إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

مرويات وعبر، وقدوة في النضال من "صوت النهضة"

الامين لبيب ناصيف

نسخة للطباعة 2023-10-27

إقرأ ايضاً


ليلة الأول من آذار عام 1935 فاجأ رفقاء من الرعيل الأول، سعاده، بتقديم باقة من الورد له، وقد زاروه في البيت الصغير في رأس بيروت، الذي اصطلحوا على تسميته بالكوخ، فكان أن فاجأهم سعاده بأن أقسم بحضورهم قسم الزعامة مثبتاً نهج المؤسسات في التعاطي الحزبي انطلاقاً من زعيم الحزب إلى كل عضو عامل فيه،

وإذا كان الرفقاء قد تقدموا في تلك الأمسية بباقة من الزهر، فإن القوميين الاجتماعيين على مدى سنوات النضال والتفاني والتضحية والاستشهاد قدموا لحزبهم "باقات" لا تحصى من مواقف العز والبطولة، فكان لهم في كل بلدة وقرية ودسكرة ملاحم من النضال شهد عليها أبناء شعبنا في كل مناطق الوطن، وعاشها القوميون الاجتماعيون بفرح وفخر، واعتزاز من آمن واعتنق مبدأ الحياة لأمته.

من تلك الملاحم التي لا يسعها كتاب، ومجلدات، نقدم مرويات كتبها أمناء ورفقاء بدمائهم وآلامهم، وبكل نبضة من أعماقهم، ودائماً فرحين.

فهذه وتلك نماذج قدوة ونفحات طيب، وستبقى تفحّ في وجدان كل قومي اجتماعي وتسير معه في هذا الدرب الطويل، ونحو قمم تعلوها قمم.

*

من كتاب "على دروب النهضة" للأمين نواف حردان.

توطدت عرى الصداقة بين الأمين عجاج المهتار وبيني، إلى جانب رابطة العقيدة الواحدة التي كانت تربطنا برباطها المتين.

عرفته في مصبغته في شارع جان دارك – بيروت أمام الجامعة الأميركية.

وكنت أقرأ قصائده أو أسمعها منه بلهجته المؤثرة، فأعجب إعجاباً كبيراً به وبأشعاره الملهمة، التي صار الرفقاء يتناقلونها برغبة وحماسة وينشدونها بحرارة وإيمان، فيسمعها آخرون وتفعل فعلها في عقولهم وأرواحهم، ويحفظونها هم أيضاً، وتنتقل القصائد والتراويد من لسان إلى لسان، ومن قرية إلى قرية إلى دسكرة إلى مزرعة، صلوات إيمان وتراتيل أمل، تعبر عن ثورات النفوس وزمجرات الصراع.

زارني مرة في شهر أيار من عام 1945، فرحنا نقوم بمهمتنا ونتنقل في جرود حرمون من قرية إلى قرية، ندعو النيام إلى اليقظة ونحث الحراس على السهر وننشر مبادئ النهضة بين مواطنينا.

رافقنا الرفيق سليمان سليقه في تلك الجولة، وعندما وصلنا بلدة ميمس، أخبرنا الرفيق كنج أبو العز، أن مواطناً لنا من بلدة خلوات الكفير، يدعى حسن أبو صالحه، صار جاهزاً للانتماء للحزب، وانه بواسطته يمكن إنشاء فرع في خلوات الكفير.

بعد أن عقدنا اجتماعاً للرفقاء في ميمس، ذهب الرفيق محمود كنج أبو العز، يمهد الطريق أمامنا إلى خلوات الكفير، ويبلغ المواطن حسن أبو صالحه أننا سنزوره في اليوم التالي، فعاد الرفيق أبو العز وأخبرنا أن حسن ينتظرنا في بيته ظهراً، لكي نتناول طعام الغداء عنده.

كان علينا – الأمين عجاج المهتار والأمين نواف – أن نقصد بلدة شويا التي تقع على رأس مرتفع عال، في المقلب الثاني من الجبل.. بيننا وبينها واد سحيق كثير العمق..

رحنا نسير انحداراً في الوادي العميق، وكان الوقت ظهراً أو ما بعده بقليل والشمس في كبد السماء ترسل أشعتها الحارة تطبخ بها قشرة الأرض، والتعب قد أخذ مأخذه منا والعرق يتصبب من جسدينا.

سكون شامل كان مخيماً، لا يعكره سوى حفيف أجنحة بعض الطيور وزقزقة بعض العصافير تشكو الحر الشديد، ولهاث صراصير، وسوى رنين جرس في رقبة كبش كان على ما يبدو يسير في مقدمة قطيع من الأغنام، هناك في أعالي الجبل المطل علينا.

وفجأة كسقوط رذاذ مطر على أرض عطشى، كانبلاج فجر ضاحك طروب، كنفير عزم وحزم ونخوة واستجابة، كانطلاق أغنية ملائكية، انطلق صوت راعي الأغنام من أعالي الجبل.. يدوي زاخراً حاراً حنوناً فواراً بالإيمان، مضمخاً بالقوة والعذوبة، في أغنية أبو الزلف من نظم عجاج المهتار نفسه:

قمنا كباقي الملا

نحدد أراضينا

من حد طوروس إلى

قبلي جبل سينا

ومن شرق دجلة على

فسحة شواطينا

مشينا دروب العلى

بوثبات قومية

لا أذكر في حياتي.. فيما إذا كنت سمعت صوتاً أعذب من صوت ذلك الرفيق الراعي، بل ما أذكره جيداً هو أن الصوت الجميل العذب المرنان، غمر الجبل والسفح والوادي بإيقاعه القوي وسحباته المتموجة، فوجمت الطبيعة وخرست العصافير، وساد السكوت الملهم العميق، كما جمدت في مكاني أتطلع إلى رفيقي الشاعر. يصغي هو أيضاً بفخر وخشوع واعتزاز وعيناه البارقتان تحدقان في الأفق البعيد، كأنه يرى وراء الأفق شخص الزعيم الغائب الحبيب ويستلهمه، ثم انطلق صوته فجأة في حداء جديد، يخاطب به الزعيم البعيد هكذا:

عينك يا سعاده تجي

وتشوف جيش الزوبعة

شراقيط نار موهوجي

وعا كل عتمة موزعة

ذلك كان مطلع قصيدة جديدة، جادت بها قريحة الشاعر عندئذ، ما عتمت أن أصبحت حداء خالداً على ألسنة الرفقاء.

وأخيراً.. بعد سير شاق بين الشوك والبلان والهشير، وصلنا بلدة "شويا" وقصدنا بيت الرفيق توفيق عزام الذي كان قد انتمى للحزب منذ مدة قليلة، ونحن في حالة يرثى لها من التعب والجوع.

*

• يروي الأمين جبران جريج في الجزء الثاني من كتابه "من الجعبة" عن مواجهة الرفقاء لذوي النفوذ الإقطاعي في بعض قرى الكورة ومنها قرية "بتوروتيج" حيث أبى أحد الرفقاء العاملين في الزراعة عند أحد الإقطاعيين إلا أن يتصدى له علناً، فيقول: التقيا عند بيادر القرية. المتنفذ بشاربيه الكبيرين المعقوفين وجزمته الملمعة والكرباج المعلق من رسغه، وابن الشعب بلباسه العادي الشكل، البسيط. جرى حوار عن المبادئ الجديدة وإلغاء الإقطاع كان فيه الرفيق – ابن الشعب – طلق اللسان، فصيحا فلم تقع أقواله في نفس المتنفذ الموقع المستحب فأخذ يهز كرباجه، فلفته الرفيق أن هزة الكرباج لا تجوز، فالموقف موقف فكر وأراء، فما كان منه إلا أن زاد الهز ورفعه قليلاً وقال: ما هذه الأيام التي وصلنا إليها يخاطبني شخص مثلك بمثل هذا الكلام، "فأجابه الرفيق بأن مدّ يده إلى وسطه وسحب مسدسه في وجه الإقطاعي: كلمة أخرى منك وتذهب إلى استقبال ربك الديان".

توتر الجو. وصل الخبر إلى الأمين جريج وكان يتولى مسؤولية الحزب في الكورة، فحضر حالاً إلى "بتوروتيج". هنأ الرفيق الشجاع لموقفه الجرئ وطلب منه أن ينسحب لما يمكن أن يجره هذا الحادث من ذيول.

قرر الاتصال بالزعيم ليطلعه على ما جرى وأخذ تعليماته إذ لم يكن بسيطاً في تلك الأيام أن يتحدى أحد "الباشا"، إنما كيف يصل إلى بيروت وهو لا يملك أي مبلغ مالي؟

قرر، أوقف سيارة متوجهة إلى بيروت يقودها أحد معارفه، وصل إلى بيروت، رغب إلى السائق أن يحفظ له مقعداً عند العودة فهو لن يتأخر وسيعود بعد قليل من الوقت.

امتطى الحافلة الكهربائية إلى رأس بيروت، إنما كيف يسدد ثمن البطاقة (كانت قيمتها قرشاً سورياً واحداً ونصف القرش) يحاول إيهام الجابي أن معه بطاقة Pass وهذه تصلح للانتقال بواسطة الحافلة الكهربائية لمدة زمنية معينة. إنما أين هي؟ قطع له الجابي تذكرة، كيف يدفع؟ حاول أن يقدم قلم رصاص فضة كان وصله هدية. تفهم الجابي الوضع وانتظر كي يصل إلى حيث مبتغاه.

مقابل مطعم حداد (الذي اشتهر كثيراً في سنوات التأسيس الأولى وحيث كان سعاده استأجر غرفة في منزل صاحبه جريس حداد) توقفت الحافلة، نزل الأمين جريج وصدف أن كان الأمين أنيس فاخوري يتناول طعامه، فأخذ منه خمسة غروش سورية وهرع إلى الجابي يسدد له منها قيمة التذكرة.

أطلع سعاده على ما حصل في "بتوروتيج" تفصيلاً، أبدى سروره من موقف رفيقنا، عبد المجيد، وكلف الأمين جريج بأن يهنئه باسمه وأعطاه توجيهاته بهذا الخصوص. بعد ذلك روى لسعاده كيف جاء من طرابلس وهو صفر اليدين وعما حصل معه في الحافلة الكهربائية وكيف وجد الأمين فاخوري في المطعم فحل المشكلة. كان تعليق سعاده: أرأيت يا رفيق جبران، إن الروحية تخلق العجائب كما قلت لك مرة في المكتب في شارع فوش، إن روحيتك قادتك إلي بالرغم من عدم وجود أي مبلغ في جيبك، إلى الأمام يا رفيقي، إلى الأمام.

*

من مرويات الأمين السابق الرفيق أديب قدورة

بعد حادثة المالكي تمكن عدد كبير من القوميين الاجتماعيين من الانتقال إلى لبنان حتى كاد الحزب يعجز عن مساعدتهم وإيوائهم ففرض على كل قومي تقديم المساعدة ما استطاع إلى ذلك سبيلا.

كان من نصيبي شاب مدرس في مدرسة قريته، تزوج حديثاً ويعيل في بيته بالشام والده الأعمى ووالدته شبه العاجزة، وهو المسؤول الوحيد عنهما.

أنزلته في ضيافتي بفندق بسيط قرب صيدليتي، وتكلفت بجميع نفقاته ومصروفاته (20) عشرون ليرة يومياً.

بعد مرور عشرة أيام تقدم مني هذا الشاب والدمع يترقرق في عينيه وقال لي بخجل وأسى: إني أكبدك عشرين ليرة يومياً، فلك مني كل الشكر، لكن والدي وزوجتي لا معيل لهم سواي. إن القسم الأكبر من عائلتي قوميون ومصيرهم كمصير أهلي.

إني أقترح أن أعمد إلى تسليم نفسي للسلطة السورية وأقيم في السجن لقاء رجاء مني هو أن تتكرم بإرسال مبلغ (15) خمسة عشرة ليرة يومياً، بدلاً من عشرين، مما تنفقه علي، أي 450 ليرة شهرياً لأسرتي وأهلي كيلا يتعرضوا للجوع والذل.

وقد تأثرت من كلامه، ورفضت اقتراحه تسليم نفسه، وطمأنته أني أقبل بإرسال مبلغ أربعماية وخمسين ليرة شهرياً لأسرته على أن يبقى بضيافتي، إلى أن يزول الخطر عنه.

*

من كتاب الأمين الدكتور عبدالله سعاده، "أوراق قومية" ما يلي:

لم أكن أعرف الرفيق جبران الأطرش من قبل، كما أن معرفتي بالرفيق محسن نزهة كانت عابرة. اتهم الرفيق جبران بقتل الرقيب شمعون عند دخول القوميين الاجتماعيين إلى بيوت الضباط لأسرهم. أثناء المحاكمة الأولى أصرّ الرفيق جبران الأطرش على أنه لم يقتل الرقيب شمعون. وكان الصدق في كلامه يعلو أكثر من نبرة صوته. والرفيق الأطرش تعرّض أكثر من الرفقاء دون استثناء للضرب المستمر مرة أو أكثر في كل يوم، وذلك لسببين: أولاً: لأنه متهم بقتل الرقيب شمعون، وثانياً: لأنه فلسطيني.

وقد روى لي أن أحد الجنود حاول قتله أثناء اعتقاله، ولكن الرصاصات لم تنطلق لخلل في المسدس. أما أنا فقد شاهدت بعينيّ الاعتداءات المتكررة عليه كلما توجّه إلى المراحيض أو الحمامات.

بعد المحاكمة الأولى استدعيته إلى غرفة المحامين، وقلت له يا رفيقي، لقد أكدت في المحكمة بأنك لم تقتل الرقيب شمعون، وأنت كنت أحد أفراد مجموعة الدخول إلى بيوت الضباط. هل تعرف من قتل شمعون؟ فأجاب: "نعم أعرفه". قلت له: ولكن الاتهام موجه إليك وحدك وسيصدر حكم الإعدام عليك بهذه التهمة إذا كنت ستستمر في كتمان معلوماتك. فهل تسمي لي من هو القاتل؟

قال: "كلا فأنا لا أخون رفيقي ولا أكشف سره".

قلت: ولكنني المسؤول الحزبي الأول ورئيسك السابق، ومن موقع المسؤولية أطلب إليك أن تخبرني. فتجهّم وجهه وسكت طويلاً ثم قال: فلان.

فسألته: ولماذا تتقبل حكم الإعدام بدلاً منه. فقال: "لأن زوجتي نشيطة، وإذا مت فهي قادرة على تأمين العيش اللائق لبناتي الثلاث. أما هو فله ثلاث بنات مثلي، ولكن زوجته غير مؤهلة لتأمين العيش اللائق لهن ومن الأفضل في هذه الحال أن أقبل الموت بدلاً عنه". هزتني هذه الفروسية النادرة، وهنأته على موقفه وشكرته عليه.

أما الرفيق محسن نزهة فهو الذي قاد المجموعة إلى مهجع الجنود الحرس، وأنذرهم فامتثلوا. ولكن أحد أفراد هذه المجموعة أطلق النار بانفعال على أحد الجنود في سريره فقتله. فأنبه الرفيق محسن قائلاً: هذا عمل جبان. ورغم ذلك وجهت إليه تهمة قتل الجندي. فتحمّل التهمة وحكم الإعدام ورفض أن يسمي رفيقه المسؤول عن القتل، وحجته في ذلك أنه لا يخون رفيقه وأن موت رفيقه قد يحدث بلبلة في بيته وأقاربه بينما الرفيق نزهة، واخوته قوميون اجتماعيون، وهم يتقبلون الحكم كضريبة واجبة من ضرائب النضال الحزبي".

- الرفيقان المذكوران حكما بالإعدام ثم خفض الإعدام إلى المؤبد وبقيا في السجن إلى 19 شباط 1969 وخرجا مع العفو.

*

من مذكرات الرفيق محمد خالد قطمة، من كتابه "الأسبوع 7 أيام".

اعتقلت في الحادي عشر من كانون الثاني 1962 وبتهمة سياسية والحمد لله في بيروت. ولكن هذه التهمة كانت تكفي لقطع الرقبة وفي أحسن الحالات إلى اعوجاج الظهر، وبقيت في المعتقل أياماً دون أن يسألني أحد شيئاً. حتى اسمي لم يكن بين الأسئلة لأن الأجوبة كانت وحدها سيدة الموقف، ولا ضرورة لذكر الاسم كاملاً عند توجيه الشتائم أو الركلات، وجاءت ساعة التحقيق فأنزلوني من الطابق الثالث في ثكنة الأمير بشير الشهابي إلى الطابق الأرضي حيث التحقيق والتعذيب والموت. وقبل أن أقف أمام المحقق العسكري كنت عرفت تجربتين للرعب لن أنساهما، الأولى: استدعي أحد رفاقي في القاووش الممثل الكوميدي المعروف رضا كبريت (الأمين لاحقاً) كانت الساعة حوالي الواحدة بعد منتصف الليل عندما أنزلوا رضا إلى التحقيق وله لون واحد. وبعد ساعة عاد رضا كبريت وظهره قوس قزح ولكنه لم يبك لذلك ضربوه أكثر من غيره. وحين حملوه إلينا ووضعوه على حصير القاووش فتح عينيه ووجدنا حوله فانفجر في حشرجة باكية وأغمي عليه.

أما الحادثة الثانية فكانت الأقسى،

استدعيت والزميل الصديق الياس الديري للتعرف إلى أحد المعتقلين، وقبل أن يدخلوا بنا إلى غرفة التعذيب سألني الرقيب المرافق: هل تعرف علي البزال؟

وأجبته بالإيجاب فقد كان علي البزال يحرسني من شر الرصاص عند مدخل الجريدة "البناء" ويجعلني أشعر وأنا في مكتبي بالأمان لأن رشاشه كان يده الثالثة.

وانتظرنا عند باب جهنم حتى نرى علي البزال ونقول أنه هو، ويخرج ضابط من رجال المكتب الثاني اللبناني ليقول: ما في لزوم، رجعوهم على القاووش. نعم لم يعد هناك لزوم لتعرفنا على الشاب الحنطي الذي كانت حياتي أمانة في عنقه، فقد قتل علي البزال أثناء التعذيب، وظل اسمه في قلبي يملأ عيني بالحزن وذكره بالشهادة.

*

الأمين الدكتور عبدالله سعاده من كتابه "أوراق قومية"

بعد جلوسي مدة ساعتين تقريباً في المحكمة العسكرية اقتادوني إلى وزارة الدفاع. وصعدت الدرج في الوزارة إلى الطابق الأول حيث كان بعض الضباط الصغار والرتباء يقفون على جانبي الدرج في قسمه الأعلى، وما إن وصلت إليهم حتى انهالوا علي بالضرب الشديد وحملوني ورموني من منفرج إلى الطابق الأرضي فسقطت واقفاً على قدميّ اللتين لم تحملاني، ووقعت على الأرض، ثم أمروني بالصعود ثانية، فصعدت بصعوبة نسبية وما إن وصلت إلى آخر الدرج حتى انهالوا علي ثانية بالضرب الشديد.

وبعدها اقتادوني إلى ثكنة "الأمير بشير" وهناك انتزعوا مني ما كنت أحمل، وأمر المسؤول بفك قيدي وإدخالي إلى زنزانة الانفراد، لكن أحدهم لفته إلى ما كتبه أنطون سعد (رئيس جهاز المكتب الثاني) على الورقة فقرأها وقال: "ابقوا القيد في يديه" ودخلت مكبلاً إلى الزنزانة وهي غرفة مظلمة باردة طولها ثلاثة أمتار وعرضها متر وربع المتر فيها مصطبة من الباطون، ولم أعط أية بطانية أو حصيرة، وأوصدوا الباب الحديدي وتركوني أعاني البرد الشديد وآلام ظهري. (شهر كانون الثاني)

كان قيدي يفك في الصباح لأغسل وجهي وأزور المرحاض وكانت منشفتي منديلي الوحيد الذي بقي في جيبي. أما الأكل فكان في أكثر الأوقات رغيفاً من الخبز السميك فيه بعض الطبخ يرمى إلينا كما يرمى العلف للماشية. بعد أسبوعين تقريباً جاء الجنود واقتادوني مكبلاً عبر الباحة الكبيرة لثكنة الأمير بشير إلى الحمامات، فـور وصولـي انهالـوا علي بالضرب القاسي دون أي سؤال حتى وقعت على الأرض منهك القوى وفي شبه غيبوبة، تقدم جندي وأمسك بركبتي ضاغطاً بكل قوته وكأنه يريد فسخي لكني تخلصت منه بصعوبة كلية غير أنه تابع ضربي ورفسي بشكل بربري إلى أن انطرحت على جانبي ووجهي على الأرض. فتقدم الملازم مني وقرب حذاءه من فمي قائلاً بصوته العالي: "بوس صباطي ولاه" فرفعت باتجاهه عيني معبراً عن نقمة صامتة، فأرجع قدمه. بعد دقائق استعدت بعضاً من قوتي فأمرني الضابط بالجلوس فجلست على الأرض، ثم أمرني بالوقوف فاستجمعت كل عزيمتي ووقفت، فتقدم مني وصفعني فما تمالكت إلا أن صفعته بكل قوتي وبصقت في وجهه، فانهال بالضرب علي، ولم أعد أعي ماذا يجري إلى أن أفقت من غيبوبتي بعد مدة مبللاً بالماء.

ولأول مرة في زنزانتي، أحسست بالدفء بدل البرد الشديد بسبب الضرب الذي لم يترك بقعة سليمة من جسدي.

هزل جسمي كثيراً خلال شهري كانون الثاني وشباط، دخلت السجن ووزني أكثر من 95 كليوغراماً فأصبح أقل من سبعين، حتى اضطررت أن أربط حلقات سروالي لكي لا ينزلق عني، وفي زيارة للمحقق كفوري، سبقتها حفلة تعذيب خاصة إذ استدعيت من زنزانتي إلى الطابق الثالث في بناية المهاجع، وكانت غرفها خالية فشاهدت في غرفة كبيرة الرفيق خليل دياب (الأمين لاحقاً) مكوماً ككتلة من لحم غير قادر على الحراك، وأخذت إلى مهجع مجاور له وهناك بدأ تعذيبي وضربي حتى أصبحت بدوري كتلة من لحم عاجزة عن الحركة.

في إحدى الليالي اقتادوني إلى التحقيق فمررت بغرفة فيها ما يزيد عن ثمانية رفقاء مكومين على الأرض من الضرب والإنهاك، وكان القصد أن أشاهد بعيني حالتهم، وما إن شاهدوني حتى وقفوا جميعاً وقفة عسكرية وأدوا لي التحية الحزبية الرسمية، فأخذت من الغرفة وبدأ الضرب فيها مجدداً، في تلك الليلة كان همّ المحققين الصغار أن ينتزعوا مني اعترافاً بأن الرئيس كميل شمعون مطلع على الانقلاب ومشارك فيه، فأصريت على نفي هذا الموضوع كلياً، وكلما أكدت النفي عاودوا ضربي مجدداً والقيود في يديّ وساقيّ، وهم يرددون: "سنكمل معك هذا الأسلوب حتى تعترف أو تموت". وبعد ثلاث ساعات تقريباً، وكان الفجر قد أوشك ان يطل لم أعد أحتمل مزيداً من التعذيب، فقلت نعم أعترف، فارتاحوا لقراري وقالوا: تفضل ونحن نكتب، قلت فكوا لي قيود ساقي ويدي كي استريح وأقول الحقيقة، ففعلوا مستبشرين، قلت: اكتبوا ما يروق لكم وأنا أصادق عليه ولكن قدموا لي سيجارة لأرتاح، فتسابقوا لإعطائي السيجارة، وكتبوا أني في زيارتي إلى السعديات قبل سفر شمعون إلى "الفولتا العليا" أطلعته على الانقلاب فوافق على الدعم والاشتراك فيه، وقدموا لي الورقة لأوقع، فكتبت في ذيلها: "انتزع مني هذا الاعتراف الكاذب بعد ضرب استمر ثلاث ساعات وهو اعتراف غير صحيح". فشتموني ورفسوني وأعادوا القيود واستأنفوا الضرب.. ولكنهم تعبوا ويئسوا فأعادوني إلى الزنزانة.

*

• عام 1936، سعاده في السجن ورفقاء يقتادون إلى السجن، فالمحاكمة.

- الرفيق فؤاد حداد يتلقى الحكم. يهتف في قاعة المحكمة: تحيا سورية، ولا يهاب.

- الرفيق غندور كرم يقف، يستمع إلى الحكم الصادر بحقه، يطلق كلمته التي تردد صداها في كل فروع الحزب: أنا رصاصة في مسدس الزعيم يطلقني حيث يشاء.

ومثلهما كثيرون.

• امتد الحزب في الكورة كلها تقريباً فما خلت منه قرية كبيرة أو صغيرة وصارت بترومين مركز الإشعاع والنشاط فيها. وجبران جريج يقوم كل يوم أحد أسبوعياً بجولة دورية على هؤلاء الأفراد الركائز المؤهلين لإنشاء فروع للحزب في قراهم فيبدأها في الصباح الباكر ولا يعود إلا متأخراً في المساء. في أكثر الأحيان، يقوم بهذه الجولة وحده سيراً على الأقدام وقد بقي ماضياً في هذا النهج مدة طويلة من الزمن.

(العام 1934 – من الجعبة، الأمين جبران جريج)

• مساء ذات يوم، بينما كنت في المطرانية جالساً أقرأ كتاباً، إذ بشاب صبوح الوجه، لطيف، بشوش، يصل ويسأل عني وقدم نفسه لي بأنه الرفيق فارس معلولي ثم أطلعني على تفويض من عميد الداخلية في الحزب يفوض إليه به أمر القيام بجولة في المنطقة على فروع الحزب، كما سلمني رسالة من العميد نفسه يطلب مني فيها مرافقته في الجولة ومساعدته وتسهيل مهمته.

بعد أن بتنا ليلتنا في المطرانية، وضعنا خطة للجولة وقد حصلت من رئيس المدرسة على إذن بالتغيب أسبوعاً، عقدنا خلاله اجتماعين موسعين للرفقاء، ثم توجهنا إلى الفرديس فحاصبيا فميمس فالكفير، ثم عدنا إلى دبين وبلاط ونظمنا المديريات فيها. كما علم المندوب بأنني سأنشئ مديريات جديدة في الماري وكفرشوبا وعين جرفا والخيام وابل السقي.

قمنا بالجولة كلها سيراً على الأقدام، وكنا ننتقل بين القرى ننشد نشيد الحزب "سورية لك السلام" فتتجاوب أصواتنا بين الجبال باللحن الخالد المقدس، فيغمرنا الصدى الداوي بنفحات من قدسية إيماننا الكبير.

(حزيران عام 1944، رسالة من الأمين نواف حردان، على دروب النهضة)

• ليلة تنفيذ الثورة القومية الاجتماعية الثانية وفي فترة الانتقال من ديك المحدي مع عدد من الضباط المعتقلين إلى دير مار سمعان، تمّ الاتفاق مع رئيس الحزب آنذاك الأمين عبدالله سعاده بأن يذهب إلى الشام بصحبة رفقاء كانوا سابقاً ضباطاً في الجيش الشامي وأن يطلب اللجوء السياسي، وبعد أن امتطى السيارة عاد وترجل منها وقال بالحرف: "إنني سأبقى هنا متحملاً مسؤولياتي كاملة ولألقى مصيري مع رفقائي ".

"كان هذا الموقف من الأمين عبدالله جليلاً ومؤثراً. حاولنا إقناعه بشتى الحجج ولكنه أصرّ على موقفه وطلب منا مغادرة لبنان كوننا مستهدفين بحكم مشاركتنا بالحركة الانقلابية".

(من مرويات الرفيق علي المير ملحم)

إشارات:

• الرفيق محسن نزهة منح لاحقاً رتبة الأمانة وهو مقيم في بلدته النبي عثمان.

• الرفيق جبران الأطرش مقيم في مخيم الضنية.

• الرفيق سليمان سليقا، شاعر شعبي معروف، صدر له ديوان بعنوان "قصائد مهاجرة" عام 1991. وهو كان غادر إلى الأرجنتين عام 1949 حيث استقر في ضاحية عاصمتها بيونس أيرس. من مواليد قرية الفرديس عام 1920. توفي منذ سنوات قليلة.

• الرفيق حسن أبو صالحة غادر إلى مدينة غويانيا (وسط البرازيل) وفيها تولى مسؤوليات محلية منها مسؤولية مدير مديرية غويانيا.

• الرفيق فارس معلولي منح رتبة الأمانة لاحقاً، وهو كان تولى مسؤوليات مركزية عديدة، قبل أن يغادر إلى غانا حيث أسس أعمالاً ناجحة. وهو من بلدة راشيا الوادي.



 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024