة «سياسياً باتفاقية مينسك لحلّ النزاع بيننا وبين أوكرانيا».

الحركة القومية الأوكرانية… «كاثوليكية»

يتساءل المؤرخ الفرنسي جان فرانسوا كولوسيمو (في حديث إلى «لا كروا» الفرنسية) عمّا إذا كان الاعتراف بكنيسة أوكرانيا الأرثوذكسية سيقود، في الأسابيع المقبلة، إلى أعمال عنف «عفوية أو موجهة، بهدف تضخيم الخلاف السياسي بين روسيا وأوكرانيا». التخوف من اصطدام بين أتباع الكنيسة الروسية في كييف، التي تُعتبر أقوى وأكثر نفوذاً دينياً، وبين مؤيدي الانقسام، كبير. الإشارة الأولى إلى ردّ فعل تجاه القرار، أتت من نشطاء في أوكرانيا، رفعوا دعوى ضد الرئيس الأوكراني بيترو بوروشينكو، مُتهمين إياه بالتدخل في شؤون الكنيسة الأرثوذكسية. صحيح أنّ الأجواء الشعبية متشنجة، ولكن لا يتوقع مطلعون على الملف أن يُنظر إلى بوروشينكو بوصفه «بطل الاستقلال»، أولاً لأنّه عدائي ويُشيطن «جماعة المؤمنين الراغبة في البقاء تحت سلطة موسكو»، وثانياً لأنّ القوميين الأوكرانيين (يتحكمون في المشهد الميداني والسياسي في أوكرانيا منذ الانقلاب عام 2014) المعارضين لروسيا، هم من خلفية كاثوليكية، لا أرثوذكسية. يُعتبر هذا «التفصيل» أساسياً لفهم التركيبة الأوكرانية، فالحركة القومية لا تعترف بالأرثوذكسية كـ«نظام حاكم»، وهناك سرديات لمؤرخين بشأن وجود مراسلات بين أبناء القومية الأوكرانية ودولة الفاتيكان. وينظر قوميون فاشيون أوكران في غرب البلاد (معادون لروسيا) إلى كل من أدولف هتلر وستيان بانديرا (زعيم الحركة الاستقلالية) والقديس يوحنا بولس الثاني، بصفتهم «الزعماء الملهمين». الفاتيكان تعامل ببرودة مع ملف الانفصال. لم يعلن رفضه التشرذم الكنسي في «شقيقته» الأرثوذوسية. الخارجية الأوكرانية نسبت إليه تأييده الانشقاق، لكنه أصدر بياناً قال فيه إنه لن يقيّم الخطوة التي يراها «شأناً داخلياً في الكنيسة الأرثوذكسية».

المشكلة الثالثة التي تواجه أوكرانيا، هي انخفاض نسبة التدين لدى الجماعة الأرثوذكسية الموالية لها. سيُصعب ذلك من رغبة كييف في «إعادة الاعتبار» الكنسي لنفسها، وخاصة أنّها لا تطرح نفسها مرجعية للروم بديلة من موسكو، بل كلّ فكرتها ضرب روسيا من خلال الكنيسة.

---------------------------------------

«القسطنطينية»: وحدة الكنيسة في خطر!

تاريخياً، لم يكن الصراع قائماً بين البطريركيتين الروسية والقسطنطينية، بل بين الأخيرة والكنيسة اليونانية، التي كانت تُحمِّل «المسكونية» (القسطنطينية) مسؤولية عدم قيام الدولة القومية اليونانية ولعب دور «التابع» للسلطان العثماني. يعود الأمر إلى زمن استقلال اليونان، والخلاف مع تركيا. لكنّ الرغبة في تقويض النفوذ الروسي، تجمعهما حالياً. الخلاف التركي ــــ اليوناني، انعكس سلباً على البطريركية المسكونية في القسطنطينية، فصودرت أملاكها ثم أُقفل «معهد خالكي» (لتخريج الإكليروس) عام 1971 ولم يُسمح لها بإعادة افتتاحه. قبل ذلك، اخترع أتاتورك «الكنيسة التركية الأرثوذكسية»، التي نشطت حصراً في إسطنبول، و«إكليروسها» من عائلة واحدة هي إفتيم. واتُّهم رجال دين «التركية الأرثوذكسية» بأنّهم كانوا «عملاء» للسلطة في حينه.

انزعاج «القسطنطينية» من «موسكو»، بدأ في القرن السادس عشر، حين تحولت الأخيرة إلى بطريركية. بلغ الأمر ذروته في القرن العشرين حين أعاد جوزف ستالين إحياء نشاط الكنيسة الأرثوذكسية، في تعاون بينها وبين الدولة السوفياتية، لمواجهة النازية في شرق أوروبا، خلال الحرب العالمية الثانية. فرض ستالين، في حينه، أن تكون سلطة بطريركية موسكو تمتد على كامل أراضي الاتحاد السوفياتي. بعد سقوط «الاتحاد»، بدأت ترتفع الأصوات المنادية بالاستقلال الكنسي في أوكرانيا، مدعومة من «القسطنطينية» التي دعت القوميات التركية في شرق أوروبا للانضمام إلى كنيسة أوكرانيا.

محاولات البطريركية المسكونية ضرب «شقيقتها» الروسية قديمة، رغم نفيها ذلك بشكل دائم. لا يدعمها في موقفها سوى الكنيسة المقدسية واليونانية. ماذا بعد إعلان الانفصال وعدم اعتراف باقي الكنائس به؟ يُجيب متروبوليت في «القسطنطينية» بأنّ من «حقنا إعطاء الاستقلالية لأي كنيسة. إن لم يعترفوا بها اليوم، فسيعترفون بها غداً أو بعد غد». هذا يعني أنّ الكنيسة مقبلة على تحديات؟ «التحدي الرئيسي أنّ كنائس معينة (يقصد الروسية) مُسيرة بالمصالح السياسية والتوازنات الجيو ــــ استراتيجية، ما يضع وحدة الكنيسة في خطر».

«الصقر» الأميركي في القسطنطينية

يظهر البطريرك المسكوني برثلماوس في مُقدّمة المواجهين للكنيسة الروسية. لكن الدور الحقيقي في هذا المجال يؤديه «رجل الظلّ» المتروبوليت ألبيدوفوروس، أبرز المُعبّرين عن السياسة الأميركية للأرثوذكس في المنطقة. علاقاته مع الحكومات تمتد من أميركا وصولاً إلى تركيا مروراً باليونان وسوريا. صاحب نفوذ ويسعى إلى تولّي أبرشية أميركا الشمالية، تمهيداً لانتخابه بطريركاً، والسيطرة على باقي الكنائس الأرثوذكسية.

اختارت البطريركية الأرثوذكسية في القسطنطينية (مُمثلة حالياً بالبطريرك برثلماوس)، أن تتآخى مع سياسة الولايات المتحدة الأميركية في المنطقة، وتؤدي دور «رأس حربتها» ضدّ الكنيسة الروسية. وتماماً كما تتعامل واشنطن مع الدول والأحزاب والمؤسسات «التابعة» لها، وجدت داخل البطريركية القسطنطينية من يكون «صقرها»: أسقف البطريركية المسكونية، متروبوليت منطقة برسا، ألبيدوفوروس. هو الذي يعتقد بأنّ «الكنيسة الروسية هي ابنة الكنيسة الأوكرانية، والأخيرة ابنة الكنيسة المسكونية». ويحرص في كلّ مقابلاته الصحافية على تظهير موقفه «العدائي» تجاه روسيا، ويُتهم بأنّه يقوم «باحتواء» كلّ المطارنة والأساقفة والأبرشيات التي تُحاول الانشقاق والتفلّت من سلطة كنيسة موسكو، مُستفيداً من دوره كمُنسق العلاقة بين «المسكونية» وسائر البطريركيات.

وُلد ألبيدوفوروس في باكيركوي (إسطنبول) عام 1967، لأمّ حلبية - كردية وأب يوناني - تركي. دراسته في جامعة البلمند اللبنانية لأقلّ من سنة ساعدته في تعلّم اللغة العربية. تخرّج من قسم اللاهوت الرعوي في جامعة أرسطو - سالونيك (اليونان) عام 1991، قبل أن ينال بعد عامين شهادته في الدراسات العليا من المدرسة الفلسفية في جامعة بون (ألمانيا). وفي الـ2001، نال درجة الدكتوراه من سالونيك. شغل مناصب كهنوتية عدّة: عضواً في لجنة الإيمان والنظام في المجلس العالمي للكنائس منذ عام 1996، أمين سرّ مجالس السينودس في صوفيا (1998)، إسطنبول (2005)، جنيف (2006)، وإسطنبول (2008)، الأمين العام الأرثوذكسي للجنة الدولية المشتركة للحوار اللاهوتي بين الكنيسة الأرثوذكسية والاتحاد اللوثري العالمي، عضو في الوفود البطريركية إلى الجمعيات العامة لمؤتمر الكنائس الأوروبية والمجلس العالمي للكنائس.

عاد اسم ألبيدوفوروس إلى الضوء أخيراً، في تقارير منشورة على مواقع إلكترونية أميركية تُحرّكها مجموعات الضغط الأرثوذكسية هناك، عن أنّ ألبيدوفوروس يقف خلف كهنة أرثوذكس ورجال أعمال وسياسيين أصحاب نفوذ، لدفع رئيس أساقفة أميركا الشمالية ديمتريوس إلى الاستقالة. في الوقت نفسه، يُتهم «الفانار» (أي مقرّ البطريركية المسكونية في تركيا) بالتحريض وإشعال أزمة في أبرشية أميركا الشمالية. المُستفيد من هذا الحراك، ليس سوى ألبيدوفوروس، الذي تُعوّل عليه الإدارة الأميركية «للسيطرة على رعايا الكنائس الأخرى، ولا سيما تلك التابعة للبطريركية الأنطاكية. لغته العربية ستكون عاملاً مُساعداً». وتُفيد التقارير بأنّ ألبيدوفوروس سيتمكن من تحقيق أهدافه بسبب «علاقاته الجيدة مع أصحاب النفوذ في تركيا والولايات المتحدة الأميركية على حدّ سواء». لكنّ طموح الأسقف لا يتوقف عند أبرشية أميركا الشمالية، بل يُريدها أن تكون «قاعدة ينطلق منها إلى انتخابات رئاسة الكنيسة المسكونية. فإذا نجح ألبيدوفوروس في إطاحة ديمتريوس، سيفعل الأمر نفسه مع البطريرك برثلماوس». ويستفيد متروبوليت منطقة برسا من الاتهامات الكثيرة بحقّ برثلماوس «كإفساده علاقات الفانار مع السلطات التركية، وما يُحكى عن دور له في محاولة الانقلاب على إردوغان عام 2016»، علّها تُسرع في قرار تقاعد البطريرك المسكوني وإحلال ألبيدوفوروس مكانه «الذي يتباهى بعلاقة ممتازة مع تركيا». لكنّ مشكلته وجود «علامات استفهام عدّة حول علاقاته الجيوسياسية».

أحد المُقربين من ألبيدوفوروس ينفي في حديث مع «الأخبار» أن يكون للأسقف أجندة سياسية، «فهو رجل دين علاقاته جيدة مع الجميع». يقول ذلك ليُبرّر تواصله مع «الحكومات التركية واليونانية وغيرها، وليس فقط مع الإدارة الأميركية كما يُتهم. حتى في سوريا، لديه علاقات جيدة جداً». وينفي أن يكون ساعياً إلى السيطرة على رعايا الكنيسة الأرثوذكسية الانطاكية في أميركا، «علاقته بانطاكية جيدة لأنّ أمه من حلب، ولديه مشاعر قوية تجاه سوريا والمنطقة»، ولكن لا يُلغي ذلك أنّه «أحد المُرشحين إلى ترؤس مطرانية أميركا الشمالية».

ويُخبر المُقرّب كيف أنّ الكنيسة في أميركا الشمالية «مُهمة جداً بالنسبة إلى القسطنطينية»، فجماعة المؤمنين هناك «قوية ومُنظمة جداً، ومستوى الإيمان مرتفع»، إضافةً إلى وجود «لوبي يوناني - أميركي قوي، يقوده طبيعياً مطران أميركا التابع للبطريركية المسكونية. لذلك، كنيستنا مؤثرة جداً في الولايات المتحدة».

ما ينقله المصدر المُقرّب من ألبيدوفوروس عنه، يؤكدّ ما نشره موقع «Güneş» التركي عن أنّ وكالة الاستخبارات الأميركية تُصدر تعليماتها للمسؤولين في البطريركية القسطنطينية، «المُتهمة بتهريب رجل الدين فتح الله غولن من تركيا إلى واشنطن»، بحسب الموقع. فإذا كانت الكنيسة في أميركا الشمالية على هذا القدر من النفوذ، فمن الطبيعي أن يكون التنسيق مع السلطات الأمنية والعسكرية والسياسة الأميركية مُتقدماً. «بالتأكيد غير صحيح» يردّ المصدر، مؤكداً أنّ من يُصدرون هذه الاتهامات «هم أنفسهم أصحاب دور سياسي والعلاقة مع تركيا في عهد إردوغان أفضل من أي وقت مضى».

 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024