إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

صمت من أجل غزة!

محمود درويش

نسخة للطباعة 2008-12-30

إقرأ ايضاً


تحيط خاصرتها بالألغام .. وتنفجر .. لا هو موت .. ولا هو انتحار

انه أسلوب غـزة فی إعلان جدارتها بالحياة

منذ أربع سنوات ولحمغـزة يتطاير شظايا قذائف

لا هو سحر ولا هو أعجوبة، انه سلاح غـزة فی الدفاع عنبقائها وفی استنزاف العدو

ومنذ أربع سنوات والعدو مبتهج بأحلامه.. مفتون بمغازلةالزمن .. إلا فی غـزة

لأن غـزة بعيدة عن أقاربها ولصيقة بالأعداء .. لأن غـزةجزيرة کلما انفجرت، وهی لا تکف عن الانفجار،

خدشت وجه العدو وکسرت أحلامه وصدتهعن الرضا بالزمن.

لأن الزمن فی غـزة شيء آخر ..

لأن الزمن فی غـزة ليس عنصراًمحايداً



انه لا يدفع الناس إلى برودة التأمل... ولکنه يدفعهم إلى الانفجاروالارتطام بالحقيقة.

الزمن هناك لا يأخذ الأطفال من الطفولة إلى الشيخوخة ولکنهيجعلهم رجالاً فی أول لقاء مع العدو

ليس الزمن فی غـزة استرخاء ولكنه اقتحامالظهيرة المشتعلة

لأن القيم فی غـزة تختلف .. تختلف .. تختلف

القيمة الوحيدةللإنسان المحتل هی مدى مقاومته للاحتلال... هذه هی المنافسة الوحيدة هناك.

وغـزةأدمنت معرفة هذه القيمة النبيلة القاسية .. لم تتعلمها من الکتب ولا من الدوراتالدراسية العاجلة

ولا من أبواق الدعاية العالية الصوت ولا من الأناشيد. لقدتعلمتها بالتجربة وحدها وبالعمل الذی لا يکون

إلا من أجل الإعلان والصورة

إنغـزة لا تباهى بأسلحتها وثوريتها وميزانيتها. إنها تقدم لحمها المر وتتصرف بإرادتهاوتسکب دمها

وغزة لا تتقن الخطابة .. ليس لغزة حنجرة ..مسام جلدها هي التی تتکلمعرقاً ودماً وحرائق .

من هنا يکرهها العدو حتى القتل . ويخافها حتى الجريمة . ويسعى إلى إغراقها فی البحر أو فی الصحراء أو فی الدم

من هنا يحبها أقاربهاوأصدقاؤها على استحياء يصل إلى الغيرة والخوف أحياناً . لأن غزة هی الدرس الوحشيوالنموذج المشرق للأعداء والأصدقاء على السواء .

ليست غزة أجمل المدن ..

ليسشاطئها أشد زرقة من شواطئ المدن العربية

وليس برتقالها أجمل برتقال على حوضالبحر الأبيض .

وليست غزة أغنى المدن ..

وليست أرقى المدن وليست أکبر المدن. ولکنها تعادل تاريخ أمة. لأنها أشد قبحاً فی عيون الأعداء، وفقراً وبؤساً وشراسة. لأنها أشدنا قدرة على تعکير مزاج العدو وراحته، لأنها کابوسه، لأنها برتقال ملغوم،وأطفال بلا طفولة وشيوخ بلا شيخوخة، ونساء بلا رغبات، لأنها کذلك فهی أجملناوأصفانا وأغنانا وأکثرنا جدارة بالحب.

نظلمها حين نبحث عن أشعارها فلا نشوهنجمال غزة، أجمل ما فيها أنها خالية من الشعر، فی وقت حاولنا أن ننتصر فيه على العدوبالقصائد فصدقنا أنفسنا وابتهجنا حين رأينا العدو يترکنا نغنی .. وترکناه ينتصر ثمجفننا القصائد عن شفاهنا، فرأينا العدو وقد أتم بناء المدن والحصون والشوارع .

ونظلم غزة حين نحولها إلى أسطورة لأننا سنکرهها حين نکتشف أنها ليست أکثر منمدينة فقيرة صغيرة تقاوم

وحين نتساءل: ما الذي جعلها أسطورة؟

سنحطم کلمرايانا ونبکي لو کانت فينا کرامة أو نلعنها لو رفضنا أن نثور على أنفسنا

ونظلمغزة لو مجدناها لأن الافتتان بها سيأخذنا إلى حد الانتظار، وغزة لا تجیء إلينا غزةلا تحررنا ليست لغزة خيول ولا طائرات ولا عصى سحرية ولا مکاتب فی العواصم، إن غزةتحرر نفسها من صفاتنا ولغتنا ومن غزاتها فی وقت واحد وحين نلتقی بها – ذات حلمربما لن تعرفنا، لأن غزة من مواليد النار ونحن من مواليد الانتظار والبکاء علىالديار

صحيح أن لغزة ظروفاً خاصة وتقاليد ثورية خاصة

ولکن سرها ليس لغزا: مقاومتها شعبية متلاحمة تعرف ماذا تريد (تريد طرد العدو من ثيابها)

وعلاقةالمقاومة فيها بالجماهير هی علاقة الجلد بالعظم. وليست علاقة المدرس بالطلبة.

لمتتحول المقاومة فی غزة إلى وظيفة و لم تتحول المقاومة فی غزة إلى مؤسسة

لم تقبلوصاية أحد ولم تعلق مصيرها على توقيع أحد أو بصمة أحد

ولا يهمها کثيراً أن نعرفاسمها وصورتها وفصاحتها لم تصدق أنها مادة إعلامية، لم تتأهب لعدسات التصوير ولمتضع معجون الابتسام على وجهه.

لا هی تريد .. ولا نحن نريد

من هنا تکون غزةتجارة خاسرة للسماسرة ومن هنا تکون کنزاً معنوياً وأخلاقيا لا يقدر لکلالعرب

ومن جمال غزة أن أصواتنا لا تصل إليها لا شيء يشغلها، لا شيء يدير قبضتهاعن وجه العدو، لا أشكال الحکم فی الدولة الفلسطينية التی سننشئها على الجانب الشرقیمن القمر، أو على الجانب الغربی من المريخ حين يتم اکتشافه، إنها منکبة على الرفض .. الجوع والرفض والعطش والرفض التشرد والرفض التعذيب والرفض الحصار والرفض والموتوالرفض.

قد ينتصر الأعداء على غزة (وقد ينتصر البحر الهائج على جزيرة قد يقطعونکل أشجارها)

قد يکسرون عظامها

قد يزرعون الدبابات فی أحشاء أطفالها ونسائهاوقد يرمونها فی البحر أو الرمل أو الدم ولکنها

لن تکررالأكاذيب ولن تقول للغزاة: نعم

وستستمر فی الانفجار

لا هو موت ولا هو انتحارولکنه أسلوب غزة فی إعلان جدارتها بالحياة ...

فاصلة:

وستستمر فیالانفجار

لا هو موت ولا هو انتحار ولکنه أسلوب غزة فی إعلان جدارتها بالحياة.

 


 

 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024