إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

مليارات تدور بين المصارف و"الصيارفة" والتهرب الضريبي والطائرات الخاصة

نبيل المقدم - السفير

نسخة للطباعة 2011-05-30

إقرأ ايضاً


خرائط طريق لعمليات تبييض الأموال.. وسبل مكافحتها في لبنان

بدأت القصة مع موضوع نشرته إحدى وسائل الإعلام وسرّبت خلاله أسماء لأشخاص تم توقيفهم لاحتمال تورطهم في عمليات إرهابية. على الفور أرسل أحد المصارف المحلية بلاغاً إلى هيئة التحقق الخاصة في مصرف لبنان عن عميل، ورد اسمه بين أولئك الأشخاص الموقوفين، كان قد فتح لديه حساباً قبل بضعة أشهر.

لدى التدقيق في حركة الحساب وفي نموذج معرفة العميل، تبين أن المشتبه فيه صرّح انه عامل كهربائي، ومع ذلك تلقى حسابه ودائع نقدية بقيمة مئتي ألف دولار تلتها سحوبات نقدية. على الأثر، قرّرت الهيئة تجميد الحساب المصرفي ورفع السرية المصرفية عنه أمام المراجع القضائية المختصة. ترافق ذلك مع عدم قدرة المشتبه على تبرير مصدر الأموال، مدعياً انه اقترضها من أقرباء له لفتح حساب مصرفي ضروري لتقديم طلب تأشيرة سفر إلى الخارج. أرسلت نتائج التحقيقات إلى المدعي العام التمييزي الذي قرر مقاضاته.

يندرج وضع «المشتبه فيه وحسابه»، مع التعاملات المالية المشابهة والأكثر حدة في كثير من الأحيان، تحت مسمّى عمليات تبييض الأموال التي يعاقب عليها القانون. ويخفي «المجرمون»، كما يطلق على مرتكبي هذا النوع من المخالفات، عبرها المصدر الحقيقي لأموالهم غير الشرعية، ويبحثون عن طرق لإدخالها إلى النظام المالي الوطني الشرعي. وتجري الأمور من خلال ابتكار عمليات تجارية لتبرير وجود كمية نقد كبيرة في حسابات مبيّضي الأموال.

يشرح المستشار في مكتب الانتربول الدولي العميد المتقاعد جورج بستاني لـ «السفير» بعض النتائج الخطيرة المتأتية عن عمليات تبييض الأموال، فهي «بمثابة المادة الأولية لتجار المخدرات والإرهابيين وتجار الأسلحة وغيرهم من أصحاب النشاطات الإجرامية». وكلما جمع المجرمون أموالاً وكرّسوها بأنها «شرعية»، «كان باستطاعتهم تمويل أساليب ومخططات غير شرعية»، وهذا المال «غير الشرعي» يستخدم لإيذاء النظام المالي الوطني، والتأثير على سياسة الاقتصاد العامة. كما أنه ينتج منافسة غير متكافئة مع المستثمرين المحليين والأجانب، ويسهم في خفض قيمة العملة الوطنية.

ولا يخفي بستاني «أن الجرائم المالية تحتاج إلى تحقيقات مكثفة للوصول إلى الرأس المدبر للجريمة، كما أنها تستغرق أيضاً سنوات من العمل لفهم تعقيداتها». ويشير إلى نظرية تقول ان «الأموال القذرة» كلما اجتازت حدوداً ما في مراحل تبييضها، عجزت الشرطة المالية السرية التي تطاردها من النيل منها، بسبب الخلاف على السيادة. ويضلل مبيّضو الأموال المصارف من خلال تجزئة المبالغ الكبيرة إلى إيداعات صغيرة لتفادي القواعد التي تفرض على المصارف الإبلاغ عن العمليات التي تفوق مبالغ العشرة آلاف دولار اميركي.

ولا تقتصر نتائج عمليات تبييض الأموال على النواحي الاقتصادية وحسب، بل «تترك تداعيات اجتماعية مدمّرة»، وفق ما يقول الخبير الأمني العميد المتقاعد فضل ضاهر لـ»السفير». فـ»مرتكبو الجريمة» من أصحاب الياقات البيضاء يتهافتون للقيام بمشروعات خيرية واجتماعية مختلفة بغية حجز مكانة متقدمة لهم في صدارة الصالونات الاجتماعية والسياسية. وتمنح «الوجاهة السياسية والاجتماعية» طبعاً أقصى مساحة من حرية الحركة، وتبعد الشبهات عن أعمالهم. ويلفت العميد ضاهر أيضاً إلى دور المال غير النظيف في «زيادة النزاعات الداخلية وتمويلها بالسلاح»، وهو ما تم لمسه باليد خلال الحرب الأهلية اللبنانية.

وفي سجلات «تبييض الأموال»، قصة أخرى من العمليات الملتوية التي نفذها «بطل» اوسترالي الجنسية. فتح الرجل حسابات في اثني عشر مصرفاً لبنانياً بقيمة تسعة ملايين و440 الف و950 دولاراً اميركياً. ثم وخلال أسبوع واحد من تاريخ فتح الحسابات، عمد إلى سحب معظمها مبقياً على وديعة واحدة بقيمة ثمانين ألف دولار في أحد المصارف. وبعد ورود مراسلات من شركات مالية في الخارج، تبين أن «فاتح الحسابات الشهير» قام بنقل المبالغ عن طريق التزوير والاحتيال من حساب سيدة في اوستراليا إلى حساب شخص آخر في احد المصارف الاسترالية، ومن ثم حوّلها إلى حسابات خاصة في عدد من المصارف اللبنانية.

ونتيجة لتحقيقات الأمن العام اللبناني، تبين أن «المجرم المالي» لم يدخل إلى الأراضي اللبنانية، ولم ينزل في أحد فنادق العاصمة، خلافاً لما تضمنته عقود فتح الحسابات في المصارف اللبنانية التي أودعت فيها الأموال. خارطة طريق شبكة مبيضةيشرح أحد التقارير التي حصلت عليها «السفير»، خارطة طريق إحدى شبكات الإجرام في إخفاء المصدر الحقيقي لأموالها الناتجة عن نشاطها في تهريب المخدرات إلى دول عديدة في أنحاء العالم. بداية هرّبت الشبكة المخدرات من جنوب أميركا (كولومبيا وباناما) إلى أوروبا والشرق الأوسط عبر المرور بغرب أفريقيا. أودعت الأموال الناتجة عن بيع المخدرات في لبنان، ثم نقلت إلى حسابات أساسية في الولايات المتحدة بهدف شراء سيارات مستعملة من وكلاء أميركيين. شحنت السيارات إلى دول «بنين والكونغو» لتنتهي العملية بوضع الأموال الناتجة عن بيع السيارات في مصارف لبنانية. ولإنجاز عمليتها هذه، اعتمدت الشبكة أساليب عدة لتبييض الأموال من بينها تهريب كميات كبيرة من النقد «الكاش»، واستخدام مؤسسات تعمل في مجال الصرافة.

يلفت المحامي مرقص إلى وجود «أزمة ثقة بين المصارف اللبنانية وشركات الصرافة المحلية»، بعد التقرير الأخير الذي تحدث عن ضلوع أحد المصارف اللبنانية في عمليات تبييض أموال. إثر هذه الحادثة، لجأت المصارف إلى إقفال حسابات معظم الصيارفة، أو تشديد إجراءات التعامل معها.

ويدعو مرقص أيضا إلى تشديد المراقبة على حركة الدخول النقدي إلى لبنان، والى وجوب ان يكون التصريح إلزامياً عن الأموال المدخلة أسوة بجميع الدول المتعاونة في مجال مكافحة تبييض الأموال، وان ترسل التصاريح عنها إلى هيئة التحقق الخاصة في مصرف لبنان.

ما يقوله المحامي بول مرقص تعززه بعض الوقائع الموجودة في سجلات المحاكم اللبنانية، ومنها قرار عن محكمة التمييز الجزائية في بيروت بإبرام حكم بمصادرة ثمانين ألف فرنك سويسري كانت سيدة تحاول إدخالها عبر مطار بيروت. فقد تبين، وبعد إخبار من الانتربول، أن المال متأتٍ من اتجار احد اللبنانيين في سويسرا بالمخدرات. ضابط متقاعد في جهاز امني لبناني يتحدث لـ«السفير» عن دور كبير لطائرات خاصة يملكها رجال أعمال وسياسيون لبنانيون وعرب في نقل كميات طائلة من الأموال النقدية إلى لبنان، من دون التصريح عنها للجمارك، ولا معرفة وجهتها وطرق استخدامها.

يلجأ المجرمون إلى وسائل معقدة ومموّهة بشكل متقن لتبييض أموالهم داخل المصارف بحيث يصعب على الأمنيين والعاملين في القطاع المصرفي تتبع مسارها ومن بينها مثلاً «الحصول على قرض من احد المصارف بضمان من الأموال «القذرة» المودعة فيه. وبالتالي يحصل «المبيّضون» عبر القرض على أموال نظيفة، يشترون عبرها ممتلكات في صورة مشروعة تماماً.

ويعمد بعض كبار المهربين وأصحاب التجارة غير المشروعة، بما لهم من سلطة ونفوذ مع أصحاب القرار، إلى إنشاء مصارف جديدة أو يساهمون بالقسط الكبير من رأس المال، فيسيطرون على مجلس الإدارة ويقومون بأعمال تبييض العملة كافة، نظراً للتسهيلات الموجودة. ومع تقدم تقنيات التعامل المصرفي ادخلت بطاقات الدفع الممغنطة إلى حلقة العمليات غير المشروعة. مؤشرات عن «التبييض» وضعت اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الاتجار بالمخدرات والمؤثرات العقلية لائحة من المؤشرات تهدف إلى تحسيس العاملين في القطاع المصرفي والمالي بالمؤشرات التي يمكن ان تفضي إلى الاشتباه بوجود عمليات تبييض أموال منها: سحب الأموال بعد وقت قليل من إيداعها، خصوصاً إذا لم يكن السحب مبرراً بنشاط الزبون الأساسي، والتحريك الفجائي من دون أسباب معقولة، لحسابات جامدة منذ فترة طويلة، وتحويل مبالغ كبيرة إلى الخارج بواسطة مدفوعات نقدية، وتحويل من مصرف إلى آخر من دون ذكر المستفيد.

يرى مدير أحد المصارف أن إعداد لائحة كاملة وشاملة بهذه المؤشرات يتطلب مواكبة مستمرة لتطور الأوضاع وطرق تبييض الأموال ويقول لـ»السفير» إن مؤشراً واحداً أو معاملة واحدة لا يشكلان بمفردهما شرطاً كافياً للاشتباه بوجود عمليات تبييض أموال، وانه يجب ان تتجمع مؤشرات عدة، أو عمليات مريبة، ليكون هناك دليل كافٍ لحصول نشاط من هذا النوع. ويرى ان عمليات تبييض الأموال من الممكن أن تمر بيسر وسهولة لدى المصارف نظراً لافتقاد موظفي المصارف إلى الخبرة الكافية بطرق كشف عمليات تبييض الأموال قياساً إلى الوسائل المتقنة إلتي يستعملها أصحاب الأموال المشبوهة في عملياتهم لدى المؤسسات المصرفية.

تشير بعض الوقائع المتصلة في هذا الموضوع إلى أن بعض مبيضي الأموال في لبنان والخارج يلجأون إلى تمرير عملياتهم غير المشروعة عبر حسابات بعض كبار رجال الأعمال لقاء عمولة معينة.

وفي دراسة منشورة على الموقع الالكتروني للمديرية العامة لقوى الأمن الداخلي، يفصِّل قائد جهاز امن المطار بالوكالة العميد ياسر محمود بعض الأساليب التي تجري فيها عمليات تبييض الأموال خارج الملعب المصرفي. يقول العميد إنه خلافا للاعتقاد السائد فإن معظم عمليات تبييض الأموال تجري بعيداً عن العمليات المصرفية، وفي قطاعات غير مراقبة، وهنا مبعث الخطورة. وعلى سبيل المثال لا الحصر، يتم الأمر عبر شراء سبائك ذهب أو مجوهرات ذات قيمة عالية أو قطع أثرية أو فنية معروفة عالميا أو سيارات فارهة نقداً بعد حسم جزء من ثمنها، أو إنشاء أو شراء المطاعم والكازينوهات والمنتجعات السياحية، وإدارتها بطريقة تظهر أن الأموال المبيضة هي بمثابة أرباح محققة. كذلك الأمر تتم عمليات التبييض عن طريق استعمال شركات البورصة من خلال بيع وهمي لمستندات مسعّرة في البورصة من البائع نفسه، بواسطة إنشاء فريق، يحقق عن طريقها أرباحاً وهمية لإخفاء المصدر الحقيقي غير المشروع. كما تتمّ عمليات تبييض الأموال عن طريق إنشاء المؤسسات الإصلاحية والتعليمية والخدمات الاجتماعية حيث توضع الأموال غير المشروعة فيها على شكل تبرعات وهبات، ثم تعود الأموال إلى أصحابها عن طريق القيام بعمل وهمي. ويلجأ مبيضو الأموال أيضاً إلى شركات السياحة والسفر حيث يقومون بشراء تذاكر سفر، ومن ثم بيعها أو ردها في بلد آخر، بعد حسم جزء بسيط من ثمنها، فيشكل الثمن المرتجع مبرراً لوجود المال.

وتجعل الوسائل السرية التي يتبعها مبيضو الأموال لإخفاء حركتهم من جرائمهم جرائم غير عادية. وانطلاقاً من هذا الواقع، يقول قائد الشرطة القضائية السابق العميد المتقاعد أنور يحيى لـ «السفير» ان العمل على كشف هذا النوع من الجرائم هو في جزء كبير منه عمل استقصائي واستخباراتي لمعرفة مصدر الأموال المشتبه فيها وطرق حركتها». أما الجزء الآخر فأرشيفي وتحقيقي ويستند إلى ما تمتلكه الأجهزة الأمنية في محفوظاتها من معلومات حول الأشخاص المشكو منهم سواء أكانوا أشخاصاً طبيعيين ومعنويين. ويشير يحيى إلى أن ما يعقّد عمليات المتابعة هو استعانة مبيضي الأموال في عملياتهم بأشخاص مهرة في الشؤون القانونية والمصرفية والمعلوماتية وحتى الأمنية، وبأجور طائلة، بغية ضمان تجنب الثغرات التي قد تؤدي إلى كشفهم.


 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024